https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

 

حكيم أَلَادَيْ نجم الدين

جاءت زيارات وزير الخارجية الروسي لإفريقيا لتقوية علاقات موسكو بحلفائها في القارة وتأمين قاعدة دعمها والتحضير للقمة الروسية القادمة. وبالرغم مما يقال عن استفادة موسكو من الموارد الطبيعية لإفريقيا وتحدي النفوذ الغربي؛ إلا أن السياسات الغربية والإخفاقات الفرنسية مهدت الطريق الإفريقي أمام روسيا.

 

زار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، دولة مالي، في 7 فبراير/شباط 2023، حيث التقى بالرئيس الانتقالي، آسيمي غويتا، وناقشا ما يؤثر في مصالح البلدين(1)؛ لتكون زيارته الأولى لدولة مالي وواحدة من سلسلة جولاته الإفريقية منذ يوليو/تموز 2022 عندما زار مصر والكونغو برازفيل وأوغندا وإثيوبيا واجتمع مع قادة الاتحاد الإفريقي. وقد زار أيضًا، في يناير/كانون الثاني 2023، جنوب إفريقيا وإيسواتيني وبوتسوانا وأنغولا، بالإضافة إلى السودان وموريتانيا، في فبراير/شباط، أي بعد مالي(2).

 

وفي حين كشفت تقارير عن وجود زيارات مخططة أخرى لـ”لافروف” إلى دول بشمال إفريقيا في هذا الشهر مما قد يجعل عدد الدول التي زارها 12 دولة إفريقية منذ قرابة 7 أشهر فقط؛ فإن هذه التحركات تعني أن موسكو جاهزة لتنفيذ هجوم دبلوماسي يواكب الديناميكيات السياسية الجدية في منطقة الساحل، وإخفاق إستراتيجيات فرنسا في استعادة السيطرة في جمهورية إفريقيا الوسطى والخطوات الأوروبية والأميركية الأخيرة لمغازلة الزعماء الأفارقة(3).

ما الذي تريده روسيا؟

 

تؤشر زيارات “لافروف” إلى حلفاء روسيا ودول أخرى على مساعي موسكو لتأمين مصالحها وتوسيع نفوذها في مواجهة القوى الأخرى. وهذه المصالح الروسية(4) إذ يسهل تصنيفها قبل بدء الأزمة الروسية-الأوكرانية في المجالات العسكرية الأمنية والطاقة؛ إلا أن تطورات العام الماضي على المستويين، الإقليمي الإفريقي والدولي، جعلتها معقدة ومتشابكة. ويمكن حصر هذه المصالح الروسية في إفريقيا في المجالات والأهداف التالية:

 

أ- ترسيخ التحالف مع النخب الحاكمة

 

من خلال تصريحات “لافروف” عقب زيارته إلى مالي وجنوب إفريقيا وغيرهما؛ يتضح أن روسيا تتحرك نحو تأكيد وقوفها مع قادة هذه الدول، وخاصة أن نموذج التحركات الروسية في إفريقيا قائم في الأساس على التحالف مع النخبة السياسية والقيادة الحاكمة بدلًا من الدولة نفسها أو مؤسساتها(5). لذا تستهدف روسيا في بناء تحالفاتها دعم الرجال “الأقوياء” والقادة الذين لا يحظون بشعبية في دولهم، مثل الرئيس الأفرو-وسطي، “فاوستين أرشينج تواديرا”، أو العسكريين الذين وصلوا إلى سدة الحكم عبر الإطاحة بالحكم المدني الديمقراطي، كالرئيس الانتقالي في مالي، العقيد “أسيمي غويتا”، والآن الرئيس الانتقالي في بوركينا فاسو، “إبراهيم تراوري”.

 

ويوفر هذا النموذج لروسيا فرصة استثمار مكانتها لدى هؤلاء الحكام لتحقيق أجنداتها المحلية والدولية مقابل مساعدتهم في الحفاظ على مناصبهم وكبت ما قد يهدد إدارتهم. وقد أثبتت نتائج السنوات الثلاث الماضية في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والسودان وغيرها فاعلية هذا النموذج؛ إذ سمحت لروسيا بتعزيز أهدافها بأقل تكلفة مالية وسياسية، وهذه الأنظمة الإفريقية بمنزلة قواعد أو معامل اختبار لموسكو لتطبيق إستراتيجيات أخرى لتوسيع نفوذها. ويوفر النموذج الروسي لأنظمة هؤلاء القادة الأفارقة الغطاء الدبلوماسي الدولي المطلوب للتغلب على العقوبات الدولية المفروضة عليها والموارد لتعزيز قبضتها المحلية، إلى جانب المرتزقة والأسلحة والعائدات من صفقات الموارد، حتى وإن كان هذا النموذج يتطلب أيضًا من روسيا وحلفائها الأفارقة البحث عن طرق الحفاظ على السلطة والتقرب من الشعوب الإفريقية عبر تأكيد استعدادها للمساعدة على الحد من الإمبريالية الغربية.

