https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف: مارتن ويت

صدر الكتاب عن المركز العربي للابحاث
أصلُ كتاب سياسة القوة هو كتيبٌ من ثمانٍ وستين صفحة لمارتن وايت، نشرته الجمعية الملكية للشؤون الدولية Royal Institute of International Affairs, RIIAفي عام 1946، وهو إحدى كرّاساته المنشورة بعنوان التطلع إلى الأمام Looking Forward، فأحدث تأثيرًا بارزًا في طلاب العلاقات الدولية وباحثيها لأجيال؛ ما دفع مؤلفها إلى الشروع في محاولةٍ لم تكتمل لتطويرها، فقد وافته المنية قبيل استكمال ذلك، فتسلّم المهمة تلميذاه بُل وهولبراد، فعملا على تنقيح فصول المسوّدة التي خلَّفها وايت، وأضافا إليها فصولًا، كفصل الكتاب الثالث عشر المعنون “الحرب”، وهو نسخة مع تغييرات تحريرية طفيفة لمحاضرة قدّمها المؤلف في البرنامج الثالث لهيئة الإذاعة البريطانية BBC في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1955، وكانت بعنوان “الحرب والسياسة الدولية”، والفصل العشرين المعنون “هيئة الأمم المتحدة”، الذي اشتمل على مسوّدة المؤلف ومقتطفات محرَّرة من محاضرة ألقاها عام 1956 في معهد الشؤون العالمية Institute of World Affairs في باسادينا بكاليفورنيا، وكانت بعنوان “صراع القوة في داخل هيئة الأمم المتحدة”، وغيرهما، وصدرت جميعها في عام 1978 في النسخة الإنكليزية من الكتاب الذي بين أيدينا بالعنوان نفسه الذي وضعه وايت، فلقي ردّ فعل منقطع النظير من القراء، ورواجًا كبيرًا، ونفادًا سريعًا من الأسواق، وأصبح منذ ذلك الحين نصًّا رئيسًا لدى طلاب الدرجة الجامعية الأولى وطلاب الدراسات العليا على حدٍّ سواء. تضم هذه النسخة الجديدة، إضافة إلى مسوّدات وايت، مناقشة المحررَين، وهما من أبرز مُنظِّري العلاقات الدولية، مضمونَ الكتاب وطروحاته ومشكلاته، وذلك في مقدمتهما الغنية.
أهمية الكتاب للقرّاء العرب

إن أهمَّ ما يقدّمه الكتاب للقرّاء العرب المهتمين بالسياسة الدولية، طلابًا وباحثين، تعريفهم بالمنحى السياسي للكاتب وايت، فمع ما يوحيه عنوان سياسة القوة للوهلة الأولى من انتمائه إلى المدرسة الواقعية في حقل العلاقات الدولية، إلا أن الحقيقة أن الكاتب لم يكن يصف نفسه بالواقعي، بالرغم مما كان يُكنّه من إعجاب بالواقعي البريطاني إدوارد كار Eduard Carrوكتابه المرجعي أزمة الأعوام العشرين The Twenty Years’ Crisis، كما لم يكن يقدِّم مواقفه بديلًا من الطوباوية السياسية التي تطورت لاحقًا إلى الليبرالية، إضافة إلى عدم لجوئه كثيرًا إلى التحليل الماركسي، ومن ثم فهو لم يكن حبيس أيٍّ من زوايا النقاش البين-بردايمي Inter-paradigm debate لرواية تاريخ العلاقات الدولية السائدة الذي انتظمت حوله نظريات الواقعية والليبرالية والماركسية، فخرج كتابه هذا مختلفًا عن الأعمال الواقعية في عصره، ككتب السياسة بين الأممPolitics Among Nations لـ هانز مورغنتاو Hans Morgenthau؛ والدبلوماسية الأميركيةAmerican Diplomacy لـ جورج كينان George Kennan؛ وكتاب إدوارد كار السالف الذكر وغيرها، وبات يصنَّف ضمن ما عُرف وقتها بـ “المدرسة الإنكليزية”، التي غايرت التيار الواقعي وعُرفت بالتزام المسائل التاريخية المعيارية، كالدفاع عن فضائل التاريخ والقانون والفلسفة … وغيرها، والتي خاض روّادها (أمثال وايت وبُل وجون فينسنت John Vincent الذين صُنّفوا ضمن “التقليديين”Traditionalists ) النقاشات الكبرى Great Debates مع السلوكيين/ العلمويينBehavioralists/ Scienticists ، خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية. وأسفرت هذه النقاشات لاحقًا عن مقاربة الواقعيين اللاتاريخية للنظام الدولي انطلاقًا من الأدوات المنهجية للثورة السلوكية، في مقابل مقاربة المجتمع الدولي الاجتماعية الرافضة تجريد الحقل من التأملات التاريخية المعيارية؛ ما يضيف إلى نقاشهم النظري المنهجي جانبًا إبستيمولوجيًّا. أما الحقبة التي أعقبت نقاشهم فهيمنت عليها الوضعية Positivism، وأُسكت صوت المدرسة الإنكليزية اللاوضعية، لحمل أكثر الباحثين آنذاك لواء الثورة السلوكية. وقد تأكدت حجتهم اليوم ببروز تحديات لتفسير الواقعية تغيُّرَ بنية النظام الدولي، ودعوتها لتطبيق مقاربة نظمية Systemicلاتاريخية Ahistoricعلى هذا النظام بغض النظر عن بعده التاريخي المتعلق بنظام “المدينة-الدولة”، أو النظام الأوروبي في القرون الوسطى، أو النظام الدولي خلال الحرب الباردة، كالمقايسة، مثلًا، التي يجريها الواقعيون بين صعود أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد وصعود الصين في القرن الحادي والعشرين، وبين نظام “المدينة – الدولة” آنذاك والنظام الدولي المعقد اليوم، أو حتى بين صعود الصين وصعود ألمانيا، متجاهلين حساسية الديناميات الدولية للتغير.

كانت المدرسة الإنكليزية “الإبستيمولوجية” سبّاقة إلى نقد منطق الفوضى Anarchyوغياب الإحساس بهوية مشتركة بين الدول، وأعادت النظر في فهم الواقعيين “حتمية” المعضلة الأمنية في ظل فوضوية النظام الدولي، كما شددت على إمكان تجاوز الدول حالة “النظام الدولي” إلى “المجتمع الدولي”، فسبقت بذلك المفهوم المعاصر الذي كرّسه روبرت كوكس Robert Cox وريتشارد آشلي Richard Ashley وألكسندر ونت Alexander Wendt، القاضي بأن بنية النظام الدولي ليست معطًى مسبقًا بل هي بناء تاريخي، تُبنَى ويعاد بناؤها، فتكون صنوًا لفكرة البناء الاجتماعي للبنية في المدرسة البنائية في حقل العلاقات الدولية.

انعكس إهمال الغرب المدرسة الإنكليزية ندرةً في ما ينشره الباحثون العرب في جامعاتهم أو يترجمونه، لكن تشهد هذه المدرسة منذ نهاية القرن العشرين ازدهارًا، ولم يعد الاهتمام المتزايد بها يقتصر على الباحثين الأوروبيين والأميركيين والكنديين والأستراليين، بل تعدّاهم إلى الجامعات الصينية والهندية وغيرها.
إضافات بُل وهولبراد وصعوباتها

نبّه محرِّرا سياسة القوة في مقدمتهما قرّاءَ الطبعة الجديدة إلى ضرورة الرجوع مع شروعهم في قراءتها إلى مصادر أخرى؛ إذ إن هناك قضايا لا تتناولها ومسائل لا تجيب عنها، بالرغم من كونها مرجعيةً ثابتة لهم، والأهم تركيز الكتاب على أنماط الاستمرارية لا التغير؛ ما يجدد قيمته المعرفية مع تحولات شهدتها أو قد تشهدها بنية النظام الدولي. ولم يكن القصد منه أن يكون دليلًا على أحداث العالم المعاصر، مع أن بعض فصوله (“هيئة الأمم المتحدة” و”سباق التسلح” و”الحد من التسلح” تحديدًا) تقدِّم وصفًا تحليليًّا لتطوراتٍ حديثة العهد. ولرغبة المحررَين في التقيد بمبدأ الامتناع عن ضمّ أيِّ شيء لم يكتبه المؤلف إلى النص، فقد أضافا ملاحظات تحريرية في نهاية الفصول المعنية، ونقّحا المخطوطات التي خلّفها وايت، لكن موت بُل خلال العمل في عام 1985 حمّل هولبراد مسؤولية متابعة عملية التحديث، فقام به خيرَ قيام.

وقد تمثلت الصعوبة البالغة خلال عمل المحررَين في ضرورة احترام معايير وايت العالية التي أرادها ولم ينفذها بسبب وفاته، فالفصول كانت مسوَّدات، وأجزاء الكتاب دُوِّنت في أوقات مختلفة، وهو خلل خطير أمام تشديد المؤلف على عناصر الاستمرار لا التغيّر في العلاقات الدولية، كإشارته، على سبيل المثال، إلى كلاسيكية الكتابات السياسية الإغريقية بسبب استمرار الأجيال بعدها باختبار أهميتها، وسعيه إلى رسم ملامح دائمة لخريطة السياسة الدولية (القوى المهيمنة، القوى الكبرى، الثورات الدولية، الفوضى الدولية، توازن القوى، الحرب، التدخل … وغيرها)، وكواقعيته الحادّة والمستغرقة في إنسانيتها في عرض وجهة نظره، إجلالًا للحقيقة وثمرةً للاهتمام والتساؤل الأخلاقيين المتّقدين لديه.

اشتملت النسخة الأولى من الكتاب على خمسة عشر فصلًا، نقَّح المحرران ثلاثة عشر منها ما عدا واحدًا (هو الأخير المعنون “ما بعد سياسة القوة”)، وزادا عشرة فصول جديدة كليًّا، فصدرت النسخة الثانية بأربعة وعشرين فصلًا، أما الفصل الثالث عشر الذي لم يكن سوى مسوّدة مجزّأة، فاستبدل المحرران به نسخةً من حديث المؤلف إلى BBC.
فروقات بين نسختَي 1946 و1978

نظرًا إلى الفارق الزمني الكبير نسبيًّا بين النسختين (32 سنة) وما حدث فيه من تغييرات سياسية وعسكرية وأنماط دراسية أكاديمية، تُفرِد النسخة الجديدة حيزًا للمُناظرة الدائرة حول تأثير التكنولوجيا العسكرية في السياسة الدولية (سباق التسلح، نزع السلاح، الحد من التسلح) مع تعديل مقالة النسخة الأصلية عن الصراع بين الدول لاشتمالها على فصول عن مؤسسات المجتمع الدولي المكلّفة بالتعاون بين الدول، كما أن ثمة فصلًا في النسخة الجديدة عن الثورات الدولية يبحث في الصراع والتعاون “الأفقي” أو عبر القومي، كما يستبدل النص الحالي فصلًا عن القوى الثانوية (المتوسطة والصغيرة) بالأصلي عن القوى الصغرى.
أسلوب جامد: أمارة ضعف أم قوة؟

ربما كان مفيدًا أن نشير إلى نقاط لافتة في أسلوب وايت، فقد لوحظ في النسخة الجديدة من كتابه ضآلة اختلافها عن الأصلية في الأسلوب والمضمون، بالرغم من مرور مدة زمنية حافلة بالأحداث العظيمة والكتابات الأكاديمية حولها، وقدرها 26 سنة بين النسخة الأولى ووفاة المؤلف، و32 سنة بين النسختَين (تصاعُد الحرب الباردة وانحدارها، انتشار الأسلحة النووية، انحلال إمبراطوريات أوروبية، انبثاق العالم الثالث … إلخ)؛ ما كان كفيلًا بدعوة المؤلف إلى تقديم إيضاحات حولها، لكننا لاحظنا أن شواغله الأساسية بقيت كما هي، ولم يعِرْ أي اهتمام لكتابات السلوكيين والمحللين الاستراتيجيين، فهل يُعتبَر هذا التصلب في وجه التغير ضعفًا في تحليل الكتاب أم مصدر قوة؟ وإلى أيِّ مدى؟

