( من دراسة لمحمد الشرقاوي)
تتتبَّع الدراسة وتيرة تصاعد الخطاب المناوئ للصهيونية وتفسيره لديناميات الحرب على غزة، في النصف الأول من 2024، في سياق تمدد نطاق المظاهرات واعتصامات الطلاب في الجامعات الأميركية والأوروبية. وترصد الأبعاد التي تُشكِّل صورة إسرائيل في بنية هذا الخطاب من ناحية، وصورة حماس وبقية حركات المقاومة والذات الفلسطينية وحقها في الوجود والسيادة من ناحية أخرى. وتركز الدراسة على سؤال إشكالي يتفاعل في سجالات النخب السياسية والرأي العام وتصوراتهما في الغرب: هل يعني الحراك الاجتماعي والسياسي في الغرب أن أصوات النقد والمساءلة الأخلاقية تجاوزت مدى تأثير الصهيونية للمرة الأولى منذ انتشار كتابات دعاتها الأوائل، مثل ليون بينسكر وتيودور هرتزل، أم أن مآسي الحرب على غزة تعكس تلقائيًّا تآكل الصهيونية من الداخل؟
لا تخرج علائقية العداء في حالات الحرب وجدلية السياسة والأخلاق بين الفعل الذي يُمعن في استخدام القوة ويُقوِّض قيم الإنسانية، وردِّ الفعل الموازي الذي يتبنَّى ردًّا نقديًّا جريئًا على خطايا السياسة، عما يُشبه القانون الفيزيائي الذي حدَّده إسحاق نيوتن (Isaac Newton) بقوله: “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه”. فكلما ازداد قصف الجيش الإسرائيلي في دكِّ قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستهداف المدنيين وتجليات الكارثة الإنسانية وتفشي الأمراض والمجاعة، واستمرار اجتياح رفح، ازدادت وتيرة الحراك المناهض للصهيونية في الدول الغربية المؤيدة تاريخيًّا لإسرائيل. ويجسد هذا الوضع زخمًا غير مسبوق يزداد حيوية بفعل صدى السجالات القانونية في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فضلًا عن المعركة المفتوحة بين خطاب الصهينة والخطاب المضاد الذي يُندِّد بحدوث “إبادة جماعية” للفلسطينيين. ويختزل هذا النقاش إحدى اللحظات المهمة التي تُحدِّد مسار التحولات المفصلية في تاريخ الصراعات الممتدة. يقول وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق عمليات الإسعاف في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث: إن “الفظائع التي يتعرض لها سكان غزة، والمأساة الإنسانية التي يعانونها، ماثلة أمام أعين العالم، وقد وثَّقها
ليس الحديث عن الصهيونية أو خطاياها، باعتبارها “شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، حسب تصنيف الأمم المتحدة بموجب القرار 3379 الصادر في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975، نقاشًا قديمًا قد هدأت عاصفته في الغرب، بل تثير تداعيات الحرب على غزة سجالًا دوليًّا واسع النطاق حتى في الولايات المتحدة التي تُعد أقوى الدول المساندة لإسرائيل. ويتعزَّز هذا الزخم بالنقاشات بين من يعتدُّون بسياسة القوة وفرض الأمر الواقع (الواقعية السياسية التي يستند إليه تحالف الحكومات الغربية مع إسرائيل)، ومن ينادون بسياسة القيم أو الفضيلة السياسية كناية عن المثالية السياسية التي تنادي مؤسسات المجتمع المدني العالمي من خلالها بوجوب الالتزام ببنود القانون الدولي الإنساني في ضوء مرجعياته الأساسية: اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولات لاهاي لعام 1977، ومبدأ “المسؤولية عن الحماية” المعروف باسم “R2P” (Responsibility to Protect) الذي تبنَّته الأمم المتحدة في عام 2005.
يتعزَّز السجال حول مآل الصهيونية أيضًا بأصداء الدعوى التي قدَّمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بشأن ارتكابها أفعالًا تُصنَّف في إطار “الإبادة الجماعية”، وضعف حجة المحامين المدافعين عن إسرائيل، وردِّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بلغة التحدي قائلًا خلال اجتماع لمجلس الوزراء في تل أبيب: “سنواصل حربنا الدفاعية التي لا نظير لها في العدالة والأخلاق”(2). وفي ظل هذا الحراك القانوني، تأجَّجت اعتصامات الطلاب في عدد ليس بقليل من الجامعات الرفيعة في الغرب، من هارفارد وكولومبيا وجورج واشنطن وكاليفورينا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في شرق الولايات المتحدة إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في أقصى الغرب الأميركي، إلى السوربون ومعهد العلوم السياسية في فرنسا، وجامعات أخرى في ألمانيا والنرويج وبقية أوروبا، حيث تتمدد حركة التنديد بسياسات نتنياهو وبالدعم العسكري والسياسي الذي تُقدِّمه دول الغرب إلى إسرائيل. وتدخلت قوات الأمن بعنف في أغلب تلك الاعتصامات، وقامت باحتجاز عدد من النشطاء. ويوضح ديريك بنسلار (Derek Penslar)، مدير مركز الدراسات اليهودية في جامعة هارفارد ومؤلِّف كتاب: “الصهيونية: حالة عاطفية” (Zionism: An Emotional State)، أن الأمر لا يتعلق بالأرقام، بل إن “هؤلاء الشباب مهمون”، ويُبيِّن أن “اليهود الأكثر انتقادًا لإسرائيل يتركزون في مؤسسات النخبة، مثل الجامعات رفيعة المستوى والسمعة. ويميل هؤلاء إلى أن يكونوا متميزين وأذكياء وناجحين للغاية، وسيستمرون في شغل مناصب السلطة والتأثير في المجال العام. ومن ثم، سيكون هناك تأثير مضاعف لوجهات نظرهم