المؤلفان : أمنون كافاري وغاي فريدمان
يمثِّل كتاب “اتجاهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل: من التوافق إلى الانقسام”، تجربة بحثية جريئة تخوض في موضوع إشكالي مرتبط بدراسة مجموع استطلاعات الرأي التي تناولت مواقف وتوجهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل وتحولاته على مدى سبعة عقود كاملة؛ فالكتاب يفترض ضمنًا أن هناك توجهًا إيجابيًّا للرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل، لكنه يبحث في الدينامية التاريخية لهذه العلاقة، ويكشف حالة التحول الكبرى التي ميزت هذه العلاقة. فهو -أولًا- دراسة وصفية لمواقف الجمهور الأميركي تجاه إسرائيل وذلك اعتمادًا على بيانات المسح الكمي والقواعد الإحصائية، إلى جانب الاستعانة بمئات الدراسات التحليلية التي تناولت المخرجات العامة للإحصاءات الخاصة بالدعم الأميركي لإسرائيل طوال هذه المدة. وهو –ثانيًا- دراسة استكشافية تاريخية، لأنها تفحص موضوع اتجاهات الرأي العام الأميركي إزاء إسرائيل من عام 1944 إلى عام 2019، وتستكشف الأنماط العامة المتحكمة في التأثير على الرأي العام الأميركي في علاقته بإسرائيل.
وتتحدد القيمة البحثية للكتاب في كونه اعتمد متنًا تحليليًّا ضخمًا وشاملًا؛ فقد قام مؤلِّفا الكتاب، أمنون كافاري (Amnon Cavari) وغاي فريدمان (Guy Freedman)، بدراسة وتحليل وتقييم 3767 استطلاعًا من استطلاعات الرأي التي أُجريت داخل أميركا على مدى 75 عامًا.
ومن المعلوم أن الأبحاث المرتبطة باستطلاعات الرأي، تكاد تكون نشاطًا يوميًّا في المعاهد والجامعات ومراكز البحث الأميركية، وتشمل جميع الأنشطة اليومية والحقول المعرفية. فكلما طرأ جديد لدى الطبقة السياسية الأميركية أو الجمهور الأميركي عمومًا، لجأت هذه المؤسسات إلى استطلاعات الرأي بهدف استمزاج الشارع أو الطبقة السياسية حول ذات الموضوع.
ولأن استطلاعات الرأي آلية بحثية مهمة لقياس وتحليل توجهات الجمهور العام حول قضية معنية، فقد بيَّن الكتاب أنه باستثناء العراق الذي حظي بــ16839 استطلاع رأي في أميركا خلال العقود الماضية، فإن إسرائيل نالت المرتبة الثانية متبوعة بإيران بـ3287 استطلاع رأي.
والكتاب من تأليف الباحثيْن الإسرائيلييْن، أمنون كافاري، رئيس مشروع الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل في مدرسة لودر للحوكمة والدبلوماسية والاستراتيجية في المركز متعدد التخصصات بمدينة هرتسليا بإسرائيل، والباحث غاي فريدمان، وهو طالب الدراسات العليا في جامعة تكساس في أوستن، ومدير مشروع الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل في المركز متعدد التخصصات بهرتسليا.
وعبر فصول الكتاب التسع عمد الباحثان إلى لملمة تفاصيل هذا الموضوع الواسع والمتشعب، وتوضيح مجموع التحولات التي طرأت على الرأي العام الأميركي، من خلال قسمين كبيرين خُصِّص الأول منهما لرصد اتجاهات دعم الرأي العام الأميركي لإسرائيل ومسوغاته الذاتية والموضوعية، في حين خُصِّص القسم الثاني لتحليل وتقييم مستويات الفجوة والانقسام التي طالت تلك العلاقة.
ولأننا أمام كاتبيْن إسرائيلييْن فقد بدا من الواجب وضع حدود وفوارق بين ذاتية الباحثين وموضوعهما، ولذلك وجدناهما يقرَّان منذ البداية بما يلي: “نحن إسرائيليان ولدينا مواقفنا الخاصة بشأن أهمية العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، كما نفهم أيضًا الانقسام الحزبي حول مستقبل هذه العلاقة وخطورتها المستقبلية”(1).
