تعتبر التجربة الهندية في التنمية، واحده من أكثر التجارب التي أثارت جدلا كبيرا، بشأن تمكن الهند من تحقيق طفرة كبيرة في التنمية، علي الرغم من ارتفاع نسبة الفقراء بها، حيث يمثل الفقراء حوالي 25 % من السكان في الهند، إضافة إلي أنها استطاعت تحقيق تلك التنمية في ظل الاختلافات، والتناقضات التي تسودها، سواء من حيث عدد الأديان، والمعتقدات ، أو عدد اللغات، واللهجات، حيث تصل عدد اللغات المستخدمة في الهند إلي 33 لغة. ــ و مر الاقتصاد الهندي بمرحلتين هامتين: الأولي مرحلة الانعزال عن العالم، وهي الفترة الممتدة منذ استقلال الهند من الاحتلال البريطاني عام 1947 م التي استمرت حتي أزمة الاقتصاد الهندي عام 1991، و اتسمت هذه المرحلة بالاعتماد علي سياسة الاكتفاء الذاتي، ومركزية الدولة، والتوسع في تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بشكل كبير والاعتماد علي القطاع العام. و انتشرت العديد من المشكلات في تلك المرحله مثل ارتفاع معدلات التضخم، والدخول في مرحلة الإفلاس عام 1991 م، حيث وصل الأمر إلي أن 2 من كل 5 مواطنين في الهند يقعون تحت خط الفقر . في عام 1982 وصل الدين الصافي إلي 46% من الناتج المحلي، ثم ارتفع إلي 75% عام 1990، وبذلك دخلت الهند في مرحلة الخطر عام 1991 حيث وصل الامر أن الدولة لم تعد تمتلك احتياطي نقدي يكفي سوى لأسبوعين فقط . ثم انتقلت الهند إلي مرحلة أخري متناقضة تماما عام 1991، ودخلت مرحلة التحول إلي الاقتصاد الحر والخصخصة، وزيادة دور القطاع الخاص، واتسمت هذه المرحلة بالتحول الحذر، نظراً للتوترات التي شهدتها، والمخاوف من عملية التحول إلي الاقتصاد الرأسمالي، وأجرت التحرير الكامل لسعر صرف العملة الهندية ( الروبية ) عام 1993، واتسمت هذه المرحلة بالانفتاح الاقتصادي، وإلغاء القيود علي الاستثمارات الأجنبية، ورأس المال الأجنبي، وتملك الأجانب في العديد من القطاعات الاقتصادية، حيث تملك الأجانب 49% من قطاع الاتصالات، و 51% من قطاع الأدوية،و ظهرت الهند كتجربة اقتصادية رائده ونمي الاقتصاد الهندي بشكل كبير وارتفع متوسط دخل الفرد ومتوسط العمر، إضافة إلي دخول الهند في الصناعات التكنولوجية ومجال النانو نكنولوجي. . – السياسة المالية ودورها في التنمية الاقتصادية. يظهر دور السياسات المالية الرائد في التجربة الهندية الفريده في التنمية الاقتصادية في الدعم الحكومي الذي وجهته الهند إلي المشروعات الصغيرة، حيث احتلت المشروعات الصغيرة مكانه كبيره في الاقتصاد والصناعة، فمن خلال المشروعات الصغيرة كثيفة العمالة، التي لا تحتاج إلي رأس مال كبير، استطاعت الهند زيادة حجم الإنتاج الصناعي، وتوليد الكثير من فرص العمل، فقد مثل إنتاج المشروعات الصغيرة حوالي 50% من حجم الإنتاج الصناعي، ويعمل بها ما يقرب من 17 مليون عامل، وبذلك أصبحت المشروعات الصغيرة، والمتوسطة تحتل المركز الثاني بعد الزراعه مباشرة . وتعرف المشروعات الصغيرة بأنها المشروعات التي لا تزيد تكلفتها الاستثمارية عن 65 ألف دولار، والمشروعات المتوسطة لا تتعدي 750 ألف دولار، ويتمثل الدعم الحكومي لتلك المشروعات في : 1 – توفير التمويل اللازم لتلك المشروعات بأسعار فائدة منخفضة، لضمان استمرار الإنتاج . 2 – الحماية من المنافسة مع الصناعات الكبيرة حيث أصدرت قوانين توصي بتخصيص 80 سلعه لا ينتجها إلا المشروعات الصغيرة و المتوسطة فقط، إضافة إلي السماح للصناعات الكبيرة بتصنيع المنتجات الخاصة بالمشروعات الصغيرة، بشرط تصدير 50% من ذلك الإنتاج، بهدف تدعيم الصادرات . 3 – توفير البيانات، والمعلومات اللازمة للمشروعات الصغيرة عن حالة الأسواق، واحتياجاتها، إضافة إلي تطبيق أسلوب العناقيد الصناعية الذي ساعد علي تجمع المشروعات الصغيرة، والربط بينها، وإنتاج منتجات مكمله للمشروعات الكبيرة ومغذيه لها، إضافة إلي المساعدة في عمليات التسويق الملائم لانتاج المشروعات الصغيرة والمتوسطه . 4 – تدعيم البنية الأساسية لتلك المشروعات، مع توجيه التدريبات اللازمة للعمال، وتوجيه الدعم الإداري والفني. 5 – العمل علي إنشاء وتعديل القوانين بما بتوافق مع احتياجات تلك المشروعات. 6 – إنشاء جهاز ( إدارة الصناعات الصغيرة والريفية) الذي يعمل علي تعظيم دور المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد القومي، والعمل علي التصدي لكل التحديات والمعوقات لتلك المشروعات. 7 – توجيه الدعم المادي لها حيث أنشأت الهند صندوق لدعم المشروعات الصغيرة، والمتوسطة برأس مال قدره 50مليون دولار . 8 – إقامة نظام للإعفاء الضريبي الخاص بالمشروعات الصغيرة ، الذي يعتمد علي أن تقل نسبة الإعفاء الضريبي بشكل تدريجي مع الزيادة في رأس مال المشروع . 9 – توجيه العديد من الإعفاءات الضريبية، والمزايا الأخرى، في مناطق ريفية، بهدف توزيع عمليات التنمية علي مختلف الأقاليم الجغرافية، وتدعيم التنمية الاقتصادية بتلك المناطق. 10 – إقامة شبكات الطرق، والمياه، والكهرباء، وغيرها، بهدف المساعدة علي تطبيق أسلوب العناقيد الصناعية، والمجمعات الإنتاجية. 11 – إقامة اتفاق بين المشروعات الصغيرة، والمتوسطة وبين الشركات الحكومية يهدف إلي إشراك المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، في إنتاج 30% من المعدات الهندسية الثقيلة، و45% من المعدات الهندسية المتوسطة، و 25% من وسائل النقل، و40% من المنتجات الاستهلاكية. – القطاعات التنموية في الهند 1 – الزراعة: القطاع الزراعي له مكانة كبيرة في الاقتصاد الهندي ودرو كبير في مسيرة التنمية، فالإنتاج الزراعي في الهند يحتل المرتبه الثانية علي مستوي العالم من إجمالي حجم الإنتاج الزراعي العالمي، ويستحوذ قطاع الزراعة علي 60% من إجمالي القوي العاملة، وحوالي 18.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلي الرغم من أهمية الدور الذي يلعبه هذا القطاع الحيوي في التنمية الاقتصادية، إلي أنه يعاني من العديد من المشكلات والتحديات مثل: ــ ارتفاع نسبة الأمية وانخفاض مستويات الوعي، والتعليم بين الأفراد في المناطق الريفية،وبالتالي التأثير السلبي علي إنتاجية الأفراد، وانخفاض الوعي بأساليب التسويق، والتصدير. ــ انخفاض مساحة الملكية من الأراضي الزراعية، ما يعكس انخفاض إنتاج الأرض حيث يقل متوسط الحيازة للاراضي الزراعية عن 20000 سم، بفعل قوانين الملكية للأراضي الزراعية . ــ انتشار ظاهرة البطالة المقنعة في القطاع الزراعي بسبب زياده عدد العمال عن احتياجات الإنتاج. ــ الاعتماد علي وسائل تقليدية في عمليات الري مثل الاعتماد علي الأمطار، والمياه الجوفية، ففي عام 2001 كانت 53% من الأراضي الزراعية تعتمد علي تلك الوسائل البدائية في عمليات الري. 2 – الصناعة : يلعب القطاع الصناعي دورا كبيرا أيضا في عمليات التنمية حيث تحتل الهند المكانه الرابعه عشر علي العالم من حيث حجم الإنتاج الصناعي، إضافة إلي أنه يمثل 28% من إجمالي الناتج المحلي، و 17% من حجم القوى العاملة في الهند. ويرجع ذلك إلي دور المشروعات الصغيرة، والمتوسطة التي يعتمد عليها القطاع الصناعي بشكل كبير فهي تمثل حوالي 40% من حجم الإنتاج الصناعي في الهند. ويلاحظ أن هذا القطاع قد نمي بشكل كبير بعد فتح الباب أمام القطاع الخاص، والاستثمار الأجنبي والدخول في عصر الاقتصاد الحر، ويبلغ معدل نمو هذا القطاع من 4% إلي 5% سنوياً. ويتوافد علي قطاع التصنيع من 6 إلى 8 مليون شخص سنويا من المستوي المتوسط في التدريب، ما يعكس قدرة هذا القطاع علي استيعاب قدر كبير من القوي العاملة . تحتل صناعه الفولاذ مكانه كبيرة في الإنتاج الصناعي في الهند، بفضل حجم إنتاج الهند من الفولاذ، الذي يبلغ 100 مليون طن عام 2011، ومن المتوقع أن يصل الي 200 مليون طن عام 2020. 3 – قطاع الخدمات: ينمو قطاع الخدمات بقوة في الاقتصاد الهندي منذ فترة الثمانينات، فقد وصل في الثمانينات إلي معدل نمو 4.5%، وفي التسعينات وصل إلي 7.5% ، و وصل في الألفية الثالثة إلي 8% ــ 9% وهو يمثل حوالي 60% من إجمالي الناتج المحلي. ويعتمد ذلك القطاع بشكل كبير علي ثورة، وتكنولوجية المعلومات، التي تمثل ثلث إنتاج القطاع الخدمي، و ساعد علي نمو هذا القطاع، توافر الأيدي العاملة الماهرة بأجور منخفضة، مع توسع نشاط الاستثمار الأجنبي، إضافة إلي البنية التحتية المتميزة خاصة في قطاع الاتصالات. و ساعد التحرر الاقتصادي علي تنشيط عمليات التسويق لذلك القطاع في الخارج، وتزايد العمليات والصفقات من الباطن في ذلك القطاع، وامتدت إلي معظم الأعمال بما فيها الصحة، والمحاماة وغيرها، و مثلت تلك الأعمال حوالي ثلث الإنتاج في القطاع الخدمي . المحور الثالث – المبادرات التي نفذتها الهند لدعم التنمية الاقتصادية: نفذت الهند عدة مبادرات لدعم التنمية الاقتصادية والنهوض اقتصاديا: 1– المدن الذكية: طرحت الحكومة الهندية مبادرة “المدن الذكية” بالتعاون مع الولايات الهندية، والحكم المحلي، بهدف دفع النمو الحضري من خلال تعديل البنية التحتية حيث تتعمد لقيادة النمو الاقتصادي، وتحسين جودة المعيشة للناس عن طريق تنمية المناطق المحلية، وتسخير التكنولوجيا، ويكون تركيز المدن الذكية علي تحسين المدينة وتجديدها، وتوسيعها، حيث نفذت المبادرة في كل الولايات بنائاً علي تقدير خلفية كما يتوقع تنفيذها كمخطط برعاية مركزية حيث خصصت حكومة الاتحاد 48000 كرور/ روبية علي مدار خمس سنوات بمتوسط 100 كرور/ روبية للمدينة في السنة، ما يعادل ما تساهم به الولاية في المرحلة الأولي من التنفيذ وقد تم تقييم 20 مدينة للتنفيذ وفق تلك المبادرة. 2– اصنع في الهند: طرحت مباردة “اصنع في الهند” بهدف أن تصبح الهند محور صناعي عالمي حيث يتوقع دعم زيادة الأعمال في قطاعات الصناعة والخدمات والبنية التحتية، رفعت الحكومة الهندية شعار استثمر في الهند من أجل ترويج الاستثمار تحت نفس المبادرة كما تم تكوين خلية تسهيلات أساسا لدعم كل استفسارات الاستثمار، والاتصال بالعديد من الوكالات بالنيابة عن المستثمرين المحتملين. 3– تسهيل عمل الاستثمار: مبادرة “تسهيل عمل الاستثمار” تهدف لتحسين بيئة العمل في الهند حيث قامت الحكومة ببحث وتشريع عدة قوانيين تتجه نحو تسهيل أعمال بدء، وإقامة المشروعات، والأعمال، ومن هذه الإجراءات:( التقديم الإلكتروني للحصول علي الرخص الصناعية عن طريق الإنترنت – حصر الوثائق المطلوبة لأعمال التصدير والاستيراد علي 3وثائق- وإزالة متطلبات الحد الأدنى من رأس المال المدفوع لإقامة وتكوين الشركات – ومنح التصريح الأمني علي الرخصة الصناعية خلال 12 يوم – وخضوع الإجراءات لخلية التسهيلات المقامة في مبادرة “استثمر في الهند” كالباقيين). 4– مشروع القطار السريع: وافقت لجنة الشئؤن الاقتصادية في الحكومة علي مشروع القطار السريع في ديسمبر 2015، ليتم تنفيذ الدعم التقني والمالي من اليابان في نفس الشهر حيث وقعت كلا الحكومتين مذكرة تفاهم حول التعاون من أجل إنجاز هذا المشروع، وتكون التكلفة الكلية حوالي 97636كرور/ روبية كما يتوقع من اليابان تقديم دعم مالي، وتسهيلات سداد علي 50 سنة بمعدل فائدة 0.01 % ويبلغ طوله 508 كم بين مومباي، وجوجارات حيث تصل سرعته القصوى إلي 350كم/ساعة ويتوقع أن يستفيد من هذا المشروع 13مليون مسافر وفي عام 2023 سيصل العدد الي 68 مليون مسافر. – التحديات التي تواجه الاقتصاد الهندي علي الرغم من الانجازات الكبيرة التي حدثت في الاقتصاد الهندي إلا انه مازال يواجه عدد من التحديات الهامة التي تتمثل في : 1 – انتشار الفقر حيث مازال يعاني حوالي 28% من المواطنيين تحت خط الفقر . 2 – ازدياد الحجم السكاني للهند حيث تجاوز مليار نسمه، وبالتالي ارتفاع حجم الطلب، خاصة الطلب علي الطاقة فتحتل الهند المرتبة السادسة علي العالم من حيث استهلاك الطاقة . مع ارتفاع عدد السكان والطلب علي الطاقه فستزداد استهلاك الهند من الطاقه بنسبة 90% عام 2020، ما يمثل تحدي كبير لمسيرة التنمية الاقتصادية وذلك علي الرغم من الجهود الحكومية المبذولة في البحث عن مزيد من المصادر النفطية ومصادر الطاقه بشكل عام. المحور الخامس – الدروس المستفادة من التجربة الهندية: هناك العديد من الدروس المستفادة من التجربة الهندية التي يجب علي آي دولة نامية أن تقتضي بتلك التجربة ومحاولة الاستفادة منها، ومن هذه الدروس: 1 – ضرورة الاعتماد علي سياسة الاكتفاء الذاتي. 2 – التوجه نحو اقتصاديات السوق الحر. 3 – تشجيع دور القطاع الخاص والمشاركة في عملية التنمية. 4 – توجيه كل أنواع الدعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة . 5 – تدعيم البنية التحتية واستخدام التكنولوجيا الحديثة في الإنتاج .