مفارقتان رئيسيتان لا بد من التوقف عندهما في ضوء الانقلاب العسكري في النيجر الذي اطاح بحكم الرئيس محمد بازوم القريب من فرنسا، وتحديداً من الرئيس إيمانويل ماكرون.
الأولى، تبين أنه في الوقت الذي يسعى فيه ماكرون لتعزيز حضور بلاده في منطقة الهندي – الهادئ، حيث لها مصالح مهمة، منها تمتعها هناك بمنطقة اقتصادية خالصة تجعل منها ثاني أكبر دولة في العالم على هذا الصعيد، فإنها بالتوازي آخذة بخسارة مواقعها في ما يمكن اعتباره «حديقتها الخلفية» أي بلدان الساحل.
فانقلاب عسكر النيجر هو الثالث من نوعه (بعد مالي وبوركينا فاسو) الذي يصيب النفوذ الفرنسي في القلب. إذ تخسر باريس حليفاً وصديقاً وقّع معها اتفاقيات عسكرية أساسية مكّنتها من إعادة نشر قوات «برخان» التي اضطرت إلى سحبها من مالي إلى قواعد في النيجر، أهمها في العاصمة نيامي، حيث ترابط قوة فرنسية من 1500 رجل.
وإذا خسرت باريس هذا الموقع، فإن قدرتها على محاربة التنظيمات الجهادية والإرهابية في منطقة الساحل تكون قد تراجعت بنسبة كبيرة، بل قد لا تكون عملياً متوافرة في المستقبل بعد أن اضطرت قواتها للخروج من مالي، كما اضطرت لاحقاً إلى سحب قوة الكوماندوز الخاصة (غير معروفة العدد) لأمن واغادوغو (عاصمة بوركينا فاسو).
وباختصار، فإن كل ما استثمرته باريس أمنياً في 3 من مستعمراتها السابقة، خصوصاً منذ انطلاق «عملية برخان» في العام 2014 بعد أن أنقذت مالي من هيمنة المجموعات «الجهادية» والإرهابية عليها، يكون قد ذهب مع الريح.
ثم لا بد من الإشارة إلى أهمية النيجر بالنسبة لفرنسا، حيث إنها تمثل مصدراً رئيسياً لتوفير اليورانيوم الطبيعي لصناعتها النووية. فمنذ أكثر من 50 عاماً، تقوم شركة «أورانو» الفرنسية والشركات التابعة لها باستخراج اليورانيوم من المناجم الواقعة شمال غرب النيجر، وبالتالي فإن خسارتها ستشكل نكسة كبيرة لباريس سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وليس من المؤكد أن السلطات الجديدة في النيجر، في حال تمكن الانقلابيون من السيطرة على الوضع تماماً كما فعل نظراؤهم في باماكو وواغادوغو، على الرغم من تنديد فرنسا والدول الأفريقية والأمم المتحدة وأطراف أخرى بهم، سوف تحترم الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية الموقعة مع الجانب الفرنسي، ما يعني تراجع نفوذ الدولة المستعمرة السابقة في منطقة الساحل.
وكان لافتاً البيان الصادر عن الانقلابيين الذين اتهموا فيه باريس بانتهاك قرار إغلاق المجال الجوي الذي فرض منذ حدوث الانقلاب.
يمكن اعتبار البيان المذكور «أول الغيث» الذي يؤشر على طبيعة المرحلة المقبلة من العلاقات المتوترة بين باريس ونيامي.
وكما في الحالتين السابقتين (مالي وبوركينا فاسو)، ستعمل فرنسا على ممارسة الضغوط على المجموعة العسكرية الانقلابية مباشرة، ولكن أيضاً من خلال تفعيل رافعتين؛ الأولى المجموعة الأفريقية، والثانية الاتحاد الأوروبي. بيد أن التجارب السابقة مع باماكو وواغادوغو، من خلال فرض نوع من العزلة الدبلوماسية أو العقوبات المالية والاقتصادية، لم تؤتِ أكلها، ولا شيء يشي بأنها قد تنجح في حالة النيجر.
وفي أي حال، فإن الانقلاب الثالث الذي حصل في بلدان الساحل الثلاثة على الرغم من وجود قوة عسكرية فرنسية كبيرة فيها، يبين للقاصي والداني أن قدرات باريس التأثيرية على القرار الأفريقي هناك قد تآكلت حقيقة.
ولا تقل المفارقة الثانية عن الأولى أهمية، إذ يتعين النظر لما يحصل في نيامي وموسكو في وقت واحد. من جهة، «الدومينو الفرنسيّ» في هذه المنطقة آخذ بالانفراط، فيما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل في مدينة بطرسبرغ ليومين 17 رئيس دولة أفريقية، ليبين لمن لا يريد أن يرى أن الجهود الغربية، وتحديداً الفرنسية لجهة تغلغل موسكو في أفريقيا لم تفضِ إلى أي نتيجة إيجابية.
متظاهرون مؤيدون للانقلابيين في نيامي، الخميس (أ.ب)
وليس سراً أن باريس عملت لاستغلال النفوذ الذي تتمتع به لدى عدد لا يستهان به من الدول الأفريقية لغرض إبعاد دول القارة السوداء عن موسكو. والحال أن النفوذ الروسي يتعزز، فيما الهيمنة الفرنسية السابقة تتراجع.
وكانت لافتة الصور الواردة من نيامي حيث مئات المتظاهرين هتفوا للمطالبة بخروج القوات الفرنسية من بلادهم، في الوقت الذي رفعت فيه الأعلام الروسية.
وما يجري راهناً في العاصمة النيجرية جرى مثله سابقاً في عواصم الجوار. وحتى الساعة، ليست هناك معلومات عن دور لمجموعة «فاغنر» التي إن أصيبت بضربة موجعة في روسيا وأوكرانيا بعد مغامرة رئيسها بريغوجين الفاشلة، فإن حضورها في أفريقيا ما زال قائماً.
وكانت باريس جعلت من تمدد «فاغنر» في أفريقيا هدفاً دائماً لهجماتها السياسية ولاتهاماتها بأنها تعمد إلى سرقة ثروات هذه الدول، سواء أكان في أفريقيا الوسطى أو السودان، وصولاً إلى مالي وبوركينا فاسو.
والحال أن الواقع على الأرض يفرض نفسه وهو يبين أن «فاغنر» تعزز حضورها، فيما الحضور الفرنسي يتراجع.
بعد النكسات المتتالية التي أصابت باريس في بلدان الساحل وأفريقيا، قررت السلطات الفرنسية تغيير نهج تعاطيها مع هذه المنطقة وتوجيه جهودها باتجاه دول ما يسمى «خليج غينيا»، وأبرزها ساحل العاج وغانا وتوغو وبنين والكاميرون… وقام ماكرون بزيارة رسمية لـ3 منها العام الماضي، مشدداً على خطط بلاده الجديدة.
والحال أن ما يحصل في النيجر يبين أن على فرنسا أن تتعامل بشكل مغاير تماماً لما قامت به حتى اليوم، وإلا فإن أحجار الدومينو الفرنسية في منطقة الساحل وأفريقيا سيتواصل انفراطها، وليست النيجر سوى مؤشر ملموس على ذلك.
ا