والحال أن قارئ كتاب “اتجاهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل: من التوافق إلى الانقسام” يجد نفسه طوال مسار فعل القراءة ملزمًا بالبحث عن إجابات شافية للأسئلة الثلاث الآتية:
– هل تحتل إسرائيل مكانة خاصة لدى الرأي العام الأميركي، الذي يعني هناك عامة الجمهور الأميركي، وتحظى بذات المكانة لدى الداعمين الأميركيين السياسيين الموجودين في مواقع صناعة القرار؟
– إذا سلمنا بأن هناك تحولًا في اتجاهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل، فما نصيب الفلسطينيين من هذا التحول؟ وما مصير مشروع الدولة الفلسطينية الذي ظل معلقًا على مدى أكثر من سبعين عامًا؟
– إن الحديث عن انقسام داخل الرأي العام الأميركي يدعو إلى التساؤل عمَّن يؤثِّر في الآخر: هل قمة الهرم السياسي مُمَثَّلة في النخبة السياسية الحاكمة هي المؤثرة أم القاعدة الجماهيرية؟ وهذا الاستفسار يقتضي الإجابة أولًا عمن يحدد أجندة الآخر: هل عامة الجمهور أم النخب السياسية الأميركية التي تشمل -حسب الكتاب- المسيحيين الإنجيليين والبروتستانت واليهود الأميركيين الذي ينتمي غالبيتهم للحزب الجمهوري؟
1. أطروحة غير اعتيادية
جرت العادة في الدراسات الاستقصائية أن يجري التعاطي مع الرأي العام تنظيرًا وممارسة باعتباره “وجهة نظر أو رؤية المجتمع تجاه قضية محددة في زمن محدد؛ وعادة ما يُنْظَر للرأي العام على أنه التيار السائد في المجتمع والقوة القادرة على تغيير مسار الأمور”(2).
ورغم أن هذا التعريف يعود لعشرينات القرن الماضي، فإنه يقدِّم الأرضية العامة التي اعتمدها الباحثان، أمنون كافاري وغاي فريدمان، في المنظور الأميركي للرأي العام وكيفية تمظهره مجتمعيًّا. ولذلك نلحظ أن هذا التناول لا يزال يحظى براهنيته حتى اليوم، طالما أنه يتحدث عن مفهوم التلاعب (manipulating)، والذي قد يعني هنا التحكُّم والسيطرة والتوجيه الذي يقوم به صنَّاع الرأي العام في علاقتهم بالمجتمع أو الجمهور.
ويبدو أن هذا المنظور الكلاسيكي يجد الكثير من الدعامة في دراسة وتحليل العالم نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) للرأي العام الأميركي. ففي كتابه المشترك مع إدوارد هيرمان (Edward Herman): “هندسة الإجماع: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام”، نجده يتحدث عن مفهوم الهندسة، أو الصناعة (manufacturing)، التي تعني هنا أن المنظور الأميركي للرأي العام هو أشبه ما يكون بجسم فيزيائي واجتماعي تنطبق عليه معايير التحليل الرياضي والهندسي(3).
ولأن كتاب تشومسكي يتحدث عن وسائل الإعلام ودورها في هندسة الرأي العام، فإن مخرجاته العامة تُبرِز أنه أضحى بالإمكان صناعة توجهات الرأي العام عبر جملة من الفواعل والطرق التي يختزلها تشومسكي وهيرمان في “أن الرأي العام في المجتمعات الليبرالية القائمة على مقولات المجتمع الاستهلاكي تخضع هي الأخرى لمعادلات منطق السوق، ومن هنا يصبح الرأي العام عبارة عن “مفهوم هلامي لعيِّنة من الجماهير أو الحشود التي يمكن هندستها وتوجيهها من قِبَل الساسة، أو رجال الإعلام، أو من قِبَل مصنِّعي المواد والمنتوجات الاستهلاكية، مادية كانت أو معنوية، أو عبر الدعاية المقدَّمة في وسائل الإعلام”(4).
وبخلاف هذا التناول السائد، نجد أن الأطروحة المركزية للكتاب تتحدد في كونها أطروحة غير اعتيادية؛ فهي تبحث في تفاصيل مخرجات واتجاهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل وكيف أنها عرفت تحولًا جوهريًّا، وأن هذا التحول أخذ شكل انقسام على مستوى التموقع الحزبي والمجموعات الديمغرافية في أميركا.
وقد حظي هذا التخريج التحليلي بالقبول لدى عدد من الباحثين الأميركيين؛ حيث اعتبر الأكاديمي، روبرت فريدمان (Robert Freedman)، من جامعة جونز هوبكنز، أن هذه الدارسة تُعد الأولى من نوعها التي تبحث في تطور موقف الأميركيين تجاه إسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية، وأن الدارسيْن نجحا في إبراز أن إسرائيل كانت تحظى في السابق بدعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن هذا الدعم تحول اليوم إلى قضية حزبية في السياسة الأميركية في الداخل والخارج. في حين ذهب بيتر هايز غريز (Peter Hays gries)، من جامعة مانشستر، إلى أن الفكرة التي ظل يروج لها البعض بأن منطقة الشرق الأوسط ضمن الإطار العام للسياسة الخارجية الأميركية اختطفها اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأميركية أصبحت فكرة متجاوَزة(5).
وفي هذا التناول ردٌّ على كتاب جون ميرشايمر (John Mearsheimer) وستيفن والت (Stephen Walt): “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية”، الذي يقوم على أطروحة متداولة في الدوائر السياسية العربية وحتى الأميركية ومضمونها “أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد اختطفتها عصابة صغيرة من اليهود”(6).
وفي الوقت الذي أحجم فيه صاحبا الكتاب عن تحديد دقيق لمفهوم اللوبي الإسرائيلي، اكتفيا بالقول بأنه يتضمن “مجموع المنظمات التي تهدف إلى تشجيع الحكومة الأميركية والرأي العام الأميركي على تزويد إسرائيل بالمساعدات المادية ودعم سياسات حكومتها”. وبذلك، يصبح اللوبي الإسرائيلي يمثِّل تحالفًا واسعًا بين الأفراد والمنظمات المسؤولة عن سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه إسرائيل والعرب ومنطقة الشرق الأوسط برمتها.
وعلى عكس ما ذهبت إليه المقاربات السابقة، نجد أن الجانب الأبرز في أطروحة كتاب: “اتجاهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل: من التوافق إلى الانقسام”، هو كونها أبانت أن مفهوم الرأي العام هو في الأصل مفهوم دينامي يقتضي منظورًا تطوريًّا حتى يجري الوقوف على المحطات والتمظهرات التي طبعت هذا الرأي العام داخل منظور ليبرالي في بلد كالولايات المتحدة الأميركية، وأن الدعم الأميركي لإسرائيل لم يكن قطُّ معطى ثابتًا ولم يستقر على حال؛ فقد شهد تحولًا جذريًّا جرَّاء تنامي معدلات الانقسام بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري واختيار المجموعات الديمغرافية، مع توضيح الآثار التي قد تترتب على هذا التغيير. وبذلك تُنسف الأطروحة المغلوطة والمتداولة عربيًّا من خلال التأكيد على أن العلاقة بين الرأي العام الأميركي وإسرائيل ليست بالعلاقة الثابتة فهي متغيرة، وحسب الكتاب، انتقلت من مستوى التوافق إلى مستوى الانقسام. وقد ناقش المُؤَلِّفان بشكل مقنع في الكثير من فصول الكتاب أن إسرائيل التي كانت تتمتع في وقت ما بدعم قوي من الحزبين في الولايات المتحدة، أصبحت الآن قضية حزبية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وقد أوضح المُؤَلِّفان البُعد الدينامي لأطروحة الكتاب من خلال الاتكاء على جملة الدراسات التي أُنجزت طوال العقود السبع بالنصِّ في نهاية الكتاب على أن تراجع معدل الدعم الأميركي لإسرائيل على أساس الفعل الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين قد يصل ما بين 30% و40%، وأن هذه الفجوة تعود لمسألتين رئيسيتين، هما: أولًا: الإفراط الإسرائيلي في استعمال القوة ضد الفلسطينيين. وثانيًا: قضية استقلال الدولة الفلسطينية.
وبذلك، تتضح معالم الأطروحة الجديدة للكتاب في كون الرأي العام الأميركي ظاهرة متغيرة تاريخيًّا جرَّاء جملة من العوامل والمواقف، وأن هناك تحولًا في اتجاهات الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل من درجات الدعم المطلق والمفتوح إلى محطة الفجوة والانقسام.
2. مسوِّغات الدعم المفتوح
يؤكد صاحبا الكتاب في الفصول الأربع الأولى من القسم الأول على أن “كل مواطن أميركي لديه مواقف محابية لإسرائيل”، وعلى المستوى الرسمي يتحدث الكتاب أيضًا عن الدعم الأميركي الاستثنائي لإسرائيل باعتباره دعمًا مفتوحًا وممتدًّا في الزمان. ومع ذلك، يمكن القول بأنه منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية حتى اليوم وطوال سبعة عقود جرى التمييز بين مرحلتين متمايزتين في هذا العلاقة: منذ أربعينات القرن الماضي حتى نهاية الثمانينات؛ حيث كان الدعم الأميركي لإسرائيل مفتوحًا على مصراعيه، لكن تغيَّرت المعادلات منذ 1989. ويُرجع أمنون كافاري وغاي فريدمان هذا التحول إلى جملة من الأسباب الموضوعية يمكن اختزالها في أربعة عوامل مركزية، هي:
1. نهاية الحرب الباردة والثنائية القطبية التي سيطرت على العالم على مدى أربعة عقود كاملة واستبدال منظور أحادي فيه الغلبة للولايات المتحدة الأميركية بها.
2. أن التحولات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي غيَّرت من مستويات الحضور الأميركي في الشرق الأوسط، خاصة مع حرب الخليج الأولى والثانية واستمرار القوات الأميركية في العراق بدعوى مكافحة الإرهاب والحفاظ على المصالح الأميركية.
3. تغيُّر معادلات الصراع العربي-الإسرائيلي نفسه؛ فبعدما ظلَّ طوال العقود الأربع السابقة (1949-1989) صراعًا عربيًّا إسرائيليًّا تحول الصراع بعد ذلك إلى صراع مصغَّر بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومنذ 1987، دخلت إسرائيل في دورات عنف متعددة مع الفلسطينيين، وبعدها دخلا معًا في محاولات لتحقيق عمليات السلام عبر الوسيط الأميركي دون أن يجري التوصل لحل نهائي.
4. تغير المشهد السياسي الأميركي نفسه من الداخل. فمنذ 1980، ازدادت مستويات الانقسام السياسي بين الديمقراطيين والجمهوريين إلى جانب ازدياد معادلات التقاطب الإعلامي بين قناتي “سي إن إن” الليبرالية وقناة “فوكس نيوز” المحافظة.
ورغم أن الكثير من الباحثين يعتبرون قضية الدعم الأميركي لإسرائيل مسألة محسومة، فإن فئة قليلة تكشف عن ذلك من خلال الدفع بأن أميركا -إلى جانب بريطانيا- كانت وراء تأسيس دولة إسرائيل، وأنه خلال عمليات التقسيم في العام 1947 أوعزت أميركا للدول العربية برفض التقسيم لتحقيق ديمومة الصراع، وبذلك فالدعم الاستثنائي الأميركي قد يكون مفهومًا.
وتؤكد البيانات الإحصائية والتحليلية أن الجمهور الأميركي العام مسكون بإسرائيل، والتجربة الأميركية تكاد تكون حالة خاصة في دعم دولة أخرى مثل إسرائيل التي تفصل بينها وبين الولايات المتحدة مئات الآلاف من الكيلومترات. وبالتالي، يكون موقف الأميركيين مع إسرائيل موقفًا إيجابيًّا مقارنة مع الشعوب والدول الأخرى. ولذلك فهم يصطفون إلى جانب إسرائيل في صراعها ضد الفلسطينيين. وهذا ما كشف عنه الكتاب حين أكد أنه بالنسبة لغالبية الأميركيين، قليلة هي الدول التي قد تنال إعجاب وثقتهم مقارنة مع إسرائيل “فهي البلد والصديق والحليف الجيد إذا ما قورنت بإحدى دول الجوار”، وأن موقف عامة الأميركيين من الصراع العربي-الإسرائيلي يتحدد في الإجابة عن الأسئلة الأربع الكبرى:
1. من يتحمل مسؤولية التصعيد العسكري في الصراع العربي-الإسرائيلي؟
2. إلى جانب من تصطف أميركا في هذا الصراع؟
3. هل ستلجأ أميركا إلى القوة للدفاع عن مصالحها في المنطقة؟
4. هل الموقف الأميركي من مسلسل السلام قائم على الجهود الدبلوماسية والدعم العسكري لإسرائيل والمساعدات الخارجية؟
أما على المستوى الفردي، يوضح أمنون كافاري وغاي فريدمان أن الدعم المفتوح لإسرائيل من قِبَل الأميركيين يظهر في مدى انشغال المواطن الأميركي بالقضايا الستة التالية:
– دعم ومساندة لإسرائيل.
– مسألة التعاطف في معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي.
– من المسؤول عن العنف؟
– حق إسرائيل في استعمال القوة.
– تقديم المساعدات المالية لإسرائيل.
– دعم تأسيس دولة فلسطينية.
وأبرزت الدراسة أن المتغيرات الديمغرافية المختلقة والمتصلة بالجنس والعُمر والعِرق والمستوى الدراسي والانتماء الديني، لا تؤثر كثيرًا في النسب العامة المستخلصة في استطلاعات الرأي التي قام الباحثان بدراستها، وإِنْ كان متغير الانتماء الديني مهمًّا جدًّا في تفسير عدد من المتغيرات، خاصة إذا علمنا أن الأميركيين الذين يدعمون إسرائيل هم من طائفة المسيحيين الإنجيليين متبوعين بالبروتستانت واليهود.
أما متغير العرق، فالأميركيون البيض أكثر دعمًا لإسرائيل من الأفرو-أميركيين أو الأميركيين من أصول إسبانية. كما أن الرجال أكثر دعمًا لإسرائيل من النساء، والشباب أقل تعاطفًا من كبار السن.
إن السؤال الغائب أو المغيَّب في الفصول الأربع الأولى من الكتاب يتحدد في غياب الحديث عن المصلحة القومية الأميركية باعتبارها المرتكز الأولي ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية. فمنذ حرب 1967 حتى نهاية الثمانينات، اعتمد صنَّاع السياسة الخارجية الأميركية منظورًا جاهزًا يقوم على المزاوجة بين “دعم إسرائيل المتواصل وغير المحدود باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأول في منطقة الشرق الأوسط، على حساب العرب، في مقابل الترويج لفكرة نشر الديمقراطية وإلهاب مشاعر السخط في أوساط الرأي العام العربي والإسلامي ضد القادة”. وهذ هي الفكرة الرئيسية التي ظلت وسائل الإعلام الأميركية، خاصة المحافظة، تروِّج لها. وهنا تحديدًا جرت التضحية بالمصلحة القومية الأميركية على حساب دعم إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط مع العلم بأنها قد لا تحتاج لهذ الدعم بدعوى الاستقرار السياسي واستمرارية التفوق العسكري والأمني لدولة إسرائيل.
3. عوامل وآليات الانقسام
من داخل ذات المنظور الدينامي للعلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، يؤكد أمنون كافاري وغاي فريدمان على تبني زاوية مختلفة، ففي الوقت الذي كان فيه البعض يعتقد أن قضية الدعم الأميركي لإسرائيل مسألة بديهية محسومة لا تحتاج لنقاش سياسي، فإن المُؤَلِّفيْن بحثا في الموضوع على أساس تجريبي بعيدًا عن الأفكار المسبقة والمسلَّمات الأيديولوجية، وذلك بالاعتماد على أدوات علمية موضوعية.
لقد تكررت فكرة الرأي العام الأميركي المسكون بإسرائيل في الكثير من فصول الكتاب، لكن الجديد في الموضوع اليوم هو أن هناك اتساعًا في المنظور الحزبي لدعم أميركا لإسرائيل وهو ما أثَّر على راهن هذه العلاقة ومستقبلها. وبالتالي أضحى الدعم الأميركي لإسرائيل قضية سياسية أيديولوجية بعدما كانت من مسلمات الأميركيين، أي أنها أصبحت قضية سياسية خلافية بين وجهتي نظر الحزبين والنخبة السياسة الموجهة لسياسة كل حزب على حدة.
ويذهب أمنون كافاري وغاي فريدمان إلى أن بداية التحول في قضية دعم الرأي العام الأميركي لإسرائيل بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، وأن عمليات التحول ما زالت مستمرة حتى اليوم. وهذا ما توضحه استطلاعات الرأي العام التي تناولتها الدراسة. فقد وقف الباحثان في استقراء تطور الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل طوال أربعة عقود كاملة من خلال تحليل نتائج استطلاعات الرأي المعتمدة خلال كل عشر سنوات:
– ففي العام 1989، خلال شهر مارس/آذار وإبَّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كشف أحد استطلاعات الرأي أن 65% من الرأي العام الأميركي يحمل منظورًا إيجابيًّا أو إيجابيًّا جدًّا تجاه إسرائيل، في حين أن 38% منه يحمل منظورًا سلبيًّا، وأن 3% لا رأي له.
– وفي العام 1999، كشف استطلاع رأي آخر أن نسبة الدعم التي يقدمها الأميركيون لإسرائيل بلغت 66%.
– وفي العام 2009، بلغت نسبة وحدات العينات الإحصائية الداعمة لإسرائيل 70%.
– وفي العام 2019، تبيَّن أن 69% من الأميركيين لديهم موقف إيجابي وإيجابي جدًّا تجاه إسرائيل، وأن 28% من المستجوَبين قالوا بأن لديهم وجهة نظر سلبية أو سلبية جدًّا تجاه إسرائيل، في حين أن 3% من النسبة العامة لعيِّنة الاستطلاع لا رأي لها.
وبالتالي، فطوال أربعة عقود كاملة، ظلت نسبة الدعم الأميركي لإسرائيل تقترب من 60%. وهذا التوجه المتصاعد للرأي العام تجاه إسرائيل كان يخفي وراءه تحولًا على مستوى الفعل السياسي الأميركي وموقف النخب السياسية الحاكمة في كل مرحلة من أولويات السياسية الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، كما يكشف أيضًا نوعًا من الانقسام الحزبي: ففي العام 1989، لم يكن هناك فارق ذو قيمة إحصائية بين موقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري في دعم إسرائيل، لكن في العام 1999، لوحظ وجود دعم كامل للحزبين معًا وغياب لأي فوارق بينهما في دعم إسرائيل. أما في عام 2009، فقد وصل الفارق الإحصائي بين الدعم الجمهوري لإسرائيل في مقابل الدعم الديمقراطي إلى 13%. لكن في العام 2019، بلغ الفارق بينهما 20%، وهذه النسبة تبدو مهمة جدًّا، مما يوضح أن العقود الأربع الأخيرة شهدت دعمًا أميركيًّا لإسرائيل مع ميزة مركزية هي أن الدعم الجمهوري أكثر من الدعم الديمقراطي.
ولتفسير هذا التحول التاريخي، يستعين صاحبا الكتاب، أمنون كافاري وغاي فريدمان، بجملة من المواقف السياسية للحزبين، حيث برزت خلال العقد الأخير جملة خلافات على مستوى الخطاب السياسي والحزبي داخل أميركا تجاه إسرائيل، وخاصة على مستوى النخب السياسية بين الحزبين الحاكمين في أميركا. وهو ما أسهم في انتقال الانقسام إلى مستوى الرأي العام، ومن ثم انتقاله من الانقياد الأعمى إلى العقلانية السياسية القائمة على أولوية المصلحة القومية. وقد تمظهر ذلك بصورة أكبر خلال الحملة الانتخابية لعام 2016.
ففي عام 2009، تزامن وصول الرئيس، باراك أوباما، للحكم مع تمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من تشكيل حكومة يمينية وسطية. ولأن الرجلين لم يكونا على قلب رجل واحد، شكَّل الرئيس أوباما حالة استثنائية في المزاج السياسي الحاكم في التعامل مع إسرائيل ولتبرز بعدها خلافات واختلافات على مستوى الخيارات السياسية لكل منهما. فقد رفض أوباما سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي كان يعتبرها انتهاكًا للقانون الدولي، ورفض أيضًا سياسة إسرائيل تجاه دول الجوار في حين شكَّل الاتفاق النووي النقطة الخلافية الكبرى التي مثَّلت اللحظات الأكثر صعوبة في العلاقة بين البلدين.
وطوال فترة حكم أوباما، ظل الحزب الديمقراطي يقدم نفسه للرأي العام الأميركي باعتباره حزبًا ليبراليًّا يسعى لتحقيق رفاهية الأميركيين، وتحقيق أهداف أميركا ومصالحها الاقتصادية في الخارج دون المساس بسمعتها كقوة عالمية واحترامها للمواثيق الدولية والقانون الدولي الإنساني. بالمقابل، كان الحزب الجمهوري يقدم نفسه للأميركيين على أنه حزب محافظ، توجهه نزعة دينية مستمدة من الحضور الكاسح للمسيحيين الإنجيليين والبروتستانت واليهود في صفوفه، وأن الصراع بين النزعة الليبرالية والمحافظة هي التي أثَّرت على مضامين السياسة الخارجية الأميركية، ولذلك أضحى الدعم الديمقراطي لإسرائيل هدفًا بعيد المنال ويحتاج دومًا مبررات ومسوِّغات في حين أن الدعم الجمهوري ظل مفتوحًا ومطلقًا.
ورغم أن الفوارق السياسية والحزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين تتحدد في القضايا المتربط بالدين والأيديولوجيا وطبيعة ووظيفة الطبقة السياسية الحاكمة ممثلة في شخص الرئيس ودوره في توجيه السلطة التنفيذية، فإن طبيعة ووظيفة الفعل السياسي الأميركي تؤكد أن النخبة الحاكمة الموجودة في سدَّة الحكم ودوائر صنع القرار هي من يوجِّه الرأي العام. وهذا ما أوضحه الكتاب بصورة جلية؛ حيث كشف استطلاع للرأي، أُجري في العام 2015، بالأدلة أن الرئيس باراك أوباما لم يكن داعمًا لإسرائيل، وأن هذا الموقف أسهم في انقسام الرأي العام الأميركي؛ حيث أبرزت النتائج أن 48% من مجموع الأميركيين المستجوبين فقط كانوا يدعمون إسرائيل في حين أن نسبة 48% منهم كانوا يرون أن الرئيس أوباما لا يعتبر داعمًا رئيسيًّا لإسرائيل.
أما في عام 2016، ومنذ بدء حملته الرئاسية، سعى الرئيس دونالد ترامب إلى تمييز سياسة الحزب الجمهوري عن سياسة الرئيس الديمقراطي، أوباما، عندما أكد أكثر من مرة أمام أنصاره “أن إسرائيل صديقَتَنا وإحدى أهم الديمقراطيات في الشرق الأوسط انتُقدت وحوربت من قِبَل الرئيس أوباما، الذي لم يكن صديقًا لإسرائيل وتعامل مع إيران بوداعة وعناية”، مؤكدًا أن “هذه السياسة جعلت منها قوة عظمى في حيز زمني ضيق بسبب ما قامت به الحكومة الديمقراطية”.
وبعد أقل من شهر على وصوله البيت الأبيض، استدعى الرئيس، دونالد ترامب، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيَّر من أولويات السياسة الخارجية الأميركية ولتتغير معها أولويات الرأي العام الأميركي، وهذا ما أكده أحد استطلاعات الرأي الذي كشف أن 52% من الأميركيين يدعمون إسرائيل، وأن 13% يرون أن إسرائيل صديق جيد، في حين اعتبر 19% من العيِّنة العامة للاستطلاع أن ترامب صديق حميم لدولة إسرائيل.
وفي العام 2017، قام الرئيس ترامب بزيارة رسمية إلى إسرائيل خلافًا لسابقه، الرئيس أوباما، الذي لم يزرها إلا في ولايته الثانية. لكن اللافت للنظر في الزيارة هو أن ترامب زار حائط البراق والقدس القديمة التي ظلت برأي المنظمات الدولية مناطق مستعمرة من منظور القانون الدولي، وحينها اعتبر ترامب أن العلاقات الأميركية-الإسرائيلية قوية أكثر من السابق. ولم يقف الأمر عند الدعم السياسي بل إن الرئيس ترامب مضى بعيدًا في إعادة بلورة الشراكة الأمنية والاستراتيجية مع إسرائيل من خلال جملة من المواقف السياسية، خاصة منها خروج أميركا من الاتفاق النووي مع إيران، واعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وتأكيد واشنطن سيادة إسرائيل على هضبة الجولان إلى جانب سيادتها على أجزاء من الضفة الغربية.
بهذا المعنى، ظلت إسرائيل ودعمها على رأس سلَّم أولويات ترامب، وهو ما أسهم في تعميق الهوة والانقسام بين النخب السياسة الأميركية، وزاد من تغذية التقاطب على مستوى وسائل الإعلام بين قناة “فوكس نيوز” و”سي أن أن”.
وعلى مستوى الداخل الإسرائيلي، يبدو أن الاسرائيليين أنفسهم كانوا واعين لهذا الانقسام الحزبي في الداخل الأميركي. فقد كشف استطلاع للرأي، أُجري في العام 2017، أن 63% من المستجوبين اعتبروا أن علاقة أميركا بإسرائيل تدهورت على عهد الرئيس أوباما، وأن 50% منهم حمَّلوا الرئيس أوباما مسؤولية تراجع هذه العلاقة، في حين اعتبر 28% من العيِّنة أن مسؤولية التراجع يتحمَّلها كل من أوباما ونتنياهو. وبالمقابل، اعتبر 54% من المستجوبين أن الرئيس ترامب سيعمل على تقوية العلاقة الأميركية-الإسرائيلية. لكن بعد انتهاء زيارته وجولته في القدس الشرقية، ارتفعت النسبة إلى 70%، كما اعتبر 38% من الرأي العام الإسرائيلي أن الحزب الجمهوري ملتزم بأمن وحماية إسرائيل، في حين اعتبر 15% منهم أن الديمقراطيين ملتزمون بأمن وحماية إسرائيل.
ويبقى الجانب الجديد والأبرز في العلاقة الأميركية-الإسرائيلية المتطورة هو ما عبَّر عنه بعض المرشحين للانتخابات الرئاسية الأولية لعام 2020؛ حيث طالب عدد من المرشحين الديمقراطيين، خاصة بيرني ساندرز وإليزابيث وارن، بوقف الدعم الأميركي لإسرائيل إذا ما أقدمت هذه الأخيرة على إلحاق الضفة الغربية بإسرائيل، لكن الرئيس جو بايدن، المرشح الرئاسي حينها، اعتبرها فكرة غير مطروحة وتبدو غريبة.
4. الرأي العام الأميركي ومشروع الدولة الفلسطينية
لا شك أن حالة الانقسام في اتجاهات الرأي العام الأميركي وعلاقته بالنخب السياسة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية، من شأنه أن ينعكس على القضية الفلسطينية ومشروع الدولة المستقلة. ويبدو أنه كلما ازدادت حالات الانقسام بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول تراجع معدلات الدعم المقدمة لإسرائيل، شكَّل ذلك إيذانًا بقرب تحقيق مشروع هذه الدولة.
وقد جاء في الكتاب أن حالات الانقسام بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإسرائيل وصلت ما بين 30% و40%، وأن هذا التراجع يعود لمسألتين رئيسيتين، هما: أولًا: الإفراط الإسرائيلي في استعمال القوة ضد الفلسطينيين. وثانيًا: دعم استقلال الدولة الفلسطينية؛ حيث إن الديمقراطيين يدعمون هذه الفكرة لكن غالبية الجمهوريين يرفضونها.
قد يشكِّل هذان السببان أرضية جديدة لمزيد من الانقسام داخل المشهد الحزبي الأميركي، ويعمِّقان الخلاف على مستوى أولويات كل حزب بخصوص السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط(7).
ففي الوقت الذي نجد فيه الديمقراطيين مهتمين باحترام حقوق الإنسان في بُعدها الكوني، وحل المشاكل الدولية العالقة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، واعتماد الحلول الدبلوماسية كأداة لفض النزاعات، نرى الجمهوريين معنيين فقط بأمن أميركا وحماية حلفائها. ولهذا الانقسام تحديدًا، لا يرى الجمهوريون أية إمكانية لتأسيس الدولة الفلسطينية، وأن همهم الأساس هو أمن إسرائيل.
وهذه المعضلة الانقسامية تجد تفسيرها في الدراسات الاجتماعية الأميركية التي تناولت الموضوع، فهم يرون أن قضية أمن إسرائيل مسألة حساسة لدى الرأي العام الأميركي، كما أن إسرائيل تُقَدَّم في وسائل الإعلام الجماهيري ومن قِبَل النخب السياسية في موقع القرار بأنها “دولة معتدى عليها”. كما أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وما بعدها جعلت المزاج السياسي العام في أميركا يرى العرب مجرد إرهابيين.
وطالما أن دعم إسرائيل لا يحسم نتائج الانتخابات الأميركية لصالح هذا الحزب أو ذاك، وبالرغم من أنها تظل معركة سياسية كبيرة في الداخل الأميركي، فإن المنظور الديمقراطي لمستقبل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد يشكِّل منظورًا لتعزيز حلم الدولة الفلسطينية، لاسيما أن النقاط الخلافية بين الديمقراطيين وإسرائيل كلها تصب في خانة تعزيز مطلب الدولة، والمتمثلة في:
– وقف توسيع نطاق المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
– رفض إسرائيل خطة وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جون كيري، بخصوص السلام في الشرق الأوسط والقائم على حل الدولتين.
– توقيع أميركا على الاتفاق النووي الذي اعتبرته إسرائيل تهديدًا وجوديًّا لها.
ومن المعلوم أنه خلال العهدة الثانية من حكم الرئيس أوباما، تحول المزاج السياسي العام داخل الطبقة السياسية الأميركية وأصبح أكثر حزبية في التعاطي مع إسرائيل والدولة الفلسطينية. وطلب الرئيس أوباما من نتنياهو قبول حلِّ الدولتين ووقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن نتنياهو أوصد الباب في وجه أوباما الذي قال حينها: “هناك خلاف سياسي بيني وبين بنيامين نتنياهو حينما يتعلق الأمر بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة، وهذا الخلاف سيكون له ولا شك تأثير على مستقبل السلام في الشرق الأوسط”.
وكان من نتائج هذا الخلاف أن امتنعت أميركا عن استخدام حق النقض (الفيتو) على قرار 2344، والذي يعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية خرقًا سافرًا للقانون الدولي. وجرَّاء عدم تصويت أميركا تبنى المجتمع الدولي القرار، لكن حينما جاء ترامب قلب الموازين. فقد تحدثت التقارير الأميركية عن ارتفاع عدد المستوطنات في عهد ترامب بنسبة 25% منذ العام 2017. وفي العام 2019، أكد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أن إنشاء المستوطنات لا يمثِّل خرقًا للقانون الدولي، لكن ما إن سيطر الديمقراطيون على مجلس النواب الأميركي حتى طالبوا بوقف الاستيطان ودعم حل الدولتين.
وفي العام 2020، كشف الرئيس دونالد ترامب عن خطته لتحقيق السلام من خلال “صفقة القرن” التي جاءت مضامينها مختزلة في الاعتراف بالدولة الفلسطينية على 30% من الأراضي مع سيادة إسرائيل على 70% بما فيها المستوطنات والوجود في الضفة الغربية والقدس الشرقية بما يجعل حلم الدولة مقطعة الأوصال وتحت السيادة الأمنية الإسرائيلية.
انتقد الديمقراطيون الصفقة، وقال جو بايدن: إن خطة السلام تقتضي لقاء طرفين، وهذه الصفقة خطأ سياسي سيقود أحد الطرفين إلى إلحاق مزيد من الأراضي وبناء المستوطنات.
وبالمحصلة، نجد أنه خلال السنوات الأربعة الأخيرة من حكم الرئيس أوباما وسنوات حكم الرئيس ترامب انتقل مشروع تأسيس الدولة الفلسطينية من النقيض إلى النقيض جرَّاء تباين المواقف السياسية للجهاز التنفيذي الأميركي. وإذا علمنا أن الرئيس الحالي، جو بايدن، كان نائبًا للرئيس أوباما، فإن الانتظارات تبقى معلَّقة حيال ما سيُقدم عليه الرئيس الديمقراطي.
خاتمة
تكمن أهمية كتاب “اتجاهات الرأي العام الأميركي: من التوافق إلى الانقسام “في كون كاتبيه قدَّما مراجعة شاملة وذكية ومدروسة للمواقف الأميركية تجاه إسرائيل من عام 1944 حتى عام 2019، بالنظر إلى كل التغييرات بمرور الوقت والاختلافات بين شرائح السكان الأميركيين. ولذلك، جاء متضمِّنًا لمادة علمية لا غنى عنها لعلماء وطلاب السياسة الخارجية الأميركية والرأي العام وسياسة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، وكذلك محلِّلي السياسة وصنَّاع القرار والصحفيين والمهتمين بالسياسة الأميركية تجاه إسرائيل.
وبالنظر إلى أن استطلاعات الرأي تمثل آلية بحثية مهمة لقياس وتحليل اتجاهات الجمهور العام حول قضية معينة، شريطة اتخاذ جملة محاذير مرتبطة بالأجوبة المقدَّمة من قبل المبحوثين وعدم السقوط في النزعات التعميمية. وفي الوقت الذي نسجل فيه تقديم الكتاب لإجابات موضوعية حول معدلات الانقسام بين الحزبين على مستوى دعم إسرائيل، فإنه لم يقدم أجوبة بشأن درجات تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بل نجده يدفع بصعوبة الوصول فيه إلى موقف موضوعي محدد؛ فحالات التداخل بين المرجعية الدينية والقناعات السياسية والأيديولوجية، أسهمت في جعل قضية الصراع قضية مفتوحة، غير قابلة للحسم حتى إشعار آخر . عرض : عبد السلام رزاق (الجزيرة)