 

ب- تخطي العزلة الغربية وتأمين قاعدة الدعم العالمية

 

لا شك أن ضمن أهداف الزيارات الروسية الأخيرة إلى إفريقيا تخطي العقوبات الغربية المفروضة عليها مؤخرًا، وتقليل تداعيات عزلها بتقوية علاقاتها مع الدول الإفريقية المتعاطفة معها. وقد أدركت موسكو أهمية التقرب إلى القارة بعد التصويت في الأمم المتحدة وحصولها على دعم عدد من الدول الإفريقية(6)؛ وهذا التطور بمنزلة دفعة قوية لروسيا لتعزيز قبضتها الإفريقية وتسخير حلفائها الأفارقة قاعدةَ دعم أساسي في المسرح العالمي، وخاصة أن دول القارة تشكل الكتلة التصويتية الأكبر في الأمم المتحدة.

 

ويدعم ما سبق أنه بالرغم من أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد ضمه القرم إلى بلاده تطلع إلى إفريقيا للتحرر من العزلة الدبلوماسية؛ إذ استضاف في عام 2019 قمة روسيا-إفريقيا في “سوتشي” حيث استضاف 43 قائدًا إفريقيًّا، وقدم موسكو شريكًا رئيسيًّا في قطاع الأمن مع توقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع عشرات الدول منذ ذلك الحين(7). ورغم هذه الاتفاقيات، كان “لافروف” دائمًا ما يكون في أوروبا؛ حيث لم يكن يخوض موجة من المشاركات والزيارات الدبلوماسية إلى القارة الإفريقية إلا بعد فبراير/شباط 2022، أي بعد بدء الحرب الروسية-الأوكرانية التي جعلت موسكو تدرك أن إفريقيا هي قاعدة دعمها الخارجي المستقرة الوحيدة حتى الآن؛ مما جعل زياراته الإفريقية الأخيرة واحدة من مشاركاته الأجنبية القليلة منذ بداية عام 2023.

 

ج- عامل الأمن والموارد الطبيعية

 

تختلف روسيا عن منافسيها الآخرين في إفريقيا، مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين وغيرهما، في أنها لا تملك استثمارات كبيرة في القطاعات المعتادة لدى منافسيها، مثل الاستثمار الاقتصادي المباشر والتجارة وغيرها؛ إذ بدلًا من ذلك تُوجه موسكو اهتماماتها نحو القطاع الأمني عبر وسائل مختلفة، بما في ذلك اتفاقيات الأسلحة والعقود التى أثارت نقاشات وانتقادات. بل كانت معظم التعهدات الروسية خلال زيارات مسؤوليها أو المقربين من موسكو إلى إفريقيا عادة ما تتعلق بالدعم العسكري ومناقشة القضايا الأمنية.

 

وعلى سبيل المثال، تعهد وزير الخارجية الروسي، لافروف، خلال زيارته، في فبراير/شباط، بتقديم دعم عسكري لدول غرب إفريقيا التي تعاني الحركات المسلحة، وكشف أن روسيا سلمت دولة مالي “إمدادات كبيرة من معدات الطيران” خلال الأشهر القليلة الماضية لتعزيز قدرة القوات المحلية على محاربة المسلحين، وأن هناك خطة للتدريب والتعليم العسكري عبر مؤسسات التعليم العالي العسكرية مع توفير إمدادات عسكرية إضافية(8).

 

وتجدر الإشارة إلى أن روسيا أكبر مصدِّر للأسلحة في إفريقيا؛ إذ منذ عام 2015 وقَّعت سلسلة اتفاقيات تعاون عسكري ثنائية مع الدول الإفريقية المختلفة. وتفضل بعض هذه الحكومات الأسلحة الروسية لأنها غير مكلفة نسبيًّا ولعدم بناء موسكو مفاوضاتها على أساس تطبيق الحكم الديمقراطي ومخاوف حقوق الإنسان التي يثيرها منافسون آخرون، مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، عند التعامل مع الحكومات الإفريقية. ومع ذلك، ربطت تقارير مختلفة أنشطة روسيا العسكرية في إفريقيا مع مساعي الوصول إلى المواد الخام والموارد الطبيعية؛ وموسكو في هذا مثل القوى العالمية الكبرى الأخرى التي ترغب في الحصول على السلع الخام من القارة وتطور مشاريع تعاونية واستثمارات(9) للوصول إلى مناطق الموارد التي تشمل الكولتان والكوبالت والذهب والماس والنفط واليورانيوم والمنغنيز.

(Read more)  مفهوم الثورة السياسية وثورات الربيع العربي

 

ويضاف إلى ما سبق أن بعض الأنظمة الإفريقية الضعيفة وغير المستقرة تجلب إلى أراضيها مجموعة “فاغنر” الروسية على أساس المشورة العسكرية لمحاربة المتمردين والمعارضين المسلحين ولمكافحة العمليات الإرهابية، كما أن بعض شخصيات وقادة هذه الأنظمة تعتمد المجموعة لحمايتها والأماكن الحساسة. وتُلاحظ هذه الحالات في دول مثل ليبيا والسودان وموزمبيق وزيمبابوي وجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي(10)، بالإضافة إلى بوركينا فاسو بعد انقلاب “إبراهيم تراوري”، وفقًا لتقارير جديدة(11). بل قدمت مجموعة “فاغنر” المساعدة الأمنية للقوات الحكومية التي تقاتل المسلحين في شمال دولة موزمبيق التي أبرمت اتفاقيات مع روسيا بشأن الموارد المعدنية والطاقة والدفاع قبل شهر من نشر “فاغنر”، في سبتمبر/أيلول 2019(12).

 

وعلى الرغم من أن موقف الغرب هو أن المرتزقة الروس يستغلون الثروات الطبيعية في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والسودان وغيرها لتعزيز أنشطة موسكو في أوكرانيا، وهو ادعاء نفته روسيا ووصفته بأنه “غضب مناهض لروسيا”؛ فإن تصريحات “لافروف” في زياراته الإفريقية الأخيرة تؤكد أن موسكو تتابع تحركات منافسيها في القارة؛ حيث اتهم الغرب -أثناء وجوده في “باماكو” عاصمة مالي- باتباع النهج النيو كولونيالي والمعايير المزدوجة في إفريقيا، وأن رد فعل الدول الغربية السلبي تجاه تطور علاقات موسكو مع القارة يعني أن منافسيها غير معجبين بمبادئ التكافؤ والاحترام المتبادل(13).

 

د- الحد من الهيمنة الغربية

 

يتمثل أحد الأهداف الروسية الرئيسية في الحد من نفوذ الغرب وتقليل هيمنته سواء في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة أو في المنظمات والتعاملات الاقتصادية. ولتحقيق هذه الإستراتيجية تبنَّت موسكو عدة وسائل شملت استمالة قادة الدول الإفريقية إلى جانبها عبر دعم مطالبهم. بل كانت هذه الإستراتيجية محط متابعة المسؤولين الأميركيين منذ عدة سنوات؛ إذ في عام 2018، اتهم مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، روسيا بتزويد دول إفريقية بالأسلحة مقابل تحقيق “دوافع شائنة”(14). ولكن واشنطن نفسها عادت إلى نهج مماثل لجذب القادة الأفارقة إلى جانبها عندما أعلنت في القمة الأميركية الإفريقية الأخيرة التي أقيمت في ديسمبر/كانون الأول الماضي (2022) عن استعدادها لدعم إفريقيا في طلبها للتمثيل الإضافي في مجموعة العشرين ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة(15).

 

ويتماشى هذا الهدف الروسي مع شكاوى الدول الإفريقية من النظام الأمني في الأمم المتحدة الذي يهيمن عليه الاتحاد الأوروبي الأطلسي. وكان من النقاط التي كررها القادة الأفارقة أن الغرب عادة ما لا يحترم سيادة دولهم ودائمًا ما تهددهم بالعقوبات في حال اتخاذهم قرارات سيادية لمصلحة دولهم(16). وتلاحَظ هذه الحقيقة في تصريحات سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، في أوغندا، في أغسطس/آب 2022، عندما حذرت الدول الإفريقية من عدم تجاوز “الخطوط الحمراء” في تعاملها مع روسيا؛ إذ “يمكن للدول شراء المنتجات الزراعية الروسية، بما في ذلك الأسمدة والقمح”، ولكن التعامل معها في واردات النفط والغاز الطبيعي الروسي مرفوض لكونها محظورة من قبل الولايات المتحدة التي فرضت على موسكو عقوبات في مارس/آذار الماضي(17). هذا إلى جانب ما كشفته وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، من أنها ناقشت مع الدول الإفريقية التي زارتها في جولاتها الأخيرة قضية العقوبات على روسيا، وأنها حثت سلطات هذه الدول على الالتزام بهذه العقوبات مهددة برد سريع وحاسم من واشنطن في حال خرقها(18).

 

جدير بالذكر أن رفض الإملاءات الغربية كانت وراء التوتر الجاري بين جنوب إفريقيا والولايات المتحدة؛ إذ قالت بريتوريا إنها تتعرض للابتزاز من قبل واشنطن بسبب أعمالها التجارية مع موسكو، وذلك بعدما استقبلت قاعدة بحرية جنوب إفريقية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي (2022)، سفينة شحن روسية فرضت واشنطن عليها العقوبات. وتطلب السلطات الأميركية من جنوب إفريقيا تقديم تفاصيل الشحنة التي على متن السفينة وتبرير دوافع علاقات البلاد مع الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات(19).

 

هـ- الأنشطة الاقتصادية وقطاعات الطاقة الإفريقية

 

إن جهود موسكو لتجنب العزلة الدولية في أعقاب أزمتها مع أوكرانيا أدت إلى إيلاء الأهمية لعلاقاتها الاقتصادية مع القارة، وقد تمهد زيارات “لافروف” الأخيرة لتقوية هذا المجال؛ إذ المعروف عن روسيا أن نسبة استثماراتها في إفريقيا قليلة، حيث تمثل أقل من 1 في المئة من الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة، كما أن العلاقات الاقتصادية الروسية-الإفريقية في الغالب علاقات تجارية محدودة، بينما صادراتها إلى القارة أعلى بسبعة أضعاف من صادرات القارة إليها والتي تمثل 0.4 في المئة فقط من إجمالي الصادرات الإفريقية وتشكِّل غالبيتها المنتجات الطازجة. وتشمل الصادرات الروسية الأساسية إلى إفريقيا الحبوب والأسلحة والطاقة النووية، كما أن ما يقرب من 70 في المئة من تجارة موسكو مع القارة تتركز في مصر والجزائر والمغرب وجنوب إفريقيا. ويعمل العديد من الشركات الروسية المملوكة للدولة في إفريقيا، إلى جانب خطط لتطوير الطاقة النووية مع دول مثل مصر وغانا وكينيا وزامبيا ورواندا ونيجيريا وإثيوبيا(20).

 

ويضاف إلى ما سبق أن روسيا تسعى نحو إنشاء مسارات جديدة لإمدادات الطاقة في إفريقيا عبر شركات النفط والغاز المملوكة للدول الإفريقية. وعلى سبيل المثال: أعلنت شركة “Oranto Petroleum” النيجيرية المعنية بالتنقيب عن النفط والغاز، في عام 2018، عن تعاونها مع “روسنفت” -أكبر شركة منتجة للنفط في روسيا- لتطوير 21 أصلًا نفطيًّا عبر 17 دولة إفريقية(21). واستثمرت الشركات الروسية في صناعات النفط والغاز الجزائرية والليبية والنيجيرية والغانية والعاجية والمصرية. وهناك تقارير عن رغبة موسكو في بعض المشاريع الطموحة المقترحة في القارة، مثل خط أنابيب الغاز النيجيري-المغربي(22).

(Read more)  الأثار المحتملة للتغيرات المناخية على القارة الأفريقية

التمدد الروسي في مواجهة فرنسا

 

تعهد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في عام 2017، أثناء حملته الانتخابية بنهج جديد تجاه إفريقيا، شمل تراجع تدخل بلاده واعتبار دول القارة شركاء إستراتيجيين وتطوير العلاقات معهم على أساس المساواة. ولكن فرنسا فشلت في الوفاء بهذه التعهدات وأخفقت في مهامها العسكرية لمكافحة الإرهاب؛ الأمر الذي عزز استياء المستعمرات الفرنسية السابقة ودفعها للتعبير عن عدم رضاها من خلال التحركات المناهضة لفرنسا ومحاولات الانقلاب على الحكومات الموالية لها. وتُلاحَظ تداعيات فشل فرنسا في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، وفي بوركينا فاسو التي شهدت انقلابين عسكريين خلال عام آخرهما في 30 سبتمبر/أيلول 2022 عندما أطاح “إبراهيم تراوري” بسلفه الزعيم العسكري، الرئيس “بول هنري داميبا”، وأتبع ذلك بقطع علاقات بوركينا فاسو الدبلوماسية مع باريس، وأنهى اتفاق 2018 العسكري مع فرنسا طالبًا من القوات الفرنسية مغادرة البلاد(23).

 

وفي حين أن الإخفاقات الفرنسية أعطت موسكو ميزة من حيث الوجود والانتشار العسكري في إفريقيا، فإن الأهداف الروسية وإستراتيجياتها سابقة الذكر تُظهر أن إفريقيا -بالنسبة لروسيا- ليست سوى وسيلة لتحقيق أهداف جيوسياسية أكبر؛ أي إن القارة ليست وجهة أو هدفًا في حد ذاتها. وهذا يبرر ضآلة الأنشطة الاقتصادية الروسية مع إفريقيا لأن دوافعها هي إشراك حلفائها الأفارقة لتأمين موطئ قدم في موارد ثمينة ومواقع جيوستراتيجية، وهو ما يمكِّنها من إزاحة النفوذ الغربي وتطبيع رؤيتها للعالم. ولذلك ركزت روسيا على حلفاء إستراتيجيين مثل ليبيا والسودان وأنغولا ومالي وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى وإثيوبيا ونيجيريا والسنغال وجمهورية الكونغو الديمقراطية والغابون وغيرها من الدول المؤثرة في خليج غينيا. وتؤشر تصريحات “لافروف” في زياراته الأخيرة إلى أن موسكو ترغب في تعزيز علاقاتها مع سلطات جنوب إفريقيا التي كانت معها في كتلة البريكس (التي تضم أيضًا البرازيل والهند والصين)، ورفضت الانحياز إلى الموقف الغربي في الصراع الأوكراني-الروسي.

 

ومع ذلك، فإن المزاعم الأخيرة عن محاولة الإطاحة بالسلطة في تشاد(24) وجمهورية إفريقيا الوسطى وتطورات المناطق الحدودية بينهما(25)؛ تشير إلى أن المعرفة التاريخية لفرنسا ووجودها الطويل في القارة يتيحان لها نوافذ لتنفيذ إستراتيجيات جديدة بالتعاون مع شركاء قادرين على تعزيز عودتها في معاقلها السابقة. وفي حين يبدو في الوقت الحالي أن فرنسا خسرت مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو؛ إلا أنها لا تزال تحافظ على علاقات قوية مع دول مجاورة وقريبة، مثل النيجر وتشاد وتوغو ودول أخرى في غرب إفريقيا، إلى جانب مساعي تحسين علاقاتها مع دول إستراتيجية أخرى مثل المغرب والجزائر.

 

ويضاف إلى ما سبق أن فرنسا لا تزال تحتفظ بمواقع عسكرية في مناطق حساسة مختلفة في القارة، كما أنها تواصل عملياتها العسكرية في جيبوتي وساحل العاج وتشاد، بالإضافة إلى أن عناصرها وقاعدتها في السنغال والغابون تقدم الدعم الأمني للحكومات المضيفة والمجاورة. وهناك محطات بحرية فرنسية في جزيرة ريونيون ومايوت، إلى جانب عملية “كوريمبي” (CORYMBE) شبه الدائمة للقوات الفرنسية في خليج غينيا. وقد مكَّن وجود هذه القواعد والعمليات من نقل القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو ونشرها في مهام عسكرية أخرى.

في سياق القمة الروسية-الإفريقية الثانية

 

كانت جولات “لافروف” الإفريقية أيضًا بمنزلة تحضير لقمتين قادمتين: الأولى: قمة روسيا-إفريقيا الثانية التي ستُعقد في يوليو/تموز القادم (2023) في سانت بطرسبرغ، ثاني أكبر مدينة في روسيا، والثانية: قمة البريكس الخامسة عشرة(26) التي ستُجرى في مدينة “ديربان” بجنوب إفريقيا، في أغسطس/آب من هذا العام. وهما حدثان مهمان لموسكو بعد تعهدات واشنطن الأخيرة في القمة الأميركية مع القادة الأفارقة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي دعت إليها العديد من قادة الدول الإفريقية باستثناء الدول الخمس التي اتهمتها واشنطن بانتهاكات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو وإريتريا وصوماليلاند(27).

 

وقد يكون لقمة روسيا-إفريقيا القادمة ميزة على قمة واشنطن؛ حيث المرجح أن يشارك فيها معظم القادة والمسؤولين الأفارقة بغض النظر عن حالات دولهم الديمقراطية والحقوقية، ودون اعتبار ما إذا كانوا قادة لانقلابات أم لا. هذا إلى جانب أن عددًا من المسؤولين الأفارقة الذين حضروا قمة واشنطن شككوا في وعود الولايات المتحدة الأميركة، وظهرت مؤشرات بعد أسابيع قليلة فقط من القمة على أن بعض المبادرات الجديدة التي اقترحتها واشنطن كانت في الواقع تستند إلى ما اشتكت منه الدول الإفريقية، مثل تهديدهم وإجبارهم على الانحياز للغرب أو وجوب تبني أفكار سياسية وأخلاقية معينة(28).

 

ويُتوقع من القمة الروسية-الإفريقية أن تناقش مواضيع ذات أبعاد إستراتيجية، بما في ذلك مواجهة الإستراتيجيات الفرنسية والأوروبية والأميركية الجديدة. وقد صرح الرئيس الروسي، بوتين، أن جزءًا كبيرًا من القمة سيناقش كيف يمكن لروسيا وإفريقيا تخطي العقوبات الأميركية المفروضة على موسكو من خلال إيجاد آليات جديدة لأدوات الاستثمار والتجارة وسلاسل التوريد بينها والدول الإفريقية، إلى جانب النظر في التسويات بالعملات الوطنية بدلًا من الدولار الأميركي(29).

 

وفي حين أن حلفاء روسيا المقربين هم فقط من سيكونون مستعدين للتعاون معها في تطوير أنظمة جديدة للتحايل على العقوبات الأميركية والأوروبية؛ حيث ستحاول بعض الدول تفادي خرق هذه “الخطوط الحمراء” الأميركية. ومع ذلك؛ ستكون معظم دول القارة على استعداد للمشاركة في فكرة التعاملات التجارية والتسويات بعملاتهم الوطنية بدلًا من العملات الغربية، بل كانت الفكرة محل ترحيب لدى سلطات جنوب إفريقيا التي كررت مرارًا حاجة الدول الإفريقية لبدائل نتيجة الآثار السلبية لهيمنة الدولار أو اليورو التي تمنح امتيازًا للدول الغنية وتشكل تحديًا لدول الجنوب العالمي، بما في ذلك الدول الإفريقية. وهناك خطة مشابهة جارية التطبيق في دول كتلة البريكس؛ حيث بدأت الكتلة منحَ قروض من “بنك التنمية الجديد” وإجراء التجارة بالعملات الخاصة لدولها.

(Read more)  ذكرىّ الثورة التحريرية الجزائرية نبراسًا وطنيًا خالد

خاتمة

 

من خلال العرض السابق للأهداف والمصالح الروسية، اتضح أن زيارات وزير الخارجية الروسي إلى إفريقيا كانت لتقوية علاقات موسكو مع حلفائها في القارة وتأمين قاعدة دعمها والتحضير للقمة الروسية القادمة. وبالرغم مما يقال عن استفادة موسكو من الموارد الطبيعية لإفريقيا وتحدي النفوذ الغربي؛ إلا أن السياسات الغربية والإخفاقات الفرنسية مهدت الطريق أمام روسيا بين الدول الإفريقية غير الراضية بباريس والغرب.

 

وبالرغم من الانتقادات الموجهة لأنشطة مجموعة “فاغنر” في إفريقيا وآثارها على الحكم الرشيد وسيادة القانون والمنظمات المدنية والآليات الديمقراطية؛ إلا أن المرجح أن تعزز موسكو وجودها في القارة وترسخ علاقاتها مع قادة دول إفريقية أخرى. ويمكن القول في حالة جنوب إفريقيا: إن التهديدات الغربية والأميركية بالعواقب للحكومات الإفريقية التي تتعامل مع روسيا لن تكون سوى دفعة للدول الإفريقية نحو روسيا، وقد يستثمر الرئيس “بوتين” هذه التهديدات في القمة القادمة لإقناع قادة دول القارة بقبول بدائله للهيمنة الغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 + ثمانية =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube