في فيلم لمدة ساعتين أعدّه المكتب الإعلامي للكنيسة الارثوذكسية الروسية وعرضته في شهر تموز الماضي قناة «روسيا الأولى» التلفزيونية، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن «الكنيسة ملأت الفراغ الأخلاقي بسبب غياب القيم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي»، واعتبرها «شريكاً طبيعياً» للسلطة السياسية. وأوضح بوتين أن هناك تعاوناً بين الكنيسة والدولة، مشدداً على عودة الكنيسة الى الواجهة بعد ان تعرّضت للقمع خلال الحقبة السوفياتية. وقال بوتين أيضاً «إنه في أصعب الاوقات التي مرّ بها تاريخنا عاد شعبنا الى جذوره، الى الديانة المسيحية والى القيم الروحية». وتعدّ هذه التصريحات هي الأوضح للرئيس بوتين بشأن الدين والدولة في روسيا. وبعد ذلك بأسبوع واحد، شارك بوتين في احتفالات مهيبة جرت في أوكرانيا بمناسبة الذكرى الـ 1025 لتعميد «روسيا». ومن المعروف أن روسيا اعتنقت المسيحية عندما كانت مدينة كييف عاصمتها. وشهدت الساحة الحمراء في موسكو أيضاً احتفالات ضخمة بمناسبة هذه الذكرى. وقبل ذلك، وفي أحد خطاباته الموجهة إلى الداخل الروسي في كانون الأول من العام الماضي، دان بوتين غياب القيم الروحية في روسيا، واستشهد بكلمات للبطريرك اعتبر فيها أن الدين هو «القيمة الروحية الوحيدة» في المجتمع الروسي. إن هذا السلوك اللافت للرئيس الروسي يعكس، برأينا، وجود علاقة «حميمية» بين بوتين والكنيسة الروسية ورأسها البطريرك كيريل، الذي تولى منصبه في العام 2009. وفي هذه العلاقة تختلط السياسة بالدين، ويختلط الدين بالسياسة، في لوحة تعكس حاجة الطرفين إلى بعضهما بعضاً ودعم كل طرف للآخر في الظروف العادية والصعبة أيضاً، خاصة أن استطلاعات الرأي الأخيرة في روسيا تشير إلى ارتفاع نسبة الممتعضين من سياسات الرئيس الروسي إلى 22 في المئة بعد أن كانت 9 في المئة فقط منذ عشر سنوات تقريباً. لقد كان الحكم بالسجن لمدة سنتين في العام الماضي على فتاتين من فرقة «بوسي رايوت» لأداء أغنية في كاتدرائية «المسيح المخلص» في موسكو تطالب «الرب» بإنقاذ الشعب الروسي من بوتين، كان أحد تجليات هذه العلاقة «الحميمة». فقد دان بوتين ما فعلته هذه الفرقة الغنائية واعتبره «تدميراً» للأسس الأخلاقية للمجتمع الروسي، ومن ثم بارك العقوبة الصادرة بحق الفتاتين. ومن التجليات الأخرى لهذه العلاقة، وصف البطريرك كيريل لبوتين بأنه «معجزة الرب»، الذي استطاع انتشال روسيا من الواقع المؤلم الذي أصابها، ومن الضياع الذي دخلت فيه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينيات». واعتبر البطريرك أن بوتين «إصلاحي أرسلته العناية الإلهية لينقذ روسيا». وفي لقاء تلفزيوني لاحق انتقد البطريرك الليبرالية واعتبرها ستؤدي إلى «الانهيار»، منتقداً بذلك خصوم بوتين الليبراليين. إن موقف البطريريك كيريل الداعم لبوتين، دفع القوى الليبرالية والمدنية في روسيا إلى انتقاد البطريرك وسعيه إلى دمج الكنيسة مع الدولة. وبشكل عام يمكن القول إن بعد إعادة انتخاب فلاديمير بوتين لولاية رئاسية ثالثة في آذار 2012، علت أصوات الكثيرين من رجال الكنيسة الروسية بالدفاع عنه ضد معارضيه. كما أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أقدمت في العام 2011 على خطوة لافتة تماماً تسمح لرجالها بإمكانية الترشح للانتخابات بهدف حماية المصالح الكنسية، وأعلنت أنه يمكن لرجال الدين الترشح في الانتخابات بعد حصولهم على دعم المُجمع المقدس الكنسي، وذلك في ظل صمت السلطات الرسمية التي باركت على ما يبدو تلك الخطوة. وعادة ما يُغطي التلفزيون الروسي العام خطابات البطريرك والأعياد والصلوات الدينية. وتُعدّ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أكبر كنيسة شرقية، ويزيد عدد أتباعها على 250 مليون نسمة، حسب التقديرات الروسية. وقد دخلت المسيحية إلى روسيا في العام 988 ميلادية على يد «فلاديمير الأول» أمير «كييف». ومع قيام الثورة البلشفية في العام 1917 تعرّضت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لاضطهاد شديد، وفي العام 1925 سُجن البطريرك وقُتل. ولكن عندما بدأت الحرب العالمية الثانية وباتت الحاجة ملحة إلى رفع معنويات الشعب، استدعى ستالين في العام 1943 كبار رجال الدين الأرثوذكس الروس، وأصدر قراراً بإعادة إنشاء مؤسسة البطريركية، وانتخاب المطران «سيرغي» بطريركاً للكنيسة الروسية. وكانت هذه الخطوة لافتة تماماً في العلاقة بين موسكو الشيوعية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية. ولا شك في أن الكنيسة الروسية تكسب كثيراً من وراء علاقتها الحميمية مع الرئيس بوتين عبر السماح لها ببناء الكثير من الكنائس داخل روسيا وخارجها وتوسيع ممتلكاتها من العقارات والأراضي، كما يسمح لها بالنشاط الاقتصادي المربح وفق قواعد خاصة تسهيلية. كما لوحظ في الفترة الأخيرة تزايد دور الكنيسة في الشأن الخارجي، حيث ظهر تنسيق بينها وبين الخارجية الروسية في الأزمة السورية وفي قضايا أخرى تخص منطقة الشرق الأوسط، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. في الوقت نفسه، تستفيد السلطة السياسية في روسيا، وربما بوتين شخصياً، من علاقتها الحميمة بالكنيسة باعتبارها رصيداً «جماهيرياً» في الانتخابات بمستوياتها المختلفة. فالكنيسة، في ظل مجتمع تقول الاستطلاعات بأن أكثر من نصف الروس فيه يميل حالياً إلى التديّن، تكون مفيدة تماماً أثناء التصويت في الانتخابات. إن هذه العلاقة «الحميمية» الحالية بين بوتين والكنيسة تعكس فيما تعكس حالة تاريخية روسية تشير بشكل عام إلى أن الكنيسة الروسية كانت تابعة، وبدرجة كبيرة، لسلطة الدولة سواء في عهد الامبراطورية أو في زمن الاتحاد السوفياتي أو في زمن ما بعد تفكك وانهيار الدولة السوفياتية، حيث كان تراجعها عن هذه التبعية يجعلها مهمّشة ويعرضها للاضطهاد في بعض الأحيان. وفي الحقيقة، ينطبق الأمر نفسه على الإدارة الدينية الرسمية للمسلمين الروس والتي تدور أيضاً في فلك السلطات الرسمية وتعيش هي الأخرى حالة من التبعية لتلك السلطات. وفي الختام، يمكن القول إنه بالرغم من مظاهر العلمانية والدولة المدنية في روسيا، إلا أن دور الكنيسة بدأ يتزايد بشكل ملحوظ في المجتمع الروسي خلال السنوات الأخيرة. الأمر الذي تخشاه القوى السياسية ذات الطابع العلماني والمدني. ولكن السلطات الرسمية، يبدو أنها لا تخشى تصاعد مثل هذا الدور للكنيسة طالما ظل تحت السيطرة، وطالما كان من الممكن توظيفه لأغراض سياسية. السفير |