https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

في أفغانستان كالعراق أعلنت قوة الاحتلال الأميركي موعدا لانتهاء الدور الحربي لقواتها المقاتلة ولسحب هذه القوات بنهاية عامي 2014 و2011 على التوالي، وتحاول إدارة الرئيس باراك أوباما بيع هذا الاعلان للرأي العام الأميركي المعارض للحربين باعتباره وفاء بوعود أوباما الانتخابية بإنهاء الحربين، وبيعه للرأي العام العربي والاسلامي وبخاصة في البلدين المحتلين باعتباره نهاية للاحتلال وبداية لاسترداد البلدين لسيادتهما. لكنه انسحاب لا ينهي الاحتلال لا في أفغانستان ولا في العراق.

لكن مجموعة من الحقائق تدحض مثل هذه الادعاءات وتؤكد بأن الولايات المتحدة إنما تغير تكتيكات احتلالها فحسب بينما استراتيجيتها باقية لابقاء سيادة البلدين مرتنهة لدولة الاحتلال الأميركي ووصايتها وهيمنتها على القرار الوطني فيهما، لأن “انحسار الوجود الأميركي من البلدين في المدى القصير أو حتى المتوسط أمر غير واقعي … لحسابات استراتيجية” تتعلق بـ”تنامي الدور الصيني في الشأن الدولي” في رأي افتتاحية لصحيفة “المدينة” السعودية في الرابع والعشرين من الشهر الجاري.

في السابع من حزيران الجاري تجاوزت أفغانستان فيتنام كأطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة بعد أن تجاوز المأزق الأميركي فيها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي مدة السنوات التسع لمأزق الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان. وتحت ضغط الأزمة الاقتصادية، ومعارضة أكثر من (70%) من الأميركيين للحرب على أفغانستان حسب أحدث استطلاعات الرأي، رأى أوباما أن “الوقت قد حان للتركيز على بناء الدولة هنا في الوطن” كما قال في خطاب الاعلان عن بدء سحب قوات الاحتلال الأميركي من أفغانستان.

لكن انفاق أكثر من تريليون دولار أميركي في الحرب على العراق وأفغانستان هو استثمار أضخم من أن يسمح لأي إدارة أميركية بالتخلي عن الاهداف الاستراتيجية للحربين على البلدين، لذا كان من المتوقع أن تغير واشنطن تكتيكات احتلالها لا استراتيجيته، إلا إذا أرغمت على ذلك بهزيمة ساحقة كهزيمتها في فيتنام.

ففي كلا البلدين تربط الولايات المتحدة انسحابها بابرام اتفاق للشراكة الاستراتيجية طويل الأمد يرتهن البلدين للاستراتيجية الأميركية لفترة طويلة مقبلة، وليس سرا أن المفاوضات جارية حول ذلك بين إدارة أوباما وبين كل من النظامين المنبثقين عن الاحتلال الأميركي في بغداد وكابول.

وفي كلا البلدين يجري التخطيط لأفغنة الحرب وعرقنتها بتأهيل النظامين المنبثقين عن الاحتلال الأميركي للحلول محل قوات الاحتلال الأميركي “المنسحبة” في مواصلة القتال ضد المقاومة الوطنية للاحتلال وللنظامين الوكيلين محليا عنه، فتكلفة الجندي الأميركي سنويا في أفغانستان تبلغ حوالي مليون دولار سنويا بينما تكلفة الجندي الأفغاني تقدر بحوالي (12) ألف دولار في السنة، ولا تختلف تكلفة الجندي العراقي كثيرا عن ذلك، بمعدل ملياري دولار في الأسبوع و(100) مليار دولار في السنة (120 مليار دولار هذا العام)، مع أن فتنمة الحرب على فيتنام لم تنقذ الولايات المتحدة من هزيمتها الساحقة فيها.

وفي تكرار لسيناريو فتنمة الحرب الأميركية على فيتنام، تلجأ قوة الاحتلال الأميركي الآن في كلا البلدين الى أفعنة وعرقنة الحرب بين النظام المنبثق عن الاحتلال وبين المقاومة الوطنية له، لتصورها كحرب أهلية، سوف يظل أحد طرفيها بالتأكيد بحاجة لا غنى عنها لدعم الوجود العسكري الأميركي في مواجهة شعبه، في تكتيك لم يعد ينطلي على الشعوب لكنه اثبت جدواه في خدمة الاستراتيجية الأميركية.

وفي البلدين، وبحجة عدم جاهزية القوات المسلحة لصد أي عدوان خارجي، لم يعد سرا أن قوة الاحتلال الأميركي تخطط لابقاء جزء من قواتها الحربية فيهما، بعد تغيير مسماها الى بعثة خبراء ومدربين. وقد استخدمت قوة الاحتلال الأميركي العراق حقل تجارب تطبق الناجح منها في أفغانستان، فأوباما على سبيل المثال لجأ في أفغانستان الى ما لجأ اليه سلفه جورج بوش من زيادة عديد القوات الأميركية في العراق لاحتواء المقاومة المتصاعدة لقوات الاحتلال عندما أعاد انتشار جزء من القوات الأميركية في العراق الى أفغانستان، ولذلك فإن السيناريو الأميركي للبقاء عسكريا في العراق بعد عام 2011 سوف يحتذى به على الأرجح في أفغانستان بعد عام 2014، ولذلك أيضا يجدر التوقف عند عملية إخراج مثل هذا السيناريو في العراق الآن.

ففي العراق يرتفع صوت حكومة نوري المالكي مكررا التأكيد على أن اتفاقية وضع القوات الأميركية في العراق بعد انتهاء تفويض الأمم المتحدة لوجودها عام 2008 (صوفا) لا تجيز تمديدها ويرحل المسؤولية عن “تعديلها” أو عن أبرام اتفاقية جديدة لتمديد بقائها الى “مجلس النواب”، في عملية تضليل مراوغة في مواجهة المعارضة الوطنية العامة لتمديد بقاء قوات الاحتلال تصرف الأنظار بعيدا عن مسؤوليته المباشرة عن عدم إجراء الاستفتاء على الاتفاقية بموجب نصها وبعيدا عن غض النظر الأميركي عن حصر كل السلطات التي تؤهله للتمديد بين يديه ليبرم اتفاقية جديدة كما أبرم الاتفاقية الأولى.

وقد بدأ العد التنازلي لابرام اتفاقية جديدة فعلا. وكان السفير الأميركي جيمس جيفري آخر أيار / مايو الماضي قد أكد بأن هذه المفاوضات “لم تبدأ بعد” لكن وزير الدفاع “السابق” روبرت غيتس صرح للسي ان ان في العشرين من هذا الشهر بأن بلاده “كانت قد بدأت” الحديث مع العراق عن ابقاء “عدد محدود” من القوات الأميركية فيه بعد موعد نهاية العام الحالي، بينما قال خلف غيتس ورئيس وكالة المخابرات المركزية السابق ليون بانيتا في التاسع من الشهر ان “الولايات المتحدة يجب أن تبقي قواتها في العراق بعد .. نهاية عام 2011”. وفي الحادي والعشرين من الشهر كان عنوان رئيسي على الصفحة الأولى لصحيفة حكومة المالكي الرسمية “الصباح” يتحدث عن “اتفاقية أمنية جديدة مع واشنطن” ثم تحدثت الصحيفة بعد يومين عن اتفاق مبدئي بهذا الشأن. وفي يوم الاثنين الماضي جمع رئيس النظام المنبثق عن الاحتلال جلال طالباني بمقر اقامته في بغداد زعماء كتل “العملية السياسية” التي هندسها الاحتلال وكان الاجتماع “ناجحا” واتفق المجتمعون على عقد اجتماع آخر “قريبا” لاتخاذ “قرار موحد” كما قال طالباني، ومن الواضح أن التعتيم على موضوع “النجاح والاتفاق” وماهيته إنما يشير فقط الى موافقة يبحثون الآن عن “قرار موحد” بشأن سيناريو إخراجها. وفي يوم الاثنين ذاته كان اسامة النجيفي رئيس مجلس النواب على رأس وفد برلماني في واشنطن في زيارة رسمية لبحث سيناريو إخراج التمديد لبقاء قوات الاحتلال “برلمانيا”. ولن يكون سيناريو التمديد لبقاء قوات الاحتلال الأميركي في أفغانستان بعد عام 2014 مختلفا كثيرا عن هذا السيناريو على الأرجح.

وفي كلا البلدين، حسب محللين أميركان، تنقل إدارة أوباما الآن الحرب الى مرحلة ثالثة. وكانت المرحلة الأولى هي الحرب النظامية التي انتهت بالانتصار العسكري الذي أعقب الغزو وإسقاط النظام الحاكم في كل من البلدين، وقاد الاحتلال العسكري وفرض نظام حكم منبثق عنه وموال للاحتلال الى ظهور المقاومة الوطنية مما قاد الى المرحلة الثانية من الحرب ضد ما أسماه الاحتلال الأميركي بـ”التمرد” الذي أطال أمد الحرب حتى الآن. إن عجز قوة الاحتلال الأميركي عن تحقيق أي حسم عسكري في المدى المنظور في حربها على المقاومة، وتكبدها خسائر مادية وفي الأرواح تفوق كثيرا ما تكبدته في المرحلة الأولى، قاد إدارة أوباما الآن الى الانتقال لمرحلة ثالثة من الحرب تنقلها من حرب على “التمرد” الى حصر الدور الأميركي فيها عسكريا في “الحرب على الإرهاب” بهدف خفض التكلفة المالية وتقليص الخسائر في الأرواح، باعتبار قصر الدور الأميركي في الحرب على المقاومة على “تكتيكات محاربة الارهاب” يمثل “استراتيجة خروج” مناسبة لمعظم القوات الأميركية من البلدين تمكن أوباما من القول انه “بعد عقد صعب من الزمن، فان مد الحرب ينحسر الآن، .. لتصل هاتان الحربان الطويلتان الى نهاية مسؤولة” كما أعلن مساء الأربعاء الماضي.

وفي هذا السياق يصبح مفهوما اختيار رئيس وكالة المخابرات المركزية “سي آي ايه” ليون بانيتا وزيرا جديدا للدفاع واحالة سلفه روبرت غيتس الى التقاعد، وكان غيتس هو صاحب فكرة زيادة عديد القوات الأميركية للقضاء على المقاومة العراقية في عهد الرئيس السابق جورج بوش وهو نفسه صاحب فكرة الزيادة المماثلة للقضاء على المقاومة الأفغانية في عهد أوباما، وقد فشل غيتس في الحالتين، واعتبر محللون أميركيون قرار أوباما بالانتقال الى المرحلة الثالثة في الحرب على البلدين اعترافا صريحا بهذا الفشل و”انتصارا” لنائبه جو بايدن الذي عارض زيادة عديد القوات وحبذ تكتيكات “محاربة الارهاب” على تكتيكات “محاربة التمرد” منذ البداية.

لكن الحرب مستمرة بغض النظر عن مراحلها التكتيكية. ففي العراق “ترث الخارجية الأميركية دور البنتاغون” بعد نهاية العام الحالي كما قالت صحيفة البيان الاماراتية في عنوان إخباري. وفي شباط/فبراير الماضي فوض الكونغرس الوزارة بزيادة عدد موظفيها في العراق الى (17) ألفا، وبتزويدها بـ(24) طائرة هليوكبتر و(19) طائرة، سوف يتم تعزيزها لاحقا الى ما مجموعه (46) طائرة، وفقا لتقرير المفتش العام لوزارة الخارجية الذي نشر أوائل الشهر الجاري، ومن المؤكد بالتالي أن بعضا من (357) قاعدة عسكرية كانت القوات الأميركية تحتلها عام 2009 سوف يخصص لهذا السلاح الجوي التابع لوزارة الخارجية، ولحوالي عشرين ألفا من القوات سوف تظل في العراق لحماية السفارة وموظفيها بمعدل جندي لكل موظف تقريبا، ناهيك طبعا عن “المتعاقدين الأمنيين” بحيث لا يقل عديد القوات الأميركية التابعة لوزارة الخارجية عن خمسين ألفا، أي ما يعادل تقريبا عديد جيوش العديد من الدول العربية. ووفقا لتقرير المفتش العام للوزارة، طلبت إدارة أوباما من الكونغرس المصادقة على ميزانية للوزارة في العراق قدرها (6.3) مليار دولار للسنة المالية 2012، أي ما يزيد على ثلث اجمالي الميزانية التشغيلية لوزارة الخارجية للسنة المالية الجارية البالغة (14) مليار دولار. وفي أفغانستان، أعلن أوباما أنه سيسحب عشرة آلاف من قواته قبل نهاية العام الحالي، وما لايقل عن (23) ألفا قبل نهاية السنة المقبلة، ليظل (70) ألفا “فقط” في أفغانستان بعد ذلك، ضمن حوالي (150) ألفا من القوات المتحالفة في “الناتو” الموجودة الآن.

لقد كان “إنهاء العقلية التي تقود الى الحرب” من أهم وعود باراك أوباما خلال حملته الانتخابية. لكن تكتيكاته الحربية بعد توليه مقاليد الحكم تثبت فقط أنه لا يزال أسير استراتيجية لا تضعها الا عقلية كهذه. صحيح أنه لم يبدأ الحرب على أفغانستان، غير أنه ايدها عندما كان مرشحا للرئاسة، وصعدها ووسعها ألى باكستان المجاورة بعد أن أصبح رئيسا. وكان قد انتقد سلفه بوش لأنه لم يزد عديد القوات زيادة تكفي لكسب الحرب، وبعد أن أصبح رئيسا زاد هو عديدها بحوالي أربعين ألفا يريد الآن سحبهم خلال العامين المقبلين دون ان يحقق الفوز الذي كان يأمل فيه.

لكن أوباما وإدارته لا يستطيعون لا إعلان الانتصار ولا إعلان الهزيمة لا في العراق ولا في أفغانستان، مع أن التغيير في تكتيكات الحرب ليس الا محاولة لتأجيل هزيمة محققة وحتمية طال الزمن أم قصر، لأن الحرب على كلا البلدين هي حرب غير عادلة على الاطلاق، ولأنه بعد عشر سنوات من الحرب على أفغانستان وثماني سنوات من الحرب على العراق ما زالت القوة العسكرية الأعظم في التاريخ الانساني عاجزة عن إخضاع إرادة شعبين مصممين على التحرر الوطني وتقرير مصيرهما واستعادة سيادتهما، وما زالت عاجزة عن القضاء على المقاومة الوطنية فيهما، وعاجزة كذلك عن إقامة نظام تابع وموال لها في كليهما، وإذا كانت أزمة تاليف الحكومة التي لم يكتمل حتى الآن بعد عامين تقريبا من الانتخابات شغل الحقائب الوزارية السيادية فيها كافية للدلالة على هشاشة النظام المنبثق عن الاحتلال في العراق فإن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر كتب في الواشنطن بوست اوائل الشهر الجاري يقول إن إنشاء حكومة وأجهزة أمن تتولى مسؤولية الدفاع عن أفغانستان بحلول العام 2014 أصبح على نطاق واسع “أمرا غير قابل للتحقيق”.

فالفشل في القضاء على طالبان في أفغانستان لم يكن أقل من الفشل الأميركي في “اجتثاث” البعث والمقاومة في العراق لأن طالبان جزء لا يتجزأ من التراب والنسيج الوطني الأفغاني كما كتبت ليندا هيرد في “أراب نيوز” السعودية يوم السبت الماضي، ومثلها البعث والمقاومة في العراق، وسقطت في كلا البلدين المناورة الأميركية للخلط بين المقاومة الوطنية وبين القاعدة لتنحسر القاعدة وتتصاعد المقاومة دون أي شائبة “ارهاب” تشوبها. فنائب قائد قوات الاحتلال الأميركي في العراق، الجنرال فرانك هيلمك، اعترف للواشنطن بوست الأسبوع الماضي بأن المقاومة العراقية تشن نحو مائة وخمسة وثلاثين هجوما كل أسبوع وبأن الشهور الثلاثة الماضية بخاصة قد شهدت ارتفاعا ملحوظا في هذه الهجمات.

وفي أفغانستان تسعى قوة الاحتلال الأميركي الآن الى مفاوضات سلام مع طالبان، واعترف غيتس للسي ان ان في التاسع عشر من الشهر بأن بلاده بدأت “محادثات تمهيدية” مع طالبان، وفي اليوم السابق أكد رئيس النظام المنبثق عن الاحتلال حامد كرزاي أن الولايات المتحدة تجري “محادثات مباشرة” مع الحركة وأن ما لايقل عن ثلاث اجتماعات قد عقدت لهذا الغرض. لكن طالبان مثلها مثل المقاومة العراقية تصر على الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال حتى آخر جندي ومعهم النظام السياسي الذي أقاموه بكل ارثه كشرط مسبق لأي مفاوضات جادة لانهاء الحرب.

إن إعلان أوباما الأربعاء الماضي عن سحب القوات الأميركية على مراحل ممتدة حتى نهاية عام 2014 كان له تأثير انفراط العقد على حلفاء الناتو في أفغانستان، فخلال ساعات كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يعلن عن خطة مماثلة لسحب القوات الفرنسية، وعبرت ألمانيا عن ترحيب حار بقرار أوباما لأنه يسوغ قرارا سابقا لها بخفض مماثل لقواتها دون الخمسة آلاف جندي خلال العام الحالي، بينما كتب محرر الشؤون الخارجية في صحيفة “ذى أوستراليان” يوم الجمعة الماضي يقول إن “الانسحاب الأميركي يزيل اي سبب عسكري متبق لبقاء أستراليا” في أفغانستان. ومن الواضح أن الولايات المتحدة في طريقها الى هزيمة محققة والمقاومة في طريقها الى انتصار حتمي في أفغانستان والعراق على حد سواء.

ميدل ايست أونلاين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − 3 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube