https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

– المؤلف: مسعود ضاهر
كيف يفسر العرب النهضة اليابانية؟ هل هي محصلة جهود أميركية أم هي مستمدة من ثقافة وإرادة سياسية يابانية؟ وكيف ينظر اليابانيون إلى العرب؟
يحاول هذا الكتاب أن يحيط بالنظرة المتبادلة بين العرب واليابانيين ويقيم الاهتمام العربي الثقافي باليابان وبأوجه الخلاف بين الباحثين العرب أنفسهم في دراستهم لليابان.
النفط والتباعد ومحاولات الحوار والفهم
لا يتجاوز عمر المعرفة العربية البحثية حول اليابان ربع قرن من الزمان، وكانت قبل ذلك مجرد انطباعات صحفية وعاطفية، وغالبا ما كتبت عن بعد، ولم تستند إلى الحد الأدنى المطلوب من التوثيق العلمي والتحليل الموضوعي.
وكانت العلاقات العربية اليابانية هشة للغاية، فلم يظهر اليابانيون اهتماما يذكر بالعرب قبل حرب 1973، حين تعرض الاقتصاد الياباني لهزة عنيفة بسبب ارتفاع أسعار النفط.
وقد رفض العرب معاملة اليابان كدولة صديقة، فلم تكن صورة اليابان لدى العرب مهزوزة منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلة المد القومي والشعارات الثورية أسقط العرب تماما اليابان من دراساتهم واهتماماتهم، ولم يشغلوا أنفسهم بهذه النهضة المعجزة التي تحققت بعد الهزيمة الكبرى في الحرب العالمية.
وغلب على الصورة المتبادلة بين العرب واليابانيين التشوه والسلبية لدى كل جانب تجاه الآخر، فقد كانت وسائل التواصل ضعيفة، وكانت الرؤية المتبادلة متأثرة إلى حد كبير بالإنتاج الإعلامي الغربي عن الطرفين.
وما زال تأثير الصورة النمطية التي تشكلت في القرن العشرين حاضرا بقوة في الكتب المدرسية ووسائل الإعلام.
وبعد أزمة النفط بذل الباحثون اليابانيون جهودا ثقافية مهمة لمعرفة العرب عن كثب، فهناك عشرات المتخصصين في دراسة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية للدول العربية، ويتزايد وجودهم باستمرار في مراكز الأبحاث اليابانية المنتشرة في اليابان وفي بعض الدول العربية.
كما أن حضور الباحثين اليابانيين في المؤتمرات العلمية العربية أو ذات الصلة بالعرب والإسلام والنفط بات واضحا، وهم يشاركون دوريا في غالبية تلك المؤتمرات.
وبذل المثقفون العرب جهودا ملحوظة في العقدين الماضيين للحصول على معرفة موضوعية عن اليابان، مستندة فعلا إلى وثائق يابانية أصلية وإلى مشاهدات عيانية نقدية.
وقد زار اليابان لهذه الغاية عدد كبير من الأكاديميين والأدباء والصحافيين والفنانين العرب، ونشروا عددا كبيرا من الأبحاث المهمة، ولكن جزءا من الدراسات العربية تكرر أو ترجم مقولات لباحثين أوروبيين وأميركيين، وهي مقولات يغلب عليها التحيز.
وعقد الباحثون العرب واليابانيون سلسلة من مؤتمرات الحوار الثقافي تظهر أن الجانبين يعطيان مسألة الحوار المتبادل والمعرفة الموضوعية اهتماما كبيرا، وقد يكون لذلك نتائج إيجابية في العلاقات بين الطرفين في مختلف المجالات.

ويمكن القول إن المعرفة المتبادلة بين اليابان والعرب مرت بمراحل عدة، فقد دلت مذكرات رائد النهضة اليابانية فوكوزاما على انبهاره بمصر لحظة مرروه بأراضيها في رحلته إلى أوروبا عام 1861.
وأظهر بعض اليابانيين إعجابهم بقوانين المحاكم المختلطة في مصر، واقترحوا الاستفادة منها خلال سنوات 1883-1887، وأعقبتها مرحلة انبهار عربي بالانتصارات التي حققتها اليابان في حروبها على روسيا، كما عبرت عن ذلك قصائد حافظ إبراهيم، وكتاب مصطفى كامل “الشمس المشرقة” عام 1904.
ثم بدأ الجانبان حوارا ثقافيا منذ عام 1978، نتج عنه أكثر من عشرة مؤتمرات وندوات علمية شارك فيها عدد من أبرز الباحثين العرب واليابانيين، وما زال الحوار الثقافي مستمرا بوتيرة متصاعدة أحيانا ومتقطعة أحيانا أخرى، لكنه يشير بإمكانيات كبيرة لعقد مؤتمر للحوار كل عام.
والمطلوب توحيد الجهود العربية في هذا المجال حتى تأتي ثمار الحوار مفيدة، وتصدر عنه توصيات علمية تنفذ بالكامل.
وتطورت الكتابات الانطباعية والبعيدة والصحافية عن اليابان والعرب إلى دراسات نقدية معمقة، ومن المفكرين والباحثين الذين كتبوا عن اليابان: مالك بن نبي، ورؤوف عباس حامد، وشارل عيساوي، وأنور عبد الملك، ومحمد جابر الأنصاري، وعلي المحجوبي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط.
وقد تكون جيل جديد من الباحثين العرب واليابانيين يدرك أهمية بناء علاقات ثقافية على أساس الندية، والنقد الموضوعي المتبادل، وهو يعمل على تطويرها في المستقبل بما يخدم المصالح الحيوية والأساسية للشعبين العربي والياباني.
ويوجد في الوقت نفسه عدد من الباحثين العرب ممن يرى النهضة اليابانية صنعا أميركيا، والنمور الآسيوية نمورا مروضة وجريحة في القفص الأميركي، وينصحون بعدم الاستفادة من تجربتي التحديث في اليابان وآسيا لأنهما لا تقدمان المقولات المفيدة لاستنهاض الأمة العربية.
“يعود الفضل السريع في حركة التحديث اليابانية إلى تضافر عوامل عدة أبرزها الدور المركزي للدولة العصرية، وجهازها الإداري المنظم بدقة متناهية، وجيشها القوي”
النهضة اليابانية الحديثة
شهدت اليابان تبدلا كبيرا بدءا بعام 1868 في عهد الإمبراطور مايجي أدى إلى تثبيت ركائز المجتمع الياباني الحديث المتماسك، وإلى قيام دولة مركزية تحولت إلى دولة إمبريالية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
وشكلت إصلاحات مايجي النموذج الأرقى للتحديث السريع في منطقة جنوب وشرق آسيا، وساعدت اليابان على إرساء دعائم دولة عصرية وجيش قوي ونظام اقتصادي ومالي متطور وديناميكية اجتماعية منفتحة على كل ما هو جديد وإيجابي في العالم.
وكان من نتائجها المباشرة أنها حمت اليابان من مخاطر الاحتلال الغربي، لكنها ساهمت في بروز نزعة توسعية جعلت من اليابان الدولة الإمبريالية الوحيدة في منطقة جنوب وشرق آسيا.
وكان للنخب الثقافية أثر مباشر في إنجاح عملية التحديث انطلاقا من التراكم الإيجابي الذي كان متوفرا في اليابان.
ويعود الفضل السريع في حركة التحديث اليابانية إلى تضافر عوامل عدة أبرزها: الدور المركزي للدولة العصرية، وجهازها الإداري المنظم بدقة متناهية، وجيشها القوي.
وشكل التعليم الركيزة الأساسية لعملية الإصلاح المستمر والتنمية المستدامة، ولعب القطاع الخاص دورا أساسيا على جميع المستويات، وبخاصة في المجالين الاقتصادي والمالي.
وتشكل اليابان اليوم حجر الزاوية في بناء إستراتيجية الوحدة الآسيوية التي يجرى الإعداد لها تدريجيا على غرار الاتحاد الأوروبي، ويمكن التثبت بسهولة من أن جميع دول النمور الآسيوية قد اقتبست بشكل أو بآخر بعض مقولات أو أشكال التحديث اليابانية.
وقد يكون الرئيس الماليزي الأسبق محاضر محمد من أهم النماذج الفكرية والسياسية التي تعبر عن هذا الاتجاه في العمل الإقليمي والدولي.
وقد صدر عن دار الساقي عام 1998 كتاب “صوت آسيا، زعيمان آسيويان يناقشان أمور القرن المقبل” لمحاضر محمد وعمدة طوكيو شينتارو إيشيهارا، ويرى محاضر في هذا الكتاب الذي أثار ضجة واسعة عند صدوره أنه من الصعوبة تخيل اقتصاد عالمي بدون اليابان.

إن الثقة في احتمالات التقدم في آسيا ليست سببا للرضا المفرط أو الخضوع للأوهام، فبعض الحديث عن نجاح آسيا الاقتصادي ينطوي على نيات سيئة، إن بعض الدول العربية تعمل جاهدة لكبح جماح آسيا، لأنها تخشى أن تنافسها في يوم من الأيام.
ويرى إيشيهارا أن اليابان شرعت في الانفكاك عن الغرب وبخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، فاليابانيون آسيويون وينتمون إلى هذه المنطقة بالدم والتراث، ومصالحنا في آسيا أكثر مما هي في أميركا.
صحيح أن اليابان عضو في النادي الغربي باعتبارها دولة صناعية متقدمة، ولكنها في الوقت نفسه جزء من الشرق، وإن الوقت يقترب لأن يصبح الشرق أولى أولوياتنا في السياسة الخارجية، وإذا تجاهلنا مسار التاريخ وتمسكنا بالغرب فسوف نخرج من الغرب والشرق على السواء.
“لا بد من الاستفادة من التجربة اليابانية في إطلاق النهضة العربية، خاصة من أبرز سمات نظامها التربوي والتي أعطت اليابان شخصيتها المتميزة ومكنتها من تحقيق درجات متسارعة من النجاح”
النهضة اليابانية برؤية عربية
يجري المؤلف دراسة تحليلية لمضمون عشرات الدراسات العربية عن اليابان على مدى القرن الماضي، وقد أصدر عبد العزيز السقاف عام 1988 دراسة بعنوان “تجربة النهضة اليابانية في عهد الإمبراطور مايجي وصلاحيتها كنموذج يحتذى لدول العالم الثالث مع مقارنة بين اليابان واليمن”.
وقدم إشارات مهمة تبين تركيز اليابان على تنمية الكفاءات الفردية في إطار تنمية الجماعات في آن واحد، وضرورة التركيز على نظام القيم لأنه يساعد على نجاح النهضة، والتوازن بين التطور الاقتصادي والتنمية الاجتماعية والتثقيف الذاتي والجماعي لإنجاح النهضة وإحداث التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
وانتشرت في ثمانينيات القرن العشرين موجة من الدراسات المستقبلية ركز معظمها على النهضة الآسيوية واليابانية بخاصة، وعلى أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنا آسيويا.
منها كتاب محمد جابر الأنصاري “العالم والعرب سنة 2000، نظرات مستقبلية في بروز القوى والاتجاهات العالمية الجديدة وتأثيرها على المصير العربي في القرن الحادي والعشرين” من أبرز الموضوعات التي عالجها المؤلف كما تدل العناوين: التفوق الأصفر، والعرب أمام التجربة اليابانية، والقوة الصفراء، وسر التقدم الياباني، ونحو مركز عربي للدراسات الآسيوية، وألحق بالكتاب فصولا مترجمة عن الفرنسية حول التجربة اليابانية.
وقد ركز الأنصاري على المقولات الثقافية ودورها في التحولات، ودعا إلى الاستفادة من التجربة اليابانية في إطلاق النهضة العربية، وأشار إلى عشر خصائص أساسية تشكل في رأيه أبرز سمات النظام التربوي في اليابان التي أعطتها شخصيتها المتميزة ومكنتها من تحقيق درجات متسارعة من النجاح.
وكتب أسعد ياسين عن الإدارة اليابانية وما يمكن للعرب أن يستفيدوا منها (مجلة المستقبل العربي، مارس/آذار 2001)، ووجد أن أبرز خصائص الإدارة اليابانية هي الوظيفة مدى الحياة، والمشاركة والإجماع وتدفق القرار من أسفل إلى أعلى التنظيم، وتطوير الحياة الوظيفية، وكثافة الثقافة التنظيمية، ونطاق المشاركة فيها، ووضوح الترتيب، ونظام الإدارة بالتجوال، وتدريب الأفراد ورفع كفاءتهم في العمل، والتنظيم الهرمي الدقيق لمنظمات الأعمال.
“غياب العدالة الاجتماعية في المجتمع العربي يشكل المعاناة الأساسية ومصدر الإعاقة والفوضى، ولا يمكن الحديث عن المجتمع العربي مع إغفال القمع”
العرب بعيون يابانية
يعتقد نوبوأكي نوتاهارا في كتابه “العرب، وجهة نظر يابانية” أن غياب العدالة الاجتماعية في المجتمع العربي يشكل المعاناة الأساسية ومصدر الإعاقة والفوضى، ولا يمكن الحديث عن المجتمع العربي دون إغفال القمع المهيمن وبغير معالجة هذه المسألة فإن الحديث سيكون غير مجد.
يمثل نوتاهارا الجيل الثالث من المستعربين اليابانيين، وهو يتكلم العربية كأهلها، وقد ترجم من العربية رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، ورواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي، ومجموعة من الروايات الأخرى مثل أرخص الليالي، والحرام، والعسكري الأسود، وتلك الرائحة، وبيت من لحم، وحادثة شرف، والخبز الحافي، والوباء.

ويعد مائيجيما شينجي من الجيل الأول من اليابانيين المستعربين، فقد ترجم القرآن الكريم إلى اليابانية، وساهم في تدريب وإعداد الجيل الثاني من الباحثين اليابانيين في الشؤون العربية، وهو الجيل الذي ساهم في ترجمة عدد من الكتب العربية المهمة إلى اليابانية مباشرة وليس عبر اللغات الأوروبية كما كان الحال من قبل.

ويتميز الاستعراب الياباني على الاستشراق الغربي بالمعرفة التدرجية بالعالم العربي والاستقلالية، ويوجد اليوم قرابة مائتي باحث ياباني من المتخصصين بالقضايا العربية والإسلامية يعملون في اليابان والدول العربية، وتشهد الدراسات العربية في اليابان نقلة نوعية.
عرض/إبراهيم غرايبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 2 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube