https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

لا يمكن تجاهل ما يمكن أن تمثله “أفغانستان مستقرة” من أهمية كبيرة بالنسبة لإيران، في ظل وجود حدود جغرافية مشتركة تبلغ نحو 920 كيلومترًا، وامتدادت عرقية عبر الحدود، لاسيما وأن أفغانستان قد مثلت منفذًا لإيران إلى الخارج في ظل العقوبات الأممية التي فرضت عليها لسنوات، فكانت معبرًا تجاريًا للبضائع الإيرانية إلى دول وسط آسيا.

وبقدر ما كانت الحدود المشتركة بين البلدين فرصة لإيران في وقت ما، فإنها شكلت في الوقت ذاته تحديًا كبيرًا، لاسيما وأنها تأتي متاخمة لأكثر أقاليم إيران إثارة للاضطرابات في الداخل الإيراني، وهو إقليم سيستان بلوشستان ذي الأغلبية السنية، والطبيعة الجبلية الوعرة، التي جعلته ملاذًا لحركات المقاومة السنية لعل أشهرها جند الله وجيش العدل.

تجد إيران أمام هذا الواقع الجغرافي والديمغرافي نفسها في غنى عن أى اضطرابات محتملة يمكن أن تأتيها عبر الحدود الأفغانية، التي تشهد حاليًا صراعات متزايدة وتصاعدًا في حدة العنف من جانب حركة “طالبان” التي توسعت في السيطرة على المعابر المشتركة بين البلدين وأغلب أقاليم البلاد بشكل عام، وفي هذا السياق تتخوف إيران من تحالف محتمل للسنة على أراضيها مع حركة “طالبان” على الحدود الأفغانية.

وفي المقابل، تشكل أفغانستان بوضعها المضطرب الحالي في أعقاب قرار الانسحاب الأمريكي منها ودخوله حيز التنفيذ فرصة للتوغل الإيراني، والحصول على ورقة ضغط جديدة تضاف لأوراق طهران في المنطقة. فثمة اتجاه في إيران يرى أن ما يحدث في أفغانستان يوفر الفرصة ذاتها التي سبق أن مُنِحت مجانًا لإيران في العراق، وربما يدفع هذا الاتجاة بقوة نحو تحسين العلاقات مع “طالبان” المختلفة أيديولوجيًا مع العقيدة الإيرانية، وإن اشتركت مع طهران في معاداة الولايات المتحدة، واتفقت معها على ضرورة رحيلها من أفغانستان.

وفق هذه المعطيات، تسعى إيران إلي إيجاد دور لها في أفغانستان ليس على الأرجح بغرض الهيمنة، بقدر ما يهدف إلى ممارسة دور إطفائي لصراع مفتوح يمكن أن تأتي نتائجه بعكس مصالحها.

وساطة شكلية

لم يكن دخول إيران على مسار محاولات التسوية في أفغانستان مفاجئًا، باستضافتها مفاوضات مباشرة علنية بين الحكومة الأفغانية وحركة “طالبان”، حيث سبق هذه المفاوضات اجتماعات عدة لمسئولين أفغان، وقيادات لحركة “طالبان” في طهران، حتى تم التوصل إلى اتفاق بأن تجري جولة لمفاوضات بين الطرفين في 7 يوليو الحالي (2021).

وقد أجريت المفاوضات الأفغانية- الأفغانية بالتوازي مع مفاوضات أفغانية- إيرانية، شارك في كليهما مسئولون من الخارجية الإيرانية، مع 4 وفود أفغانية، تمثلت في ممثلي اللجنة الثقافية بالبرلمان الأفغاني، وممثلين عن الحكومة وحركة “طالبان”، وممثلين عن لجنة متابعة شئون الرعايا الأفغان في إيران.

وعلى الرغم من تأكيد أطراف المفاوضات في بيانهم الختامي على “الاتفاق علىمخاطر استمرار الحرب والأضرار التي ستلحقها بأفغانستان، وأن الجهود يجب أن تتجه نحو الحل السياسي والسلمي”، وأن “لقاء طهران فرصة وأرضية جديدة لتعزيز الحل السياسي للمشكلة الأفغانية”، فإن ما حدث على أرض الواقع كان مخالفًا لما تم الإعلان عنه في هذا البيان، حيث صعّدت حركة “طالبان” من وتيرة العنف في البلاد بالتزامن مع المفاوضات وفي أعقابها، فكان الحوار في طهران منافيًا لواقع التصعيد في أفغانستان، مما أضاف شكوكًا حول نجاح الوساطة الإيرانية في هذا السياق، وتفريغها من مضمونها لتكون وساطة شكلية فقط.

