الكاتب: سعدي يوسف
فضول قراءة هذا الكتيب الصغيرينبع من كونه مجموعة مقالات انطباعية لزيارة شاعر كبير مثل سعدي يوسف الى الصين،،إذن أمران مثيران للجدل :الشاعر العراقي المغترب ومواقفه السلبية تماما من التجربة العراقية الجديدة.
نعثر أيضا في هذا الكتيب إشارات إلى تلك المواقف ،الأمر الثاني: التجربة الصينية العملاقة في ميادين الاقتصاد والحضارة والثروة البشرية الهائلة، فضول جسده سعدي يوسف لاستكشاف –عن قرب- مكنونات هذه التجربة: (أردت أن أرى قارة مختلفة ، أن أتقرى كيف أمكن لحزب شيوعي أن يحقق معجزته في الارتقاء بثلث البشرية هذا الارتقاء. أردت أن أرى الناس العاديين تماما ، الناس الذين هم الحياة صدقا ).
هذا السبب العميق للزيارة والكتابة عنها لها مقتربات أسباب عديدة ، منها دعوة سعدي يوسف إلى المشاركة في الاحتفالات في الذكرى الستين لتأسيس الصين الحديثة ، فضلا عن توقيع كتابه الصادر باللغة الصينية (مختارات شعرية)، لكن الأمر لا يخلو من علاقات اجتماعية كانت السبب الرئيس في ترتيب زيارته إلى الصين، بسبب تعرفه على (تاجر صيني يدعى ادوارد او لياني بي) عندما كان سعدي يوسف في الأردن ثم غادرها لاحقا إلى لندن.
الانطباعات التي كتبها سعدي يوسف في كتابه هذا يمكن عدها أسبابا لنجاح التجربة الصينية وحضورها المتميز على الصعيد العالمي، مثلا التمازج الكبير بين التحديث (السيارات كلها جديدة ومتأنقة) والتأكيد على الخصوصية المحلية (في الصين، كل شيء هو صيني)،هذا ما كتبه التاجر الصيني ادوارد في معرض حديث سعدي يوسف عن قدم فكرة ذهابه إلى الصين، وعندما كان الصديقان الشاعر والتاجر في طور المراسلة، كتب له سعدي ردا على دعوة صديقه ادوارد زيارة الصين: (قلت له : ما المانع ؟ اجيءإلى بيجين(بكين) واسكن في شقتك. وحين يكون لديك وقت تأتي إلي. لا أريد أصرفك عن أعمالك !كتب إلي يقول: لكن عليك يا سعدي ، أن تعرف أن كل شيء في الصين صيني ! إن غادرت الشقة ماشيا، ونسيت معلما من معالم العودة، فلن تستطيع العودة إليها . لن يدلك أحد . والسبب بسيط: أنت لا تعرف الصينية، والناس لا يعرفون إلا الصينية.
بلغ تهويل المحلية حد قول سعدي :كأن الطير يغرد بالصينية ، ومن أسباب النجاح أيضا خلصت إلى امتلاك الصينيين ذاكرة حضارية خصبة: (تزونغ-رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة العاصمة-يقول لي: أنت أخطأت حين ذكرت انك ترجمت كتاب (لتتفتح الازهار) لـ(لو- تينغ-يي ) في أوائل الستينيات، أنت نشرته في العام 1959!) يعلق سعدي بأسلوبه اليساري القديم (أية قوة للثقافة المناضلة! كم يحس المرء أن جهوده لم تكن سدى!هكذا بعد نصف قرن، اجلس مع استاذ صيني مرموق ليحدثني عن كتاب ترجمته).
ما يلفت النظر في انطباعات سعدي هو حرصه على كتابة شيء عن ساحة (تين آن مين-السلام السماوي ، ساحة إعلان الصين العظيمة جمهورية شعبية (احتفالات العيد الستين لاتزال قائمة شعبيا، الناس يمضون إلى الساحة، كمن يمضون إلى إعلان حلم )، هذا الزحف الشعبي إلى الساحة الشهيرة في بيجين ليس لأغراض الاستعراض –بحسب سعدي – بل لأجل التنزه والفرح (وعمال النظافة وعاملاتها لا يتركون حتى أضأل قصاصة ورق على الأرض).
المكان الذي اهتم به سعدي كثيرا، سور الصين العظيم، أو ما تبقى منه قرب العاصمة، وهو محط رغبات الصينيين والسياح دائما، (طول السور في الأصل يبلغ خمسة آلاف كيلومتر، شيد قبل 2500سنة )، يقول سعدي عن زيارته للسور متساوقا مع رغبات أعداد هائلة من البشر( لم أجد غرابة في أن أرى مدارج السور العظيم تكاد لا تتسع للصاعدين والهابطين، والسور نفسه يصاعد….ومعه الأبراج التي تبدو بلا نهاية، والناس يصعدون …إلى أين ؟)
ما قصده عنوان الكتاب: ثلاث مدن:هي بيجين، واهم الأمكنة فيها كما ذكرنا الساحة، والسور، فضلا عن الجامعة التي التقى سعدي بطلبتها وأساتذتها وألقى قصائد هناك ، مع ترجمتها إلى الصينية، وهنا نذكر الإشارة السلبية القاتمة لمستقبل العراق، ففي سياق تضييفه في مائدة عشاء في قاعة فاخرة مخصصة لضيوف الصين البارزين، كانت الكراسي جميعها ذات لون بني خفيف، ماعدا الكرسي الذي جلس عليه سعدي كان اسود، وهنا نسأل بدورنا سعدي يوسف عن سر تشاؤمه الحاد إزاء وطنه كما هو منصوص في الكتاب:(سألني أستاذ في كلية الدراسات العربية عن تصوري لمستقبل العراق، أشرت إلى كرسيي، قائلا :في لون هذا الكرسي) أي اللون الأسود؟!
المدينتان الأخريتان: المدينة المحرمة التي لم تعد كذلك (بعد أن رحل عنها الإمبراطور الأخير) لكن ما يدهش سعدي في المدينة المحرمة (جناح المحظيات) !وهنا تحلق مخيلته إزاء المكان وذاكرته (الأقدام الصغيرة للمحظيات ترفرف. وأثواب الحرير تهفهف. زمن يحط برهة على جبينك، ثم يتناءى، غائبا وبهيا، مثل فراشة من جبال الانديز).
وهنا يكون مناسبا الانتقال إلى شنغهاي، و الحديث عن الشعر الصيني معا، إذ يرى سعدي (أن الحركة الشعرية في شانغهاي تمثل ذروة التجديد في الشعر الصيني المعاصر) ومثل أي شعر حي في أنحاء العالم هناك صراع بين التحديث والتقليد، وللشعر الصيني الحديث بحسب سعدي انزياحات خصبة وتمرد غير محدود.
الحديث عن شانغهاي مثلما يرتبط بالشعر، يرتبط بالذاكرة السياسية والثقافية الصينية، فقد شهدت حرب الأفيون في القرن التاسع عشر، واستمرت في القرن العشرين بؤرة تمرد وانتفاضات، وهي إلتي كتب فيها اندريه مالرو روايته (الوضع البشري).