كتب محمد خير الوادي :
قبل نحو عام ،كانت الامور في العالم مختلفة تماما عما هي عليه اليوم .فقد بدا انذاك ، ان عالم تعدد الاقطاب بات في طريقه الى التحقق مع تراجع الغرب عامة ،وانحسار النفوذ الامريكي بشكل خاص . حتى انه في احدى الندوات الفكرية التي شاركتُ فيها انذاك، عقٌبَ احد المحاضرين الصينيين على مصطلح الغرب قائلا: “ان الوقائع التي ولدٌت مصطلح الغرب كتكتل سياسي، بدأت بالانحلال ، لذلك لم يعد صحيحيا النظر الى الغرب كقوة واحدة تحدد السياسة الدولية “.
كانت هذه المقولة – آنذاك -اقرب الى الواقع فعلا .فالغرب كان ممزقا : امريكا -عماد الغرب -كانت غارقة في صراعاتها الداخلية ، وترامب لم يحترم حتى حلفائه الغربيين المقربين ، كما انحسر الوزن الامريكي العالمي بعد خروج اواشنطن من عدة اتفاقات ومنظمات دولية .
وفي اوربا ، كانت علامات التفتت بادية للعيان . فبريطانيا خرجت من الاتحاد الاوربي ، واوربا تحولت الى ما يشبه الرجل المريض .كما تزايد بشكل لافت دور موسكو في المسائل الاوربية ،فلم تعد روسيا المورٌد الاساسي لحوامل الطاقة الى اوربا فحسب ،بل بدأ الكرملين يمارس دورا هجوميا في المسائل الاوربية ، لم نشهده منذ هزيمة نابوليون عام 1812 . وبات الرئيس الروسي بوتين يملك تأثيرا كبيرا على القوى والاحزاب الاوربية ، التي جاهرت بعلاقتها المتينة مع الكرملين ، وأكثرت من انتقادها لأمريكا .
وفي الوقت نفسه تضاعف تأثير بكين في الفضاء الاوربي،وغدت الصين احدى القوى المؤثرة جدا في القرار الاوربي .اقتصاديا ،اصبحت الاسواق الاوربية تعتمد بشكل اساسي على المنتجات الصينية ، وصار الاقتصاد الصيني الوجهة الاساسية للاستثمارات الاوربية . وسياسيا ، باتت الدول الاوربية تخشى من اتخاذ اي قرار يزعج الصين . وبآن واحد ظهرت فعاليات سياسية جديدة في اوربا ، منها القمة الدورية الاوربية الصينية ، واجتماعات رؤوساء وزارء دول شرقي اوربا -الصين ،والمجالس الثقافية والاقتصادية الصينية الاوربية المشتركة .كما اجتاح طريق الحرير الصيني القارة العجوز ، وسيطرت الصين على موانيء كثيرة في كل من اليونان وايطاليا ومالطا . وسببت جائحة كوريا مزيدا من الازمات لاوربا ، واظهرت عجزها على مقاومة الجائحة ،في الوقت الذي نجحت الصين في ذلك .
لكن هذه الاوضاع تغيرت مع قدوم بايدن ، الذي بدأ يعيد الحياة لدور امريكا وتحالفاتها الدولية . وقد خدمت الازمات المتلاحقة التي انفجرت في كل من بحر الصين الجنوبي واوكرانيا توجهات البيت الابيض هذه . لا بل انه يمكن القول ، ان هذه الازمات كانت بمثابة هدية السماء التي تلفقها بايدن بسرعة وذكاء ، وبدأ باستثمارها الى ابعد الحدود من اجل تعزيز دور امريكا ونفوذها في العالم .
ففي جنوب شرقي آسيا ، استثمرت امريكا نهج بكين الاقتحامي الجديد من اجل احياء احلاف قديمة ، كانت على وشك الانقراض ، مثل الحلف الرباعي الامني الذي يضم امريكا والهند واوستراليا واليابان ، كما ظهر حلف جديد يضم اوستراليا وبريطانيا بقيادة امريكية . وهذه الاحلاف كلها موجهة ضد الصين .واستغلت واشنطن قضايا الجزر المختلف عليها مع الصين لتعزيز وجود البنتاغون في عدد من دول جنوب شرق آسيا ، بمافيها فيتنام . وارتقت العلاقات اليابانية الامريكية الى مستويات جديدة من التعاون العسكري ، فضاعفت اليابان انفاقها العسكري عدة مرات ، وحصلت طوكيو على احدث المقاتلات والاسلحة الفتاكة الامريكية . و شجعت واشنطن تايوان على تحدي الصين وتازيم العلاقات معها .
ونشاهد اليوم كيف غيرت الازمة الاوكرانية الوضع في العالم . فقد اظهرت هذه الازمة الغربَ موحدا بقيادة امريكا ضد روسيا ، كما توحدت عمليا اوربا في وجه موسكو ، ولم نسمع تصريحا من اية دولة اوربية يساند مطالب روسيا المشروعة في اعادة صياغة الامن في اوربا . وفاقمت هستيريا الحرب التي تنفخ واشنطن في اوراها يوميا ،مشاعر العداء للروس بشكل غير مسبوق ، وباتت مطالب الناتو المالية والعسكرية تلقى آذانا صاغية ،حتى لدى بعض الدول الاوربية التي كانت تعارض ذلك سابقا . وتوحد الاوربيون او معظمهم امام الخطر الروسي المزعوم .وباتت واشنطن تتفاوض مع روسيا باسم الغرب كله .وظهر بايدن منتشيا ليعلن : ان الغرب كله موحد ضد روسيا .
وفي الوقت نفسه ، تجرأ الاتحاد الاوربي – وبدعم امريكي -على اتخاذ أول عقوبات ضد الصين ، واقامت ليتوانياعلاقات مع تايوان ، ومنعت منتجات شركة هواوي الصينية من دخول الاسواق الليتوانية ، وزار وفد من البرلمان الاوربي تايوان ، وجال رؤوساء بلديات عدد من العواصم الاوربية في شوارع تايبيه . واتخذت اجراءات اقنصادية ضد الشركات الصينية .
ورغم ان الازمة حول اوكرانيا وكذلك الاوضاع المتوترة في بحر الصين الجنوبي لم تنته بعد ، الا انه يمكن القول ، ان واشنطن قد استغلت هذه الازمات من اجل دفع الدول الغربية الى تناسي خلافاتها ، والظهور كتلة موحدة ،معادية لكل من روسيا والصين .
26/1/2022