المؤلف :كريس هرمان
تمكن (الاتحاد السوفيتي) خلال فترة زمنية قصيرة من اللحاق بالاقتصادات الغربية لاسيما أضخم اقتصاد في العالم وهو اقتصاد (الولايات المتحدة)، بل وتمكن كذلك من منافستها على المستوى العسكري في سباق الأسلحة الذي دار بينهما، لكن تفوق (الاتحاد السوفيتي) في هذا السباق كان في الواقع على حساب الاقتصاد ونموّه وهو ما أدى إلى تدهور الأوضاع تدريجيًا حتى انتهت بالانهيار ومن ثم التفكك.
1- الأوهام المفقودة: هل كان عهد (جورباتشوف) حقًا عهدًا للإصلاح والتغيير؟
إن بدايات التغيير التي شهدها (الاتحاد السوفيتي) بدأت مع بداية عهد (جورباتشوف) في عام 1985 م؛ حيث جاء بنهج جديد يختلف تمامًا عن العقود الطويلة التي عانى فيها (الاتحاد السوفيتي) من كافة أنواع القمع والاضطهاد منذ عهد (ستالين) وخلفائه. منح (جورباتشوف) للصحافة وللناس حرية الرأي والتعبير عن الظروف السيئة التي يعانون منها في حياتهم من فقر وتلوث وتدهور الخدمات الصحية، بالإضافة إلى انتشار الفساد على نطاق واسع، كذلك توقفت الاعتقالات وبدأت الحكايات حول فظاعات الاشتراكية تنتشر دون خوف، وكذلك بدأت الدراسات الاقتصادية التي تكشف الأكاذيب القديمة حول جودة الأداء الاقتصادي في الظهور، وبدأ (الاتحاد السوفيتي) في التحرر من القيود التي قد بلغ عمرها ستين عامًا.
لم يكن التأييد الشديد الذي حظي به (جورباتشوف) بسبب الحرية التي قدمها لـ (الاتحاد السوفيتي) فحسب، بل كذلك لوضعه خططًا جديدة تهدف إلى إصلاح تلك الأخطاء التي تراكمت على مدار العقود الماضية. كانت تلك الخطط محددة في شعارين أعلنهما (جورباتشوف) في أحد مؤتمرات الحزب: وهما (البيريسترويكا) وتعني إعادة الهيكلة و(الجلاسنوست) وتعني العلانية، لكن حين بدأت تلك الحرية والمعارضة الوليدة في معارضة بعض الأشياء التي تتعلق بنهج البيريسترويكا، كان (جورباتشوف) يتبع سياسات أقل تصالحًا؛ حيث بدأ في التخلص من أعضاء مؤتمر النواب غير المرغوب فيهم، كما بدأت الشرطة تعترض المظاهرات غير المصرح بها.
وفي الجلسة الأولى لمؤتمر النواب، تم منع اتخاذ أية قرارات في الشكاوى التي قدمها النواب فيما يتعلق بالميراث الرهيب لـ (ستالين) من فقر ونقص السلع الاستهلاكية وإساءة معاملة الأقليات القومية وقوانين منع المظاهرات وغيرها، وهو ما جعل الناس تشعر بخيبة أمل تجاه هذا المؤتمر. وفي الجلسة الثانية، قام (جورباتشوف) بإيقاف عمل الميكروفونات عن أحد النواب وهو يقوم بإلقاء خطابه. وبعد التأييد الشديد الذي كان يتلقاه (جورباتشوف)، أصبح هناك سخطٌ شديد تجاهه ليس فقط من النخبة المثقفة، بل ومن غالبية الشعب كذلك؛ حيث بدأت المظاهرات والإضرابات العمالية في الانفجار بشكل كبير في عام 1989م.
2- ثورات الأقليات ورغبتها في الانفصال عن (الاتحاد السوفيتي)
كانت إحدى المشكلات الأخرى التي أخذت في الانفجار هي المسألة القومية. كان (الاتحاد السوفيتي) الذي يشمل عددًا كبيرًا من الدول يحتوي على أعداد مختلفة من الأقليات الإثنية التي اضطُهدت لسنوات طويلة، وتم إجبار بعضها على الانخراط في الثقافة واللغة الروسية. قامت مظاهرات في (أرمينيا) وأحد أقاليم (آذربيجان) يدعى (كاراباخ)، وكانت تلك المظاهرات تطالب بتوحيد هذا الإقليم مع (أرمينيا)، في الوقت نفسه تقريبًا. وفي منطقة أخرى من (آذربيجان)، قام بعض الآذيريين بشغب طائفي؛ حيث شنوا هجومًا على السكان الأرمن وقتلوا أعداد منهم.
اشتعلت النزاعات الطائفية بين الآذيريين والأرمن، ومن ناحية أخرى فقد اشتعل سخط الطرفين على طائرات الجيش الروسي المحلقة فوقهم والدبابات التي تقوم بالدوريات في شوارع عواصم كلاً من (آذربيجان) و(أرمينيا). فرض (جورباتشوف) على إقليم (كاراباخ) المتنازع عليه الحكم المباشر من (موسكو) لتجنب الوقوف إلى أي من الجانبين، لكنه قام بعد ذلك بإعادته إلى الحكم الآذربيجاني كما كان.
أدى ذلك إلى إشعال فتيل الحرب الأهلية بين الطرفين، وبدأ الآذريون يتحدثون عن الانفصال عن (الاتحاد السوفيتي) وهو ما جعل (جورباتشوف) يقوم بإرسال عشرات الآلاف من القوات ثقيلة التسليح تساندها الدبابات ليس لوقف المذبحة القائمة بين الطرفين المتنازعين، بل للتصدي لحركة الانفصال عن (الاتحاد السوفيتي). وقد تعرض نتيجة لذلك إلى كثير من النقد من مختلف الجماعات التي كانت ترى أنه كان من الممكن التحرك قبل ذلك، وأنه لم يحرك ساكنًا إلا حين بدأ الحديث عن الاستقلال. وعلى الرغم من القمع الذي كانت تواجهه تلك المظاهرات والمطالبات، فإن ذلك لم يمنع اشتعال الحركات القومية الأخرى التي تأثرت بتلك الأحداث، وكانت أهمها في جمهوريات البلطيق الثلاث؛ (لاتفيا) و(إستونيا) و(ليتوانيا) وخرج مئات الآلاف من الناس إلى الشوارع في مظاهرات تطالب بالاستقلال والانفصال.
أعلنت تلك الجمهوريات استقلال الحزب الشيوعي الخاص بها عن الحزب الشيوعي في (موسكو)، وأصبحت ملتزمة علنًا باستقلالها عن (الاتحاد السوفيتي)، وانتشرت عدوى تلك الحماسة إلى مناطق أخرى تقع تحت نفوذ (الاتحاد السوفيتي) وأصبحت جميعها تتحرك في اتجاه الانفصال ومن بينها (جورجيا) و(مولدافيا) و(إستونيا) و(بيلاروسيا) و(أوكرانيا الغربية) وغيرهم. ولم يستطع مؤتمر النواب والمجلس السوفيتي وحتى القوات المسلحة اتخاذ قرارات حاسمة في مواجهة تلك الاضطرابات؛ فقد كانت تلك المؤسسات في حد ذاتها منقسمة على نفسها بين مؤيدين لـ (جورباتشوف) ومعارضين له، وانشقت المعارضة عن الحزب وانضمت إلى الجماعات غير الرسمية التي تنظم المظاهرات في (موسكو) نفسها اعتراضًا على الأوضاع الاقتصادية السيئة والسياسات والقرارات الخاطئة