في الجواب، وبمقارنة كتاب سياسة القوة الجديد بالدراسات التمهيدية الغربية في العلاقات الدولية اليوم، نجد خمس نواحٍ عميقة الوضوح ولا تساير النمط الدارج في الوقت نفسه:

أولًا: إن منظور الكتاب الرئيس يتصف بمركزية أوروبية على غرار النسخة القديمة، مع ملاحظة الكاتب بلوغ اليابان مرتبة الدولة الكبرى، وظهور نظام هيمنة دولي، ما عاد أوروبيًّا، ولكن يمارَس بفاعلية من مصادر خارج أوروبا، وصعود دول استعمارية سابقة … إلخ. كما يقبل وايت المقدمات المنطقية القيمية التي تقوم عليها السياسات الغربية ولا يأخذ بجدية دعاوى دول العالم الثالث بعدالة صراعها ضد الهيمنة و”سياسة القوة” ضمن منظومة الدول التي أغلب أعضائها غير غربيين، وهي مسألة مركزية، فمعايير مؤسسات المجتمع الدولي طورتها الدول الغربية فقط لخدمة أهدافها الغربية، ولم يكن للدول الأعضاء من آسيا وأفريقيا وأوقيانوسيا أي مساهمة فيها، فكيف تُلزَم بها في وقت يكرس وجودُها انتصار المفاهيم الأوروبية أو الغربية المتعلقة بالتنظيم السياسي العالمي.

ثانيًا: يعرض كتاب سياسة القوة الجديد، كالقديم، السياسة العالمية بوصفها علاقات بين قوى أو دول في مظهرها الخارجي، بخلاف معظم الدراسات التي تؤكد تقاسم الدول مسرح السياسة، وأن علاقاتها “عبر-القومية” ليست أقل مركزية من العلاقات الدولية. كما أن تصديق زعم المؤلف بأن ولاء الإنسان المعاصر هو للدولة أكثر من أيّ رابطة أخرى يحتاج إلى تحقيقات حول عدم لجوء الجماعات القومية أو العرقية في العالم إلى بؤر ولاء بديلة. وفي حين يُعرِض الكاتب عن مناقشة دور الجهات غير الحكومية، يسود كتابَه كلَّه القولُ بـ “تصادفية” منظومة الدول، وأنها شكل استثنائيّ من التنظيم السياسي العالمي، وأن طبيعية وجودها وهم. أما الثورات الدولية، فيلاحظ وايت أن حركة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية والثورة الروسية سلطت الضوء على وحدة في المجتمع البشري، كما خلقت فيه انقسامات تدحض الافتراضَ بأن فترات سيادتها خلال الثورات استثنائية أو شاذة.

ثالثًا: إن كتاب سياسة القوة الجديد يشبه الأصلي في تناوله العلاقات السياسية بين الدول، لكنه لا يذكر من الملامح الاقتصادية العالمية إلا القليل جدًّا، ويبتعد عن مقارباتها السائدة اليوم، بالرغم من أن جانبًا كبيرًا من مضمون التعاملات بين الدول والجهات الفاعلة في السياسة الدولية ذو طابع اقتصادي، فالدول الغنية ترتبط بشبكة علاقات تجارية ونقدية واستثمارية، وتجري مفاوضات بين الأغنياء والفقراء على المساعدة الإنمائية وإعادة توزيع الثروة، ويسود القلق البلاد الغنية والفقيرة على الموارد الشحيحة واستغلالها، حتى قيل إن المسائل السياسية اليوم أصبحت أقل أهمية من المسائل الاقتصادية بين الدول، أو إن السياسةَ هي الموضوع الرئيس والمسائلَ الاقتصادية هي الجزءُ الأشد أهمية فيها مقارنة بالمسائل العسكرية والاستراتيجية في حسم الأحداث.

ولمّا لم يُفرِد وايت في هذا الكتاب حيّزًا للنقاشات الاقتصادية، ففي إمكاننا باستقراء أفكاره التكهّن بأنه لو اعتبر السياسةَ الموضوعَ الرئيسَ في العلاقات الدولية فكان سيرفض فكرة حلول الاقتصاد مكانها في الأهمية، من دون الجزم برفضه اعتبارَ المكاسب الاقتصادية هدفًا من أهداف الصراع السياسي (عبر السيطرة على الثروات والمواد الخام) أو أداةً له (بحجب الطاقة أو المواد الغذائية أو المواد الخام من أجل انتزاع تنازلات سياسية)، أو أن نضع احتمالًا هو أن هذا النقص في كتابه مردُّه إلى أن السياسة الدولية في زمانه (القرن التاسع عشر) كانت منفصلة عن الاقتصاد الدولي المتأثر بمذهب عدم التدخّل “دعه يعمل دعه يمر” Laissez Passer, Laissez Faire.

رابعًا: يرتبط هذا الكتاب بالمدرسة الواقعية في السياسة الدولية التي راجت في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، ثم كسدت بعدها، وهي مدرسة وُجدت ردًّا على مدرسة التفكير المثالي أو التقدمي قبلها التي عقدت آمالًا على عصبة الأمم، وذهب مفكّروها إلى أن “سياسة القوة” ملمح مؤسف ومنصرم من ملامح الممارسة الدولية لدول حاقدة ومارقة بات من الواجب التنصل منه، أما مفكرو المدرسة الواقعية فذهبوا، على العكس، إلى أن “سياسة القوة” ملمحٌ جوهري أو مُتأصلٌ في علاقات الدول ذات السيادة.

وقد وُجّهَت انتقادات كثيرة إلى السياسة الدولية الواقعية التي تنحو إلى تفسير سعي الدول إلى القوة بصفتها وسيلة، وغاية تتمثل في أنها مذهب اختزالي، فليس بمقدور هذا التفسير استيعاب حقيقة أن مجموعات دول (مثل: الناطقة بالإنكليزية، الشمال الأوروبي، الجماعة الاقتصادية الأوروبية، الرابطة الاشتراكية) قد تشكّل تراكيب دبلوماسية متحدة ضد خصوم خارجيين، أو أن تتصرف كل منها تجاه الدول الأخرى ضمن مجموعتها وفق قوانين “سياسة القوة”، إضافة إلى أن السياسة الخارجية تُدار اليوم على نحوٍ “عقلاني” ومقصود، الأمر الذي يناقض “سياسة قوة” على نطاق واسع. كما أن مذاهب الدعوة إلى تحسين العلاقات الدولية التي وُجِّهت كتاباتُ الواقعيين ضدها تشهد اليوم ولادة جديدة، وقد بدأت حملة انتقادات أخلاقية لوجهات نظر الواقعيين، وهي حملة وإنْ لم تقضِ بالضرورة على النظرية الواقعية، لكنها تضعها أمام تحدي مواجهة تلك الانتقادات.

وليس في إمكاننا الجزم قطعًا بـ “واقعية” وايت، أو أن ما كان يجول في خاطره عند وضعه سياسة القوة عنوانًا لكتابه هو معالجة سياسات قوى لا تعترف بسيادة سياسية فوقها، فخلافًا لمورغنتاو، الذي كان لمؤلَّفه السياسة بين الأمم أكبر الأثر بين المصنفات الواقعية، لا يزعم وايت تقديم سياسة القوة نظريةً شاملةً في أن شاغل السياسة الخارجية كله يجب أن يتمثل في السعي لتحقيق “المصلحة القومية” المُعَرَّفة بأنها “القوة”، وخلافًا أيضًا لتأثر وايت بمؤلَّف إدوارد كار أزمة الأعوام العشرين، فإنه لا يصف موقفه بالواقعية السياسية أو يقدِّمه بديلًا من الطوباوية السياسية أو يسعى للاستفادة من التحليل الماركسي للأيديولوجيا، وخلافًا أيضًا لمؤلَّف جورج كينان الدبلوماسية الأميركية، لا يهاجم وايت “الأخلاقية السياسية”.

نستنتج مما سبق أن وايت يقدّم، بطريقة مؤقتة واستفهامية، فكرة اتخاذ سياسات القوى شكل صراع من أجل القوة، فهو يعرض هذه الفكرة في الفصل الأول المعنون “القوى” بوصفها فرضية تشير إلى حقيقة مركزية في العلاقات الدولية، كما يرجع إليها في الفصل الأخير المعنون “ما بعد سياسة القوة” ليبيِّن أن المصالح والالتزامات الأخلاقية المشتركة للدول أبعَدَتها عن مجال التركيز. وفي هذا المضمار يعمد وايت، في محاضرات له لم تُنشر بعد، إلى وصف السياسة الدولية بالمناظرة بين التفسير الواقعي أو المكيافيلّي المؤكِّد صراعَ الدول، وبين التفسير العقلاني أو الغروتيوسي المؤكِّد تعاونَها، وبين التفسير الثوري أو الكانطي المؤكِّد وحدةَ البشر وتضامنهم، وهي محاضرات لا يتبنّى فيها وايت “الواقعية السياسية”، بل يدعي أن الحقيقة لا تُطلب في وقت واحد من هذه التفسيرات، بل من الجدل الدائر بينها.

خامسًا: يحاول كتاب سياسة القوة الجديد التفاهم مع أدبيات موضوعه الأكاديمية المتراكمة منذ طبعته الأولى؛ إذ يخلو من أي ردود يجب أن تصدر من شخص مطّلع على تلك الأدبيات، كما أنه لا يعترف بالحاجة إلى التواصل مع الكتابات الجديدة التي من البدهي أن الطلاب قد اطّلعوا عليها، ولا يحفل بالمناظرات حول منهجية الدراسات في العلاقات الدولية، ولم يسعَ حتى للرد على المدرسة السلوكية التي انتقدت الأسس المنهجية التي قام عليها.

إن لامبالاة وايت المتقدِّمة الذكر قد تُعتبر أحد أوجه القصور في الكتاب الحالي، في حين يعتبرها آخرون مصدر قوة؛ لأن موضوع العلاقات الدولية لا يُعتبر من وجهة نظر أكاديمية منهجًا يُفترض فيه تقدُّمُ الدراسات الجديدة على القديمة، وكذلك لأن سياسة القوة لا يسعى لتفسير النظام السياسي الدولي الراهن بل الجوانب الأساسية والدائمة فيه، فلو أنه ناقش، مثلًا، كتابات محللي الاستراتيجيا الأميركيين، أو نظريات القانون الدولي المتأخرة، أو نظرية “التبعية البنيوية”، فلربما كان هذا ميزة فيه، لكنه كان سيحمل أيضًا خطر الانصراف عن مقصد الكتاب الرئيس.

سيجد القارئ المتابع والطالب الأكاديمي على السواء في هذا الكتاب مقدمة تاريخية للمبادئ الأساسية الفاعلة في السياسة الدولية، اليوم، تزوّده بنقطة مرجعية ثابتة، على عكس مصنفات أخرى في الموضوع، فإن فكرة الكتاب الرئيسة هي الاستمرارية لا التغير، وفهم مبادئ الاستمرارية تضمن لنا فهم التغيرات الأساسية في بُنية السياسة الدولية التي تحدث على الدوام وبنحوٍ اعتيادي.

العلاقة بين ايران واذربيجان
بيرم سنكايا
شكّل استقلال جمهورية أذربيجان في تشرين الأول/ أكتوبر 1991، والنزاع الذي تبع تلك المرحلة بين أذربيجان وأرمينيا بشأن إقليم ناغورنو قره باغ، مجموعة جديدة من التحدّيات للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وكان أحد هذه التحدّيات أنّ إيران باتت تواجه نزاعًا عسكريًا بين دولتين مجاورتين لها، ما أدّى إلى نشوء حالة من عدم الاستقرار قرب حدودها، سرعان ما لبثت أن تحوّلت إلى نزاعٍ طويل الأمد. صحيحٌ أنّ إيران ادّعت وقوفها على الحياد، إلّا أنّ أذربيجان اتّهمتها بتقديم دعمٍ ضمنيٍ لأرمينيا. أمّا التحدي الآخر، فتمثّل في صعود أبو الفضل إلجي بيك الشيبي إلى السلطة في باكو في حزيران/ يونيو 1992، ما أشعل فتيل ما يُسمّى بتهديد القومية التركية؛ تهديدٌ يُزعم أنه كان يستهدف السلامة الإقليمية الإيرانية. وكان الشيبي قوميًّا تركيًا مندفعًا، تنبّأ بسقوط إيران وأيّد “توحيد أذربيجان مع أذربيجان الجنوبية” (الواقعة في إيران)، ما أثار قلق المسؤولين الإيرانيين بشأن المخاطر الأمنية التي قد تنشأ عن أذربيجانَ قويّةٍ ومستقلّة. ومع ذلك، كانت العلاقات التي تربط بين باكو وطهران علاقات عملية، بخاصةٍ بعد استبدال الشيبي بحيدر علييف رئيسًا لأذربيجان في عام 1993. وعلى الرغم من التوترات العرَضية التي سادت بين الدولتين المتجاورتين بشأن الترويج الإيراني المزعوم للإسلام السياسي، وتعزيز إيران أنشطتها الاستخباراتية داخل أذربيجان، فضلًا عن الدعم الإيراني لأرمينيا في ما يتعلّق بنزاع قره باغ، ودعم أذربيجان المزعوم للقومية العرقية بين الأذريين الإيرانيين، فإنهما تمكّنتا من الحفاظ على علاقات مستقرة وعملية نسبيًا.

لكنّ العلاقات بين باكو وطهران شهدت توترًا ملحوظًا، وذلك مباشرةً بعد حرب قره باغ الثانية (27 أيلول/ سبتمبر – 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، التي أطلقت عليها أذربيجان أيضًا اسم “حرب الـ 44 يومًا”. وقد انتهت بتحرير أذربيجان للأراضي التي كانت قد احتلّتها القوات الأرمينية سابقًا. واستشاطت أذربيجان غضبًا من نشر إيران قوّاتٍ إضافيةً قرب حدودها معها، فضلًا عن المناورات العسكرية المتكرّرة التي تجريها إيران. في المقابل، رأت إيران أنّ العلاقات المتنامية بين أذربيجان وإسرائيل تشكّل “تهديدًا صهيونيًا” يقترب تدريجيًا من أراضيها. وأخيرًا، وردًّا على الهجوم على سفارة أذربيجان في طهران في كانون الثاني/ يناير 2023، علّقت أذربيجان أنشطتها الدبلوماسية، وسحبت دبلوماسيّيها من طهران. وبعد ذلك، اتّهمت باكو طهران بأنّها تُنشئ خلايا مسلّحة في أذربيجان، وأعلنت أنّ بعض الدبلوماسيين الإيرانيين “أشخاص غير مرغوب فيهم”. وردّت إيران على هذا الإجراء بالمثل، لتكشف عن حدّة التوتر بين الدولتين.

تتناول هذه الدراسة تطوّر العلاقات بين أذربيجان وإيران بعد حرب قره باغ الثانية. وترى أنّ التوتّرات الأخيرة بينهما ناجمة عن عاملين مرتبطين. العامل الأول هو التحوّل الجيوسياسي في جنوب القوقاز الذي يتعارض ومصالح إيران؛ فقد كسرت الحرب حالة الجمود السابقة بين أذربيجان وأرمينيا، وجعلت الأولى القوة المهيمنة في المنطقة إلى جانب تركيا. أما العامل الثاني، فيتمثّل في إعادة إحياء هاجس فكرة القومية التركية، الذي خيّم على العلاقات بين باكو وطهران طوال القرن الماضي. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ تصاعد النفوذين الأذري والتركي في جنوب القوقاز، ووجود ما يقارب من 25 مليون شخص ناطقين باللغتين التركية والأذرية في المنطقة الشمالية الغربية من إيران، والتي تُعرف بأذربيجان الإيرانية، قد أثبتا أنهما مصدران للتوتّر في العلاقات بين أذربيجان وإيران. وغالبًا ما تحدّث أعضاء من النخبة الأذرية، الذين تربطهم علاقات وثيقة بالرئيس السابق الشيبي، عن تقسيم إيران وتوحيد أذربيجان مع أذربيجان الجنوبية. وقد أدى هذا الأمر إلى تأجيج مخاوف طهران من أن تسعى باكو إلى تحريض الحركات القومية العرقية بين الأذريين الإيرانيين. وأدّت أيضًا السياسات القومية التركية أو القومية الأذرية المزعومة التي اعتمدتها باكو إلى إضفاء الطابع الأمني على العلاقات بين البلدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر − 6 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube