اليوم، قد يكون التاريخ يعيد نفسه، إذ كشفت حرب جورجيا عن نية روسيا استعمال القوة لتنفيذ أهدافها، وبيّن انتخاب رئيس موالٍ لروسيا في أوكرانيا على تحوّل التوجه السياسي في كييف من الحزب البرتقالي إلى الحزب الأحمر. تشدد الزيارة المفاجئة التي قام بها الدبلوماسي الأميركي المخضرم ريتشارد هولبروك إلى جورجيا قبل أيام- على ما يبدو لمناقشة اعتماد جورجيا كطريق لتزويد جبهة الحرب في أفغانستان بالمعدات اللازمة- على حدوث تطور مقلق جديد في العلاقات الأميركية الروسية، وفضلاً عن الانقسام القديم بين الشرق والغرب، يبدو أنّ معركة جديدة آخذة في التشكل والنشوء: تتعلق هذه المعركة ببسط النفوذ على منطقة البحر الأسود، وما تحته. في معظم فترات الحرب الباردة، كان البحر الأسود واقعاً تحت سيطرة السوفييت، أي الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية على الساحل الشرقي، في جورجيا وأوكرانيا وروسيا، بالإضافة إلى أعضاء حلف وارسو، رومانيا وبلغاريا في الجهة الغربية، علماً أن تركيا وضعت موقعها الجغرافي المهم في عمق البحر الأسود في خدمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). مع دخول رومانيا وبلغاريا إلى حلف شمال الأطلسي عام 2004، ومع نشوء ‘الثورات الملونة’ في جورجيا وأوكرانيا، أصبح الاحتمال الذي تعزز في عامي 2004 و2005 بأن تقوم جميع البلدان الواقعة على البحر الأسود بإنقاذ روسيا مستقبلاً في يد بلدان حلف شمال الأطلسي. بدا وكأن مفهوم البحر الأسود باعتباره ‘البحيرة الروسية’- وهو وصف امتد من عهد الملكة كاثرين العظمى حتى انتهاء أيام الحرب الباردة- يوشك أن يصبح في طي النسيان. اليوم، قد يكون التاريخ يعيد نفسه، إذ كشفت حرب جورجيا عن نية روسيا استعمال القوة لتنفيذ أهدافها، وبيّن انتخاب رئيس موالٍ لروسيا في أوكرانيا على تحوّل التوجه السياسي في كييف من الحزب البرتقالي إلى الحزب الأحمر. كانت التطورات التي حصلت على الساحل الغربي للبحر الأسود مهمة أيضاً، وفي أوائل هذا الشهر- حين كانت موسكو تأمل في أن يكون إحباط خطة الدفاع ضد الصواريخ الباليستية المعتمدة في عهد بوش، في سبتمبر 2009، في بولندا ودولة التشيك، مؤشراً على انفصال الولايات المتحدة عن أوروبا الشرقية- أصدرت الولايات المتحدة إعلاناً مفاجئاً حين رحبت بمشاركة رومانيا ضمن نظام الدفاع المتجدد ضد الصواريخ الباليستية في إدارة إوباما. بعد الإعلان الأميركي الروماني مباشرةً، سرت إشاعات عن زيادة عناصر نظام الدفاع ضد الصواريخ الباليستية في بلغاريا وتركيا، على شكل حضور ميداني من شأنه الحد من التورط الأميركي في المنطقة في المستقبل غير المنظور، فضلاً عن كون تلك المنطقة موقعاً مناسباً لسد أي تهديد صاروخي. في الواقع، وفي مفارقة كبرى مع خطة بوش، قد يصبح البحر الأسود بحدّ ذاته مصدر خطر على خطة أوباما الدفاعية: ذكر تقرير صدر عام 2009 عن خدمة أبحاث الكونغرس أن المدمرات البحرية والسفن الحربية المسلحة بالطائرات الاعتراضية قد تستلزم نشر العناصر، لا على البحر المتوسط الشرقي فحسب بل على البحر الأسود أيضاً. يبقى احتمال حصول ذلك نظرياً: في الصيف الماضي، قامت المدمرات الأميركية ومدمرات الدفاع ضد الصواريخ الباليستية، بالمرور بكونستانتا، ورومانيا، وفارنا، وبلغاريا، والموانئ الجورجية باتومي وبوتي. ولا ننسى الخطوة التي أقدمت عليها البحرية الروسية التي عقدت حديثاً صفقة لشراء سفينة إنزال برمائية من فرنسا (على الرغم من عضوية فرنسا في حلف شمال الأطلسي)، كانت ستمكّن روسيا من الفوز بالحرب على جورجيا في غضون ’45 دقيقة’، بحسب أميرال روسي خبير. بعد أيام من حصول ذلك، بثّت وسائل الإعلام الروسية تقريراً من منطقة ترانسدنيستر الموالية لروسيا- وهي جزء من مولدوفا التزمت لتوها بجولة جديدة من التحاور مع رومانيا- يشير إلى أنها ستُسَرّ باستضافة صواريخ اسكندر الروسية لمواجهة خطر النظام الدفاعي ضد الصواريخ الباليستية الذي تلوّح به الولايات المتحدة. لم يصدر أي موقف بعد عما إذا كانت ‘الدمى’ التي تحرّكها موسكو، جنوب أوسيتيا أو أبخازيا، ستقوم بالمثل. وكأنّ جميع هذه النشاطات الصاروخية لا تكفي! يوجد بُعد اقتصادي لصراع البحر الأسود أيضاً الذي يقع ضمن خط أنابيب ‘ساوث ستريم’ الروسي لنقل الغاز الطبيعي الروسي غرباً حتى النمسا وإيطاليا، وهو بحد ذاته وسيلة لمواجهة خط أنابيب نابوكو المثير للجدل والذي يُعتبَر طريقة تدعمها الغرب لتقليص السيطرة الروسية على الموارد. أضف إلى ذلك الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية عام 2009 بشأن الخلاف الحدودي على البحر الأسود، الذي يعترف بسيادة رومانيا في رقعة من حوض البحر الأسود (كانت أوكرانيا الأكثر رضوخاً للضغط الروسي الخاسر الأكبر)، ما يضع استغلال حقول النفط والغاز تحت الماء بين أيدي دول حلف شمال الأطلسي، وبالنسبة إلى روسيا الغنية بالموارد، لم تكن مكاسب رومانيا منافسة مرحّب بها، لا بسبب إيرادات الطاقة المفقودة، بل بسبب تراجع القدرة الروسية على استعمال طاقتها ضد أوروبا، ومن المتوقع أن نشهد لعبة روسية تعمد فيها روسيا إلى قطع الموارد عن هذه الأطراف وتستهدف الشركات الأوروبية والأميركية الشمالية التي قد تؤمّن مصدراً بديلاً للطاقة في أوروبا الوسطى وأبعد من ذلك. مع بروز تحديات كثيرة أخرى، هل الولايات المتحدة مستعدة فعلاً لمواجهة احتمال نشوب حرب في جنوب شرقي أوروبا ما بعد حقبة الحرب الباردة؟ وفقاً للتفكير التقليدي، لا يملك الرئيس أوباما- الذي امتنع عن حضور قمة الاتحاد الأوروبي في مدريد، في شهر مايو، ويواجه عدداً كبيراً من الأزمات المحلية والدولية- مجالاً كبيراً للاهتمام بمكائد مماثلة. لكن هذا ‘التفويض‘ الرئاسي يترك السياسة الأميركية في أوروبا في يد عضوين من حكومة أوباما– وزير الدفاع الجمهوري روبرت غيتس ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون- وهما يشكلان معاً امتداداً لعهد بوش الأب، مروراً بسنوات كلينتون، وصولاً إلى عهد بوش الابن، وهي فترة بيّنت خلالها السياسة الأميركية عن تقدير منطقي– من جهة الحزبين- لقيمة حرية واستقلال أوروبا. بناءً على الاجتماع الذي عقده هولبروك في جورجيا (بغض النظر عن قدرة تبيليسي على مدّ خط أنابيب من الجهة المعاكسة لبحر قزوين وصولاً إلى قوات حلف شمال الأطلسي المتزايدة في أفغانستان) والاتفاقات المبنية على نظام الدفاع ضد الصواريخ الباليستية، تعطي هذه المقاربة السياسية الرئاسية بعض المؤشرات على احتمال إعطاء روسيا ما تتمناه من حرية مطلقة في المنطقة. راهناً، تمتد خطوط الأنابيب في قاع البحر، وتنتشر قواعد استخراج النفط على طول السواحل، وتتجول السفن الحربية والمدمرات الأميركية التي تحمل الصواريخ الدفاعية على سطح الماء وتزور الموانئ الاستراتيجية، في حين يتمركز البحارة الروس في ميناء سيفاستوبول: مع انتهاء هذا العقد، يوشك البحر الأسود على التحول إلى منطقة مكتظّة. ستوفّر هذه العوامل كلها فرصاً كثيرة لتلاقي القوى المتنافسة والمصالح المتضاربة، على المستويين العسكري والاقتصادي في آن. منذ 65 عاماً، في منتجع يالطا على البحر الأسود، شهدت القوى العظمى العالمية انتهاء حرب لكنها كانت تزرع بذور حرب أخرى تزامناً مع ذلك، واليوم، ها هو البحر الأسود يعود ليصبح ساحة لجولة جديدة من الانقسامات بين الشرق والغرب. *دانيال ماك غرارتي – رئيس مجموعة كارمو الاستراتيجية وخبير في البيت الأبيض وفي وزارة الدفاع الاميركية.نوفوستي |