ومع التسليم الإيراني بأن التفاهمات مع حركة “طالبان” لم ترق بعد إلى حد تقديم تنازلات في مفاوضات بوساطة إيرانية، فإن طهران، على الأرجح، قد أصرت على إجراء هذه المفاوضات في هذا التوقيت – الذي يبدو غير مناسب بسبب إقدام حركة “طالبان” على توسيع نفوذها في البلاد – للتأكيد على وجود دور لها في الترتيبات السياسية التي يجري العمل على صياغتها في أفغانستان، بالرغم من استبعادها كطرف إقليمي مؤثر من مفاوضات الدوحة، مدفوعة في ذلك أيضًا بجملة من المخاوف حول مستقبل الأوضاع في أفغانستان وتأثيرها على الداخل الإيراني.

مخاوف متزايدة

تبدي إيران مخاوف عديدة بشأن مستقبل “أفغانستان غير المستقرة”، إذ يرجح أن تواجه إيران جملة من المعضلات الأمنية والإنسانية والاقتصادية المُصدَّرة لها عبر الحدود الأفغانية، والتي سبق وأن اختبرتها خلال سنوات الحرب الأهلية في أفغانستان، وأثناء الحرب على الإرهاب، وتتمثل هذه المخاوف فيما يلي:

1- معضلة ضبط الحدود: وهى من أهم القضايا التي تولي لها إيران أهمية، نظرًا لتعدد التهديدات في هذا السياق، وليس أدل على ذلك من الحشد الإيراني لقوات حرس الحدود والقوات البرية للحرس الثوري علي الحدود الإيرانية- الأفغانية منذ تصاعد عنف حركة “طالبان” في البلاد، وقد تزايد هذا الحشد مؤخرًا مع سيطرة “طالبان”- حتى الآن- على معبرين من أصل 3 معابر مشتركة مع إيران، هما معبرا “إسلام قلعة” و”أبو نصر فراهي”، فيما أدى ذلك إلى وقف تجارة المعابر في المنطقة الاقتصادية الحرة بين إيران وأفغانستان بقرار من مكتب الجمارك الإيرانية، ويمكن الإشارة إلى أهم التهديدات الحدودية المتوقعة في:

أ‌- تهريب وتجارة المخدرات: نظرًا للطبيعة الجغرافية الصعبة التي تتسم بها الحدود الأفغانية- الإيرانية ولكون أفغانستان من أكبر منتجي المواد المخدرة حول العالم، تتعرض إيران لعمليات تهريب واسعة للمخدرات، حيث تعد ممرًا لتهريب المخدرات القادمة من أفغانستان وباكستان، وتنشط على حدودها أنشطة الجريمة المنظمة في هذا السياق، مما أضر بشكل كبير بالمجتمع الإيراني، الذي انتشر فيه ادمان المخدرات بسبب توافرها في البلاد إلى جانب أسباب أخرى.

ب‌- قضية اللاجئين الأفغان: يوجد في الداخل الإيراني أكثر من 3.5 ملايين لاجئ ونازح أفغاني، حسب ما أفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، حيث تستضيف إيران ما يقرب من مليون لاجئ، بالإضافة إلى حوالي 2.6 مليون نازح من حاملي جوازات السفر الأفغانية، ومن الذين لا يحملون أوراق هوية أفغانية، فروا هاربين خلال السنوات الماضية من وطئة القتال بين “طالبان” والولايات المتحدة، ثم بين “طالبان” والحكومة الأفغانية.

ويتوقع أن يؤدي استمرار تصاعد العنف إلى موجات نزوح أخرى تزيد الضغط على الداخل الإيراني، والذي يعاني اقتصاديًا في الأساس، من جراء العقوبات الأمريكية المفروضة عليه. وتجدر الإشارة إلي أن معركة سيطرة “طالبان” على المعابر مع إيران قد نتج عنها لجوء حرس الحدود الأفغان إلى الأراضى الإيرانية، قبل أن ترتب طهران عودة هؤلاء الجنود إلى بلادهم برحلات جوية إلى العاصمة كابل.

2- توسع تنظيم “داعش” في أفغانستان: تشير تجربة الانسحاب الأمريكي من العراق إلى صعود أكثر الجماعات الإرهابية شراسة وهى تنظيم “داعش” الذي وجد موطئ قدم في أفغانستان، وتتخوف إيران من إمكانية توسع نشاط التنظيم عقب الانتهاء من تنفيذ خطة الانسحاب الأمريكي، وقد حذر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في هذا السياق في بيان له في 16 أبريل الماضي (2021)، من تزايد نفوذ تنظيم “داعش” في أفغانستان، وأشار إلى أن التنظيم قد تبنى مسئولية عدد من الهجمات في البلاد، وأن عملية نقل “داعش” من العراق وسوريا قد تمت إلى أفغانستان بالفعل.

وتجدر الإشارة إلى أن تنظيم “داعش” قد أنشأ فرعًا له في أفغانستان تحت اسم “خراسان”، تكمن خطورته في القدرة على تكوين بؤر على الحدود الإيرانية الشرقية سواء منفردًا أو بالتحالف مع الحركات المسلحة السنية علي الجانب الآخر من الحدود في الداخل الإيراني، مما شكل إطارًا يمكن معه فهم التحول العلني للانفتاح الإيراني على حركة “طالبان” التي خالفت تنظيم “داعش” منذ تأسيسه.

3- عودة حكم “طالبان”: على الرغم مما يبدو أنه انفتاح إيراني على حركة “طالبان”، على نحو انعكس في استضافة أكثر من وفد في طهران خلال الفترة الماضية، إلا أن ذلك لا ينفي رفض إيران سيطرة الحركة على أفغانستان، والعودة إلى حكم البلاد مرة أخرى، نظرًا للاختلاف الأيديولوجي الجوهري بينهما، لاسيما في ظل ما ستتعرض له العرقية الفارسية والأقلية الشيعية من خطر حال عادت “طالبان” إلى الحكم، فيما لا يزال هجوم الحركة على القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف شمال أفغاستان عام 1998، والذي نتج عنه مقتل 9 إيرانيين، حاضرًا في ذهن القيادة في إيران، التي أقدمت في الأسبوع الماضي علي إغلاق قنصليتها في المدينة نفسها بسبب تقدم عناصر حركة “طالبان” نحو المدينة، كما قامت بنقل دبلوماسييها إلى العاصمة كابول.

خطوات استباقية

على ضوء المخاوف التي تضعها إيران في اعتبارها من استمرار عدم استقرار أفغانستان، اتبعت الأولى استراتيجية جديدة لتكوين شبكة من الولاءات في الداخل الأفغاني، تحاول من خلالها تحقيق مصالحها، اعتمادًا على القواسم المشتركة العديدة بين النسيج المجتمعي في كليهما، وقد هدفت هذه الاستراتيجية إلى:

1- تعزيز التعاون الاقتصادي على المستويين الرسمي وغير الرسمي: ففي إطار ما يعانيه الاقتصاد الأفغاني من تدهور منذ سنوات، كانت الفرصة سانحة لإيران لتوقيع اتفاقيات اقتصادية في مجالات التجارة والطاقة والكهرباء، مع الجانب الأفغاني، فحصلت على امتيازات في مجال بناء وصيانة محولات الكهرباء وتوربينات محطات الطاقة في البلاد، كما ساهمت استضافة إيران للنازحين الأفغان في جعلها رافدًا مهمًا في تحويلات العمالة لرؤوس الأموال الأفغانية.

2- تشكيل مليشيات موالية لإيران: أسس “فيلق القدس” في عام 2013 “حزب الله الأفغاني – لواء فاطميون” من مجموعة من النازحين واللاجئين الأفغان في إيران، لاسيما من أقلية الهزارة الشيعية، وقد اشترك “لواء فاطميون” في الحرب في سوريا والعراق واليمن، ثم عاد قسم كبير منه إلى أفغانستان.وتجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قد اقترح عبر لقاء تلفزيوني له بقناة “طلوع” الأفغانية أن يتم إلحاق “لواء فاطميين” بالجيش الأفغاني، في إطار حديثه عن أهمية تطوير قدرات الجيش الأفغاني لمواجهة التطورات.

3- تمكين الشيعة من الحصول على مكاسب سياسية: استطاعت إيران من خلال دعمها لدوائر صنع القرار الرسمي في أفغانستان، أن تفسح مجالًا لأقلية الهزارة لتولي مناصب قيادية في أجهزة الدولة، بدءًا من المحليات، وصولًا إلي البرلمان، والمجلس الأعلى للقضاء، فضلًا عن تكوين أحزاب سياسية شيعية مثل “حزب الوحدة” و”حزب وحدة الشعب” و”حزب الاقتدار الوطني”، كما استطاع شيعة أفغانستان الحصول على اعتراف بالمذهب الشيعي الجعفري في الدستور الأفغاني إلى جانب المذهب السني الحنفي. ويسمح التواجد الشيعي في هذه المناصب بتمرير قرارات وسياسات لخدمة أهداف إيران في الداخل الأفغاني، أو على الأقل ضمان عدم تمرير سياسات من شأنها الإضرار بمصالحها.

وفي النهاية، يمكن القول إن التعامل الإيراني مع تطورات الواقع الأفغاني يبقى مرهونًا بمستوى التهديد الذي يمكن أن يواجهه النظام مستقبلًا سواء بشكل مباشر من خلال حدود الدولة أو عبر المساس بمصالحها في الداخل الأفغاني، ولهذا اختارت إيران استراتيجية النهج المزدوج القائم على التعاون مع “عدو الماضي” المتمثل في حركة “طالبان”، وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بآليات ردع وأذرع تهديد ضده إذا لزم الأمر وتتمثل في شبكة الولاءات الشيعية الداخلية

رانيا مكرم – باحثة – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × اثنان =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube