https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

 

المؤلف:توني جت

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ترجمان”، كتاب بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ عام 1945، Postwar: A History of Europe Since 1945. وهو من تأليف توني جَتْ Tony Judt (ت. 2010)، وهو مؤرخ وكاتب وأستاذ جامعي، شغل منصبي أستاذ التاريخ الأوروبي ومدير مركز إريك ماريا ريمارك بجامعة نيويورك وزميل في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم. يُعَدّ كتاب ما بعد الحرب من أشهر أعماله، وقد أرخ فيه لأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. دخل جَتْ اليهودي عالم السياسة الإسرائيلية في سن مبكرة، وكان نشطًا في خدمة دولة إسرائيل، إلا أن مواقفه تجاه المشروع الصهيوني شهدت تحولًا واضحًا نحو معارضة هذا المشروع بعد حرب 1967، من جرّاء تأثره بمشكلات اللاجئين الفلسطينيين ومعاناتهم وانهيار حلمه ببناء مجتمع إسرائيلي اشتراكي قائم على العمل، فبات على تماس مع القضايا العربية ومن دعاة حل الدولة الواحدة للصراع العربي – الإسرائيلي التي تعطي حقوقًا متساوية لكل المقيمين فيها، وهو أحد أهم المثقفين المهتمين بالقضية الفلسطينية والمعارضين للسياسات الإسرائيلية على الرغم من اتهامه بمعاداة السامية.

 

يحتوي الكتاب على أربعة أقسام، وأربعة وعشرين فصلًا. تَرجمه إلى العربية جمال صالح سعيد، وراجعه أمين الأيوبي، وهو يقع في 1344 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

الفرادة الأوروبية

 

لا شك في أن أوروبا قارة فريدة، من حيث اختلافاتها الشديدة أو تناقضاتها الداخلية الكثيرة، حتى قالوا إنها تتألف في الواقع من أكثر من ستة وأربعين كيانًا، في داخل كل منها دول وأمم، لها تواريخ متميزة، وقد فاقت المؤلفات عنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الحصر. ويقدِّم بعد الحرب تفسيرًا شخصيًّا من مؤلِّفه لماضي أوروبا القريب، ويصرح بأنه استند في كتابته إلى مؤلفات أخرى، كـ: عصر التطرفات  The Age of Extremes لإريك هوبزباوم، وأوروبا في القرن العشرين Europe in the Twentieth Century لجورج ليختهايم، والتاريخ الإنكليزي 1914-1945، English History 1914-1945 لألن جون بيرسيفال تايلور، ومرور الوهم The Passing of an Illusion لفرانسوا فوريه، وبأنه استفاد من كتابات هارولد جيمس، ومارك مازور، وأندرو مورافكسيك، وبالأخص بحوث ألن ميلوورد حول اقتصاد ما بعد الحرب، ومن “كوكبة من الباحثين الموهوبين الشباب” في تاريخ أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، هم براد أبرامز وكاترين ميردايل ومارسي شور وتيموثي سنايدر، ومن صديقَيه جاك روبنيك وإستيفان ديك، ومن تيموثي غارتون آش، وذلك فيما يتعلق بالألمانيتين في حقبة السياسة الشرقية الجديدة، ومن جان غروس (في حوار استمر سنوات) بخصوص تاريخ بولندا والتبعات الاجتماعية للحرب. كما ذكر توني جَتْ أن الفضل في الأقسام المتعلقة بإيطاليا يعود إلى كتاب بول جينسبورغ، أما مادة الكتاب المتعلقة بإسبانيا فكانت انعكاسًا لما تعلمه المؤلف من كتابات فيكتور بيريز دياز، كما اعتبر أنه مدين بشكر عميق لتحليل أنيت فيفيوركا الرصين لـ “الهولوكوست” في كتابها الإبعاد والإبادة الجماعية Déportation et Génocide، وهو تحليل “ترك عميق الأثر في [… نظرته] إلى هذه القصة المضطربة”. وأشار إلى أن أفكاره النهائية حول أوروبا تأثرت بمفهوم “الدولة المقسمة” الذي أوردته آن ماري سلوتر في كتابها نظام عالمي جديد A New World Order، وأن بصمات لأعمال هؤلاء جميعًا تظهر بوضوح في بعد الحرب.

أسباب تأليف كتاب بعد الحرب وفائدة التأخر في إصداره

 

يتناول كتاب بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ عام 1945 آليات انتقال أوروبا من أتون الحرب إلى ما تعرفه اليوم من رفاه، ويوضح أسباب الملامح المتمايزة بين بلدان الاتحاد الأوروبي اليوم. ويذكر كاتبه أن ما جعله يعقد العزم على الشروع في تسويده كان تأثرَه الشديد بتحقيق كتّابِ مسرحيات ومؤرخين أعضاء في “المنتدى المدني” في براغ بقيادة فاتسلاف هافل، في كانون الأول/ ديسمبر 1989، إنجازًا هائلًا تمثل بإسقاط دولة بوليسية شيوعية حكمت 40 عامًا بما سمي “الاشتراكية الحقيقية” ورميها في مزبلة التاريخ، قبل أسابيع من حدث فاق الأول بأهميته هو هدم جدار برلين، الذي حسر الأنظمة القديمة المطلقة القوة في أوروبا الشرقية واحدًا تلو الآخر وأفقدها صلتها بالواقع، فدعا الحزبُ الشيوعي الليتواني إلى “الاستقلال الفوري” عن الاتحاد السوفياتي، وبثت الإذاعة النمساوية من سيارة أجرة التقارير الأولى عن انتفاضة الرومانيين ضد دكتاتورية نيكولاي تشاوشيسكو، فكأن زلزالًا حطم الفسيفساء الأوروبية المتجمدة لأوروبا بعد الحرب لتبدأ عملية تجميع فسيفساء أوروبا أخرى جديدة باتت معها الحرب الباردة، وشقاق الشرق والغرب، والسباق بين “الشيوعية” و”الرأسمالية” وغيرها، عبارات لا تُفهَم بوصفها نتاجًا للضرورة الأيديولوجية أو المنطق الحديدي في السياسة، بل بوصفها نتائج عرضية للتاريخ نُحِّيت جانبًا. أما بعد عام 1989 فسيبدو مستقبل أوروبا مختلفًا للغاية، وسيُنظر إلى السنوات في الفترة 1945-1989 لا بوصفها عتبة لحقبة جديدة، بل مرحلة مؤقتة للنزاع الذي انتهى في عام 1945.

 

ومع تراجع فيينا ما بين الحربين العالميتين من عاصمة عالمية لإمبراطورية مجيدة إلى عاصمة دولة ضعيفة، جرى نسيان ولائها للنازية وباتت رائدةَ العالم الحر وأنموذجًا له، وصارت في سنوات أفول الشيوعية مركزًا لحرية الكلمة، ومكانًا لتلاقي الأوروبيين الشرقيين الفارين إلى الغرب، والغربيين الذين يبنون جسورًا مع الشرق، وتحولت في عام 1989 إلى ساحة للتفكير، وعاصمة مرفهة غنية لا بطالة فيها، تتمتع بأمن خارجي تضمنه المظلة النووية الغربية، لكنها كانت أكثر صمتًا بشأن بعض أهلها من اليهود الذين ساهم العنف الشديد في خروجهم منها نحو الشرق ومسحهم من ذاكرتها.

 

يقول الكاتب إن تأخره في إنهاء كتابه بعد الحرب سنوات عدة بعد الشروع فيه عام 1989 كان أمرًا إيجابيًّا، إذ توضحت له أمور بعد غموض، وفُتحت أمامه أرشيفات، وانجلت التباسات، واتضح غموض بعضِ نتائج انتفاضة عام 1989، كتلك التي اكتشفها خلال زيارة فيينا في عام 1999، حين وجد أن رئيس حزب الحرية يورغ هايدر قد فاز بـ 27 في المئة من أصوات مواطنيه على الرغم من إعجابه الصريح بـ “الرجال الشرفاء” في الجيوش النازية الذين “أدوا واجبهم” على الجبهة الشرقية، مستغلًّا قلق النمساويين وعدم تفطنهم إلى التغيرات في العالم.

 

يسرد كتاب بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ عام 1945 قصة أوروبا بدءًا من عام 1945، ولكن تحت تأثير قصة حرب أولى استمرت 30 عامًا (منذ عام 1914)، ومات فيها نصف ذكور صربيا، على سبيل المثال، من دون أن تَحُلّ أي مشكلة أو تُسحَق ألمانيا فيها أو في التسوية بعدها: فقد بلغت ألمانيا الهيمنةَ شبهَ المطلقة على أوروبا بعد 25 عامًا، وتجاوزت تكلفةُ انتصار الحلفاء تكلفةَ هزيمة ألمانيا، التي لم تدفع ديون الحرب الأولى، وظهرت في عام 1918 أقوى نسبيًّا مما كانت عليه في عام 1913، وبقيت “المسألة الألمانية” التي ظهرت في أوروبا مع صعود بروسيا من دون حل.

 

ومع هزيمة الإمبراطوريات في عام 1918 (روسيا وألمانيا والنمسا وهنغاريا وبلغاريا) انتشر في دولها الفقر، وانعدم الاستقرار والأمن، وبدا التذمر والاستياء من جاراتها، فانتظرت روسيا فرصة لتعيد النصفة إلى نفسها، وسط عدم استقرار دولي لم تستطع تسوية 1918 القضاء عليه، فلم تخمد نيران الحروب المتفرقة محليًّا، نتيجة المهاترات القومية والتمييز العنصري، والمواجهات الطبقية والحروب الأهلية، كما تفاقمت الصراعات والعداوات بين الدول في السنوات الفاصلة بين الحربين العالميتين، وشلَّت الحياة الاقتصادية في أوروبا، وأفلست دول، وبلغ الانكماش الاقتصادي والبطالة مستويات غير مسبوقة أدت إلى انهيار التجارة الدولية.

 

أما انتعاش أوروبا فحكاية أخرى، فمجرد عودة ظهور دول منفصلة في أوروبا بعد الحرب، وغياب المشاحنات داخلها، والتوسع المستمر لأشكال التعاون داخل القارة، والانتعاش الاقتصادي المطرد بعد 30 عامًا من الركود، “كان انتعاش أوروبا معجزة”. نهضت أوروبا من الرماد كطائر العنقاء، لكنها قامت مسالمة معتدلة، لأن أوروبا “ما بعد القومية” تعلمت دروسًا مريرة من التاريخ. يحتوي هذا الوصف لأوروبا على نواة الحقيقة، لكنه يُسقط الكثير، فأوروبا الشرقية لا تتلاءم مع هذا الوصف، إذ فرض الجيش الأحمر سلامًا بالدبابات على عقود ما بعد الحرب، كما كان تعاون دولها سطحيًّا مقارنة بالغرب، لأن موسكو فرضت عليها مؤسسات “أخوية” بالقوة.

قرار الشعوب الأوروبية عدم العودة إلى الحرب

 

فرض إرث الحرب العالمية الثانية ونتائج الحرب الأولى قبلها على حكومات أوروبا الشرقية والغربية ترتيب شؤونها تجنبًا للعودة إلى الماضي، وكان أحد الخيارات لذلك متابعةَ جدول أعمال الجبهات الشعبية في ثلاثينيات القرن الماضي، فالشيوعية وإن كانت حلًّا خاطئًا إلا أن المعضلة التي أرادت حلها كانت حقيقية، لكن تغييرًا جذريًّا في الغرب لم يتحقق، لأسباب ليس أقلها المعونات والضغوط الأميركية، فبدأ اتجاه مختلف لسير الأمور في عام 1945، وتقرر تفادي عودة الشياطين القديمة (النزعة العسكرية، البطالة، الفاشية، الحرب، الثورة)، وسلكت أوروبا الغربية مسار ما بعد القومية، ودولة الرفاه، والتعاون والمسالمة. وكانت السلطات في الكتلة السوفياتية منخرطة في المشروع نفسه باستخدام القوة المادية.

 

ويبدي المؤلف اعتقاده بأن أوروبا تتقهقر، إذ لم يعد في إمكانها أن تطمح بعد عام 1945 إلى مكانة دولية أو إمبراطورية، مع استثناءين: الاتحاد السوفياتي، وبريطانيا العظمى، إذ يعتبران دولة نصف أوروبية، ويستعرض أسباب هذا التقهقر بـ “الذل والهزيمة”؛ إذ لم تقدر على تحرير نفسها من الفاشية بجهودها الذاتية، وإبعاد شبح الشيوعية بلا مساعدة، وكان تحريرها على أيدي غرباء، وقد ساهمت نظريات التقدم والتغيير والثورة والتحول في القرن التاسع عشر في تغذية الحركات السياسية التي مزقت القارة في النصف الأول من القرن، فتراجعت الحماسة السياسية إلا لدى أقلية مهمشة، وعقمت الساحة الأوروبية عن استيلاد أي مشروع أيديولوجي شامل بعد عام 1989.

 

أما “الأنموذج الأوروبي” الذي أصبح منارة وأنموذجًا للمتطلعين إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وتحديًا عالميًا للولايات المتحدة الأميركية، ومنافسًا لـ “طريقة الحياة الأميركية”، فقد وُلد في نظر المؤلف متأخرًا، ومن تشريعات “ديمقراطية – اجتماعية” و”ديمقراطية – مسيحية”، ومن التوسع المطرد لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، حتى تحول الواقع الجغرافي المضطرب إلى قدوة للأفراد والدول. وما إن أصبحت المكانةُ الجديدة لأوروبا واضحةً بعد عام 1992 حتى اتخذت علاقاتها بالولايات المتحدة طابعًا مختلفًا، وهي علاقات معقدة يساء فهمها، فعلى الرغم من إرادة الأوروبيين الغربيين بعد عام 1945 انخراط الولايات المتحدة في شؤونهم، إلا أنهم امتعضوا بعدها عندما عاينوا نتيجة ذلك في انحطاط دولهم، فبقوا في موقع مختلف متمايز عن الأميركيين حول الحرب الباردة.

 

أما في أوروبا الشرقية، وعلى الرغم من حرص النقاد المثقفين على اعتبار تأثير الولايات المتحدة في مجتمعاتهم مجرد مبالغة، فإن جيل الشباب تطلع مدة من الوقت إلى تحرير بلدانه وفقًا للأنموذج الأميركي، إلا أن شيئًا من ذلك لم يتحقق.

 

كانت قارة أوروبا ذات يوم معقدة ومتشابكة النسيج، بلغاتها وأديانها ومجتمعاتها وقومياتها، فقد عاش في مدنها الصغيرة عند الحدود الكاثوليك والأرثوذكس والمسلمون واليهود وغيرهم، وهو واقع وصفه الكاتب البولندي تاديوش بوروفسكي بـ “وعاء لا يصدق لذوبان يكاد يكون هزليًّا لشعوب وقوميات تحتدم بصورة خطرة في قلب أوروبا”. وكانت تعتري تلك المجتمعات على نحو دوري تصدعات وأعمال شغب ومذابح ومجازر، لكنه واقع بقي حيًّا في الذاكرة الأوروبية. وبعد تحطيم أوروبا بين عامي 1914 و1945، واجهت أوروبا المشعة التي ظهرت بعدها في النصف الثاني من القرن العشرين، المسائل غير المبتوت فيها: مخلفات الحرب، الاحتلال، تعديلات الحدود، عمليات التهجير والإبادة الجماعية، ولمدة 40 عامًا بعد الحرب الثانية، عاش الأوروبيون في شطري أوروبا في جيوب قومية محكمة، واندمجت الأقليات الدينية أو العرقية كليًا في طيفها الثقافي والسياسي.

 

وتواجه أوروبا مستقبلًا متعدد الثقافات منذ ثمانينيات القرن الماضي، أهم ما فيه سقوط الاتحاد السوفياتي وتوسيع دول الاتحاد الأوروبي، التي حوَّلها اللاجئون، والعمال الوافدون، والعائدون من مواطني المستعمرات السابقة بحثًا عن فرص العمل والحرية، والمهاجرون طوعًا أو قسرًا من الدول الفاشلة أو القمعية، إلى مدن عالمية متعددة القوميات؛ ما زاد قلق الاتحاد الأوروبي من احتمال تزايد التنوع العرقي فيه، وخصوصًا من المسلمين، الذين بلغوا نحو خمسة عشر مليونًا، في حين يتربص ثمانون مليونًا في بلغاريا وتركيا للحاق بهم؛ ما بلور منذ عام 1989 فكرة اعتماد استقرار أوروبا بعد الحرب على ما يشبه إنجازات جوزيف ستالين وأدولف هتلر اللذين دمرا الميدان الديموغرافي الذي قامت عليه أسس أقل تعقيدًا لقارة جديدة.

واجب ألمانيا الأخلاقي

 

هناك ثمن أخلاقي سُدِّد منذ عام 1989 من أجل عودة انبعاث أوروبا، وعلى الألمان إعادة النظر في التاريخ المتداوَل والمتناقض لبلادهم، فالضحايا الألمان على أيدي رماة القنابل البريطانيين أو الجنود الروس أو طارديهم التشيكيين يجب أن يحظوا بالاهتمام، فاليهود لم يكونوا الضحايا الوحيدين. وهنا ينبه المؤلف إلى أنه لا ينبغي فهم هذا الأمر، ولا سيما في الولايات المتحدة، بوصفه دليلًا مشؤومًا على خطيئة أوروبا وعدم قدرتها على التعلم من الجرائم السابقة، وحنينها إلى فقدان الذاكرة، فأوروبا لا تعاود دخول ماضيها المضطرب، كما أن ألمانيا تعي اليوم تاريخها أكثر من السنوات الخمسين الماضية، ولن تُجَر للعودة إليه، لأن الظل الثقيل للحرب لا يزال يرخي بثقله على أوروبا، والصمت حيال ماضيها القريب كان شرطًا لازمًا لبناء مستقبلها.

 

يتناول القسم الأول المعنون بـ “بعد الحرب 1945-1953” حال الإعسار التي كانت متفشية في أوروبا في الخمسينيات، والفجوة بين تصوير السينما تلك الحقبة وبين الواقع، حيث كانت أوروبا بعد الحرب قد استُنزفت، ففي إيطاليا عمالة للأطفال، وكنيسة ذات سلطة رقابية على التعليم والزواج، وفي إسبانيا هيئة كهنوت زُودت بعدة مكافحة الإصلاح بموجب ميثاق عام 1953 الذي يمنحها الرقابة على أي كتاب أو خطاب، وفي هولندا كنيسة تمارس الحرم الكنسي بحق منتخبي معارضيها من حزب العمل في عام 1956، وفي فرنسا هيئة كهنوت ذات تمويل حكومي للتعليم المدرسي وأحزاب سياسية من النظام القديم مرتبطة بها مباشرة، وفي ألمانيا البروتستانتية كنائس ضعيفة اعترفت بالذنب في عام 1945، ولم تصمد أمام الدولة الشيوعية، وفي بريطانيا هيئة الإذاعة البريطانية ببرنامج صارم يعمل على منع الطرائف المتعلقة بالدين، والإشارة إلى “المراحيض” و”تخنث الرجال” أو بث أجواء استرخاء بعد الحرب، أو تلميحات إلى ملابس النساء الداخلية أو الجنسية، ومنع أعضاء البرلمان من الظهور في برامج تفتقر إلى الوقار … إلخ، ومثل هذه القيود كان مألوفًا في جميع أنحاء القارة.

 

لكن هذه الصورة لأوروبا سرعان ما تغيرت مع انطلاق العصر الذهبي للسينما، وشيوع الرقص، والزي الجديد لكريستيان ديور وبدلات “زوت” الأميركية بداية من عام 1947، وارتداء المعطف الواقي من المطر لدى البوهيميين والمثقفين، وغيرها من المظاهر التي لم تغطِّ حالة العوز في الجنوب الإيطالي وألمانيا الغربية ولندن وأماكن كثيرة في أوروبا، وخصوصًا على مستوى “الإسكان” والكساد وتقنين الخبز وقسائم الملابس والأثاث، وقدم الآلات الصناعية والإنتاج الزراعي. ولذلك استمرت مرحلة “ما بعد الحرب” مدة أطول مما توقعه المراقبون، وعلى الرغم من ذلك لم يلجأ الأوربيون إلى الحلول المتطرفة، بل ابتعدوا بعد الحرب العالمية الثانية عن السياسة، واتجه الفرنسيون والإنكليز بعد الحرب إلى إنجاب الأطفال من جديد، وكانت أوروبا جديدة تولد.

 

ويخلص القسم الثاني “الازدهار ومظاهر السخط المصاحبة له 1953-1971” من الكتاب إلى أن شعارات جيل الستينيات ومشاريعه التي كانت بعيدة عن إعادة إيقاظ تقليد ثوري سعت لغته ورموزه بقوة لإعادة تنشيطه، مثلت كلّها علامات دالة على وفاته في أوروبا الشرقية، وقد شهدت الحقبة “التنقيحية” وخاتمتها المأساوية آخر أوهام الماركسية بوصفها ممارسة. وفي الغرب، حلقت النظريات الماركسية وشبه الماركسية بعيدًا عن أي علاقة بالواقع المحلي، وبذلك نحّى الماركسيون أنفسهم عن أي دور مستقبلي في الحوارات العامة الجادة. وفي عام 1945، نزع اليمين المتطرف الثقة من نفسه بوصفه وسيلة مشروعة للتعبير السياسي، أما بحلول عام 1970، فقد عمد اليسار المتطرف إلى محاكاته. وهكذا كانت دورة مدتها 180 عامًا من السياسات الأيديولوجية في أوروبا تقترب من نهايتها.

 

ويستعرض القسم الثالث “التراجع 1971-1989” من الكتاب نهاية النظام العالمي الذي كان قائمًا، بسماح الاتحاد السوفياتي لمستعمراته بالانحلال، وإعلانه عدم النية في التدخل فيها مجددًا، وهو ما قوض بشكل حاسم الأمل الوحيد لحكام الدول التابعة له باستمرار حكمهم. ويشير القسم إلى أن وقائع تسعير الاتحاد السوفياتي صادراته إلى دول الكوميكون وفق أسعار السوق العالمية في عام 1990 حمل بذرة انهيار الأخيرة التي كانت تعتمد اعتمادًا كبيرًا على دعمه. ويشير المثال الأخير إلى أن السماح بسقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية كان بقصد المحافظة عليها في روسيا نفسها، لكنه كان خطأ تكتيكيًّا، إذ ارتد ذلك على أراضي الاتحاد السوفياتي في غضون عامين. وينوه الكاتب بالإنجاز السوفياتي، معتبرًا إياه إنجازًا غير مسبوق، إذ لم يسبق لأي إمبراطورية في التاريخ أن تخلت عن ممتلكاتها الاستعمارية بهذه السرعة والتسامح والقدر القليل من سفك الدماء.

 

ويتناول القسم الرابع “ما بعد السقوط 1989-2005” المسألة اليهودية، يقول هاينريش هاينه إن “بطاقة دخول” اليهود إلى أوروبا هي المعمودية، أي التخلي عن وطأة التراث الثقيل من الاختلاف والعزلة، أما اليوم، وفي انعطافة ساخرة، صار ينبغي لمن سيصبح أوروبيًا كاملًا أن يتبنى تراث الهولوكوست مرجعًا معتمدًا وليس المعمودية، فاعترف الرئيس البولندي كفانفسكي رسميًا في عام 2004 بدخول الاتحاد الأوروبي بمعاناة اليهود البولنديين على أيدي بولنديين، واعترف الرئيس الروماني إلييسكو بأن لرومانيا دورًا أيضًا في الإبادة، كما أدى رفض تركيا الاعتراف بإبادة الأرمن في عام 1915 إلى رفض عضويتها في الاتحاد الأوروبي، كصربيا، التي ستبقى خارج البيت الأوروبي حتى تعترف بجرائم الحرب اليوغسلافية. ويضيف المؤلف أن الاعتراف وحده لم يعد كافيًا، بل المطلوب معاقبة من يتفوه بإنكاره. باتت الهولوكوست “حقيقة” ما عاد بوسع الأوروبيين تجاهلها، وغدت ذاكرة يهود أوروبا الموتى المستعادة بمنزلة التعريف لإنسانية القارة. قُبلت على نطاق واسع رواية قتل 6 ملايين يهودي في الحرب العالمية الثانية، واضطهاد العائدين منهم ولومهم على معاناتهم، والتظاهرات احتجاجًا على هذه العودة. ويتطرق القسم بشكل واسع إلى المحتجين على هذه القرارات، كالفيلسوف الفرنسي غابرييل مارسيل، الذي كتب عن “فرط وقاحة اليهود”، والرئيس الفرنسي شارل ديغول والرئيس البريطاني ونستون تشرشل اللذين رفضا التحديد العرقي لضحايا هتلر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × خمسة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube