حل فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية بردا وسلاما على الكرملينوالنخب السياسية الروسية. وحمل نبأ فوز ترامب مفاجأة سارة من العيار الثقيلاستقبلها النواب في مجلس الدوما (البرلمان) الروسي بالتصفيق، وقالفلاديمير جيرينوفسكي نائب رئيس مجلس الدوما مع ابتسامة عريضة على محياه “فاز مرشحنا دونالد والجدة هيلاري يجب أن تذهب إلى منزلها”. وفجأة اختفت مصطلحات الحرب الباردة، والمخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثةفي الإعلام الروسي لتطغى لغة تصالحية مع واشنطن، وآمال بصفحة جديدة عنوانهاالتعاون وإعادة تشغيل العلاقات بين الطرفين. لكن وسائل الاعلام المدعومة من الكرملين لم تغفل عن متابعة الاحتجاجات ضدانتخاب ترامب وانتقلت مباشرة إلى تضخيم الأحداث، وعقد مقارنات مع بداياتالربيع العربي، والثورات الملونة في بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، وعلتأصوات تتحدث عن جوانب قصور في الديمقراطية الأميركية، وتحذر من حرب أهليةفي الولايات المتحدة بسبب رفض “المؤسسة” الحاكمة في واشنطن لشخص ترامبورغبته في التقارب مع روسيا. روسيا و”تعهدات” ترامبومنذ أكثر من نصف عام بات ترامب مادة دسمة لوسائل الإعلام الروسية. ومعمرور الزمن بات الملياردير الشعبوي المرشح المفضل لموسكو استنادا إلى أسبابعدة روجت لها الصحافة الروسية؛ أهمها أن ترامب يرغب في إعادة تشغيلالعلاقات مع موسكو، ووقف توسيع الناتو شرقا، وتجميد نشر منظومات جديدةللدرع الصاروخية في أوروبا. وأكدت الصحافة الروسية أن ترامب يريد رفعالعقوبات المفروضة على روسيا منذ عام 2014 على خلفية ضم القرم والأزمةالأوكرانية. وتلقف الروس تصريحات ترامب بأن أوكرانيا ليست منطقة ذات أهمية إستراتيجيةلواشنطن، ما بعث آمالا لدى النخب الروسية بأن ضم القرم أصبح من الماضي، وأنالأزمة في شرق أوكرانيا يمكن أن تحسم لمصلحة أنصار روسيا، أو حتى عودةالنخب الموالية لموسكو إلى الحكم في كيف. وركز الإعلام الروسي على أن ترامب يتفق مع الرؤية الروسية حول أولويةمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية والإرهاب في سوريا والعراق، ويرى في بشارالأسد حليفا محتملا في محاربة الإرهاب. ومن الواضح أن ترامب لم يقدم أيتعهدات واضحة لموسكو في معظم القضايا المذكورة أعلاه، ناهيك عن تقلبتصريحاته وتخبطه نظرا لجهله الواضح في السياسة الخارجية. لماذا تدعم روسيا ترامب؟ومن الواضح أن أسباب الدعم الروسي لترامب تتجاوز الأسباب السابقة، أو حتىتصريحات الملياردير أثناء الحملة الانتخابية والتي عبر فيها عن إعجابهبشخصية الرئيس فلاديمير بوتين، وتنطلق أساسا من أن دوائر صنع القرار فيموسكو تراهن على أن اختيار ترامب يعمق المأزق الأميركي فيما يخص السياساتالخارجية وانكفاء واشنطن وتدهور علاقاتها مع حلفائها وخاصة الأوروبيين،ويعزز فرص الشعبويين في أوروبا والعالم وبالتالي يقوي حضور روسيا في المسرحالعالمي. كما أن مؤهلات ترامب المتواضعة في مجال السياسة وخبرته الضعيفة تخدم أهدافموسكو في إعادة طرح نفسها كمركز عالمي لصنع القرار، وعاصمة لإحدى القوتينالعظميين في العالم. ويسود اعتقاد في موسكو بأن رغبة ترامب في انكفاء أميركا العالمي يعنيتلقائيا إقرار واشنطن بتقاسم مناطق النفوذ مع موسكو على قاعدة التوافق معموسكو من دون أخذ أي اعتبارات للأطراف الدولية والإقليمية الأضعف. ويذهبالبعض إلى أن ترامب وبوتين قد يتوصلان إلى “يالطا2” من دون أي شركاءأوروبيين. كما أن وعود ترامب بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي،والحد من توسع الناتو شرقا يضيق خيارات أوروبا ويدفعها إلى طرق أبوابالكرملين، وفتح صفحة جديدة اقتصادية وسياسية مع موسكو وفق شروط تراعيالمستجدات الدولية. كما أن تصريحات ترامب ضد المسلمين وإمكانية توسع الشرخ في العلاقات الروسيةالخليجية يفتح شهية موسكو على المزيد من الانفتاح مع بلدان الخليج العربيوعلى رأسها السعودية، وتقديم رؤيتها لنظام أمني واقتصادي جديد تكون فيهروسيا لاعبا أساسيا إلى جوار الصين وبلدان المنطقة بما فيها إيران وتركيا. وأخيرا فإن مواقف ترامب الانتخابية ضد الأميركيين الأفارقة والمسلمين وذويالأصول اللاتينية يمكن أن يزيد الانقسام المجتمعي في الولايات المتحدة،خاصة إذا ما ترافق مع فشل ترامب في تحسين الأوضاع الاقتصادية وخلق مزيد منفرص العمل، بالتزامن مع تقليص موازنة البرامج الصحية والاجتماعية لذويالدخل المحدود. وحينها يمكن لموسكو التغني بفشل نموذج الديمقراطيةالأميركية، والترويج للنموذج الروسي المحافظ المستقر بقيادة بوتين. مفاجأة وتكتيكاتومن المؤكد أن موسكو لم تكن جاهزة لتقبل مفاجأة فوز ترامب في الانتخابات. وركزت وسائل إعلام الكرملين في الأسابيع الأخيرة على أن ترامب يمكن أن يرفضنتائج الانتخابات في حال خسارته أمام هيلاري كلينتون، وتأهبت موسكو لحملةقوية للتشكيك بنتائج الانتخابات الأميركية، وفضح زيف الديمقراطية فيأميركا، وإظهارها في أقبح صورها ردا على اتهامات هيلاري كلينتون للكرملينبعدم مراعاة الأسس الديمقراطية، ووصفها الانتخابات البرلمانية الروسية في 2011 بأنها غير نزيهة وشابها التزوير. ومما لاشك فيه أن خسارة كلينتون خففت ضغوطا كبيرة عن موسكو في عدة ملفات،وزاد ارتياح موسكو مع انطلاق المظاهرات ضد انتخاب ترامب. ويأمل الكرملين فيأن واشنطن في ظل إدارة الجمهوريين لن توجه انتقادات لروسيا في مجالالحريات وحقوق الإنسان، وحرية الصحافة، ومراعاة الأسس الديمقراطية فيالانتخابات. وفي المقابل فإن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب، وسياساته المستقبليةسيدفع الكرملين إلى العمل في اتجاهين مختلفين؛ الأول التخفيف من سقفالتوقعات وربط تطور العلاقات وإعادة المياه إلى مجاريها في علاقة البلدينبأفعال محددة تتجاوز التصريحات. والثاني الضغط على ترامب وهو ما بدا واضحامع كشف سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي عن اتصالات أجرتها موسكومع فريق عريض من المقربين من رونالد ترامب إبان حملته الانتخابية وتأكيدهعلى استمرار هذه الاتصالات. كما قالت ماريا زاخارافا الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية إن “وفدا منالسفارة الروسية في واشنطن التقى أعضاء في حملة ترامب الانتخابية”. وتتناقضالتصريحات السابقة مع تأكيد موسكو أنها لم تتدخل في الحملات الانتخابيةللمرشحين ويمكن أن تصب الزيت على نار الاحتجاجات في المدن الأميركية عبرزيادة الشكوك في دور روسيا في التسريبات الإلكترونية لبريد كلينتون، وإدارةحملتها الانتخابية. انتصار روسي معلقمن المؤكد أن أي تحليل أولي لا يمكن أن يتجاهل الفوائد التي جنتها روسيا مننتائج أقذر حملة انتخابية شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها، وتتويجهابفوز ترامب. لكن المستقبل، وتحديد مدى استفادة روسيا المستقبلية يبقى رهناللسياسات التي سوف ينتهجها ترامب، ومدى توافقها مع السياسات الروسية. وكذلك هل سيواصل سياسة الانكفاء وتشويه صورة الولايات المتحدة عالميا عبرتصريحات تغضب حلفاءها، أم سيضطر إلى سحب تصريحاته، وتغيير سياساته لتتناسبمع توجهات المؤسسات الحاكمة ومجموعات الضغط في واشنطن. ومن ناحية أخرى فإنالموضوع السوري وعدم تدخل واشنطن فيه ربما يؤدي إلى توريط روسيا في مستنقعأفعاني جديد وقد تنعكس الفرحة وبالا على موسكو. وتكشف التجارب الماضية أن معظم الوعود الانتخابية فيما يخص السياساتالخارجية لا تنفذ، ويصعب على ترامب في ظل هيمنة صقور اليمين على الكونغرسالأميركي بمجلسيه الفصل بين إعادة مجد أميركا وتوسعها في العالم. ومؤكد أن موسكو سوف تعيش أياما طويلة من الانتظار، بما يمكنها من أن تعيدحساباتها بهدوء بعيدا عن الرغبات ونشوة النصر، وهذه المرة بناء على تصريحاتوأفعال الرئيس المنتخب ترامب وليس المرشح للانتخابات. وواضح أن الخلافاتالروسية الأميركية عميقة ويصعب حلها في حال إصرار الغرب على تجاهل روسيا،ورغبة الكرملين في فرض رؤيته للعالم. وأخيرا فإن اللعبة الديمقراطية هي التي أنتجت ظاهرة ترامب، ولكن روسياتفتقد إلى هذه التجربة أساسا ولا يمكن أن تصبح “الديمقراطية الروسية” نموذجا يحتذى به رغم عيوب النموذج الأميركي. كما أن انكفاء واشنطن لا يعنيتلقائيا بروز موسكو المدججة بالسلاح وحيدة في الساحة الدولية مع ما تعانيهمن مشكلات اقتصادية واجتماعية يمكن أن تفضي إلى انفجار.
الجزيرة