شكلت تجربة اليابان نموذجاً تحديثياً جديداً عند مطلع القرن الحادي والعشرين ، وهو النموذج الوحيد الذي أثبت كفاءة عالية في تحدي الغرب على ساحته الرأسمالية نفسها وبعلومه وتقنياته. وهناك من يعتقد بحق أن نموذج التحديث الياباني الديمقراطي يمكن أن يكون الأفضل والأكثر ملائمة لعصر العولمة في القرن الواحد والعشرين . فقد نجح اليابانيون بإقامة التوازن ما بين التنمية الاقتصادية الشمولية والقيم الإيجابية أو الروحية في التراث التقليدي. كما أن الفهم الياباني لشكل العلاقة بين الفرد ، والعائلة ، والشركة ، والعمل ، والدولة ، يعتبر فهماً مغايراً جداً لما هو سائد في الغرب. وتنطلق إستراتيجية اليابان باتجاه القرن الواحد والعشرين من تصور علمي يرى أن الحرب باتت مستحيلة لأنها تقود حتماً إلى تدمير الجنس البشري بأكمله. وبالتالي ، فالتنافس الحقيقي في القرن الراهن سينصب على إنتاج السلع الاقتصادية وتسويقها. ورخاء الشعوب الاقتصادي هو حجر الأساس في بناء المستقبل وليس تكديس الأسلحة المدمرة التي ستتراجع أهميتها في العلاقات الدولية في القرن الواحد والعشرين. ويقدم المؤرخ الدكتور مسعود ضاهر كتاباً رائعاً غزيراً بالمعلومات التي يجب أن يطلع عليها العربي سواء أكان مثقفاً أو سياسياً أو مسؤولاً أو إدارياً ، وحقيقة الامر أنني فوجئت بغزارة المعلومات الذي أحتوى عليه الكتاب هناك الكثير من الحقائق التي لم أكن أعرفها عن اليابان على الرغم من إقامتي في هذا البلد لأكثر من ست سنوات ، وقد وجدت في الكتاب جواباً للكثير من التساؤلات التي كانت تدور في ذهني عن اليابان. يتضمن الكتاب مقدمة وخاتمة وسبعة فصول. في المقدمة يناقش المؤلف مشكلات التحديث خارج المركزية الأوروبية والأميركية وفيما إذا كان بالإمكان اقتباس نماذج نهضوية مغايرة للنموذج الغربي ومتوائمة مع البيئات الثقافية المختلفة. ثم يستعرض في الفصل الأول إرث حركة التحديث اليابانية في القرن التاسع عشر، وينتقل إلى الفصلين الثاني والثالث، حيث يخصصهما لتجربة التحديث الأولى التي نجحت في إطلاق يابان غنية وذات جيشٍ قويٍ امبريالي ذي نزعة توسعية، انتهت تلك التجربة بهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، وخضوعها للوصاية الأميركية ، لكن الهزيمة اليابانية تحوَّلت إلى نهضةٍ ثانية في النصف الثاني من القرن العشرين كما يشرح المؤلف في الفصل الرابع، يلي ذلك الفصلان الخامس والسادس اللذان يعالجان مشكلات التحديث في المجتمع الياباني المعاصر، وكذا عناصر الاستمرارية والتغير في التجربة، أما الفصل السابع فهو خلاصة عنوان الكتاب، ويتحدث مباشرةً عن الدروس المستفادة عربياً من تجربة التحديث اليابانية. ويشير الكاتب إلى أن ” منهجية هذا الكتاب بنيت على مقولات نظرية تؤكد وجود عوامل إيجابية سمحت لليابان بتجديد نهضتها ، منها : الاستفادة من العناصر البشرية المدربة التي تم إعدادها إبان تجربة التحديث الأولى ، والكثافة السكانية ، والتجارة الواسعة ، ، والصناعات الالكترونية ، والمردود الكبير للضرائب ، والموارد المالية ، الوافرة ، والمداخيل العالية التي جعلت السوق اليابانية من أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم. التحديث في خدمة النزعة العسكرية اليابانية المساويء والإيجابيات يشير الدكتور مسعود ظاهر في كتابه إلى أن هناك مرحلتين من مراحل التحديث في تاريخ اليابان الحديث وهما : حركة التحديث الأولى والتي بدأت عام 1868 بإصلاحات الإمبراطور مايجي واستمرت مع خلفائه من بعده إلى أن توقفت بعد الإحتلال الأمريكي لليابان لتبدأ معها حركة التحديث المعاصرة مع الإصلاحات الأمريكية التي مازالت مستمرة حتى الآن . وقد بنيت ركائز التحديث الأولى من شعور بالخوف من الإحتلال الغربي لليابان على غرار ما حل بالدول المجاورة في جنوب شرق آسيا ، كالصين والهند وباقي دول المنطقة. وأنصبت جهود المصلحين في عهد مايجي على بناء دولة عصرية يحميها جيش قوي يتمتع بانضباط صارم ، ومزود بأحدث الأسلحة وبتقنيات العلوم العسكرية الغربية. وقد أنهت إصلاحات مايجي بذلك مرحلة عزلة طوعية استمرت قرابة 250 سنة تحت حكم أسرة توكوغاوا. وأحدثت النهضة اليابانية الأولى تبدلات إجتماعية كبيرة حولت اليابان إلى بلد غني وله جيش عصري قادر على إنزال هزائم سريعة بالجيوش التقليدية في البلدان المجاورة. ويرى الكاتب أن ” تجربة التحديث الأولى تعتبر مرحلة إنتقالية مهمة في تاريخ اليابان ما بين هيمنة النظم التقليدية من جهة ، والعمل على إستيعاب النظم الغربية الحديثة وتوضيفها في خدمة آيدلوجية التحديث اليابانية من جهة أخرى ، وكان الشعار المركزي لتلك المرحلة يتلخص على قاعدة (جيش قوي لدولة يابانية حديثة). ويؤكد الكاتب ” على أن الفضل في إنجاح التجربة يعود إلى تضافر عوامل عدة أبرزها دور الدولة العصرية وجهازها الإداري المنظم بدقة متناهية وجيشها القوي ، وإلى دور التعليم الذي شكل الركيزة الأساسية لعملية الإصلاح المستمر والتنمية المستدامة ، وإلى الدور الأساسي الذي لعبه القطاع الخاص على المستويات كافة ، وبشكل خاص في المجالين المالي والإقتصادي. على أن الباحث يؤكد على أن ” سياسة أعطاء الأفضلية المطلقة للتصنيع السريع في خدمة تحديث العسكر تركت آثاراً سلبية للغاية على الإقتصاد الياباني ، وبالدرجة الأولى في قطاعات الإنتاج التقليدية السابقة كالزراعة وصيد الأسماك واللؤلؤ. وعلى الرغم من حركات الإحتجاج والثورات المستمرة التي قام بها الفلاحون خلال عهد مايجي إلا أن الدولة استمرت في إعطاء الأفضلية للجيش أولاً ، يليه القطاع الصناعي ، بالإضافة إلى التعليم والبنوك والتجارة. ومع مطلع القرن العشرين يرى الكاتب أن اليابان كانت قد تحولت فعلاً إلى دولة إمبريالية ذات نزعة توسعية تخضع مباشرة لإدارة عسكرية على مختلف الصعد ، لذا يرى بعض المحللين أن إصلاحات مايجي دفعت اليابان لشن حروب توسعية أودت بالكثير من إيجابيات حركة التحديث داخل المجتمع لصالح مغامرات عسكرية متلاحقة. وسار الإمبراطور تايشو (1912-1926) على خطى والده مايجي في تشجيع النزعة العسكرية عبر مزيد من الحروب التوسعية التي بلغت أقصى مداها في عهد خلفه الإمبراطور هيروهيتو (1926-1989) الذي قاد اليابان إلى هزيمة مدمرة في الحرب العالمية الثانية. ويلخص الدكتور مسعود ظاهر تجربة التحديث الأولى في اليابان بالقول ” نجحت اليابان في عهد مايجي وخلفائة بإقامة دولة أمبريالية قوية لفترة جاوزت النصف قرن ، لكن نجاح مقولة ” تحديث العسكر على حساب تحديث المجتمع ” ، قادت إلى تدمير ركائز المجتمع الياباني من أجل تحقيق مشاريع توسعية على حساب دول الجوار الآسيوي ، ولخدمة أحلام امبراطورية واحتكارات اليابان الكبرى.
إحتلال اليابان وانطلاق النهضة اليابانية المعاصرة أنهى الإحتلال الأمريكي لليابان عام 1945 السيطرة اليابانية على دول الجوار وأخضعها ، للمرة الأولى في تاريخها ، لسلطة حكم أجنبي ، إلا أن اليابانيين تمسكوا بوحدة أرضهم وشعبهم ، وانطلقوا منها لتحرير أرادتهم القومية واقتصادهم بسرعة كبيرة ، وفي ظروف اقليمية ودولية ملائمة . فشهدت اليابان تبدلات جذرية على مختلف الصعد ، السياسية والإقتصادية والاجتماعية والتربوية في السنوات التي أعقبت مباشرة هزيمتها العسكرية. ويؤكد الكاتب أن توجيهات القيادة العليا الأمريكية في اليابان أنطلقت من مبدأين : الأول نزع سلاح اليابان بالكامل مقروناً بمنعها من التسلح مجدداً ، والثاني أجبار اليابان على أعتماد شكل من أشكال النظم الديمقراطية الغربية. ويشير الدكتور مسعود ظاهر إلى أن هناك حقائق دامغة تؤكد أن الإقتصاد الياباني استفاد إلى الحدود القصوى من الدعم الأمريكي ، ومن الظروف الإقليمية الملائمة خلال السنوات 1948-1955 كما أستفاد ايضاً من فتح الأسواق الأمريكية على مصراعيها أمام السلع اليابانية ، وذلك وفق سياسة أمريكية مدروسة عملت على تنشيط الاقتصاد الياباني ودعمه مالياً وتكنولوجياً وبمختلف أشكال التدريب ، وقد عرفت اليابان كيف توظف المساعدات الأمريكية والأوربية بشكل جيد بفضل الخبرة الممتازة لجهازها الأداري المدرب منذ نجاح تجربة التحديث الأولى. لقد كانت ترتيبات القيادة العليا للإحتلال ترمي في البداية إلى أن تتصرف الولايات المتحدة الأمريكية كدولة منتصرة فتفرض إرادتها على اليابان ، ومع تغير الظروف الأقليمية والدولية تحولت العداوة إلى صداقة ، وتم الترويج لمقولة جديدة ترى أن “أعداء الأمس هم أصدقاء اليوم” فأثارت تلك المقولات الكثير من الجدل حول مستقبل العلاقات الأمريكية – اليابانية في ضوء ما قامت به ادارة الإحتلال الأمريكي في اليابان. ولعل أبرز الدروس والعبر في هذا المجال حسب ما يراه الكاتب ” أن جميع محاولات القيادة العليا الأمريكية فشلت في نسف ركائز حركة التحديث الأولى وحرف حركة التحديث الثانية باتجاه التغريب أو الأمركة. فتمسك اليابانيون بمقولات أساسية من تراثهم السابق في الحداثة التي تقيم أفضل الروابط مع ثقافة اليابان التقليدية ، وهويتها الحضارية ، وفرادتها المميزة. ويرى الكاتب أن الفضل الأساسي في نجاح حركة التحديث المعاصرة في اليابان يعود إلى سياسة رئيس الوزراء الياباني المحنك يوشيدا (1949-1955) والذي نجح باقناع الأمريكيين بالتخلي عن تشددهم السابق تجاه اليابان وتطبيق فهم مرن يجمع بين مصالح البلدين. لقد كان لسياسة يوشيدا الحكيمة تأثير واضح في تطور اليابان في أواسط القرن العشرين فلعبت دوراً مهماً في إنقاذ بلد مدمر ومهزوم في الحرب العالمية الثانية مع تعرضه لقنبلتين نوويتين. وقد أعطى يوشيداً أولوية في السياسة اليابانية إلى إعادة تأهيل الاقتصاد وقد أدرك بحنكته السياسية المتميزة أن ظروف الحرب الباردة حتمت على الأمريكيين استخدام الأراضي اليابانية لأغراض عسكرية. وبالتالي ، فالتعاون بين الجانبين يسمح للحكومة اليابانية بإعطاء الأفضلية المطلقة للنهوض الإقتصادي بحيث عادت المؤسسات الاقتصادية إلى العمل مجدداً في ظروف سياسية ملائمة ضمنها الدستور اليابان الجديد. ويشير الكاتب إلى أن امتناع اليابان ، القسري أو الطوعي ، عن إعادة تسليح نفسها له آثار إيجابية للغاية في نمو اقتصادها بسرعة دون إرهاق موازنات الدولة سنوياً بنفقات عسكرية غير مجدية في مجال التسلح. فقد تمسك الساسة اليابانيون بمقولة ” الدستور السلمي لدولة منزوعة السلاح” طوال سنوات 1945-1953 ، ولم يرصدوا سوى مبالغ هزيلة للغاية في مجال إعادة التسلح ضمن موازنات 1952-1955. وأصر يوشيدا باستمرار على أن اتفاقية الحماية المعقودة مع الولايات المتحدة كافية لحماية اليابان من أي اعتداء خارجي.
النهضة اليابانية في النصف الثاني من القرن العشرين اتجهت الاستراتيجية الأمريكية في جنوب شرق آسيا نحو تحويل اليابان إلى قوة كبيرة لمحاربة المد الشيوعي في تلك المنطقة عن طريق تقديم نموذج اقتصادي بالغ التطور يشكل مركز استقطاب لدول المنطقة ، ولتشجيعها على اختيار النموذج الرأسمالي وليس الشيوعي في مجال السياسة والثقافة والاقتصاد والحريات العامة. فسار الاقتصاد الياباني ضمن تلك الاستراتيجية منذ عام 1948 ، وبوتيرة سريعة بعد انفجار الأزمة الكورية عام 1950 ، حيث بدأت النتائج الايجابية للسياسة الجديدة تظهر. وسرعان ما تحرر اليابانيون من عقدة الاحتلال الأجنبي بدءاً من عام 1952 ، فوظفوا كامل مواردهم المالية ، وطاقاتهم البشرية ذات الكفاءة العالية ، القديمة منها والشابة ، لتنشيط الأقتصاد الياباني ، وترميم البنى التحتية المهدمة ، والتوسع في بناء قواعد جديدة وعصرية للانتاج ، وتوليد فائض كبير في الأموال والسلع ، وتطوير الخدمات الاجتماعية ، والمشاركة في نقل التكنولوجيا الحديثة واستيعابها وتطويرها . ولعب النمو الاقتصادي السريع الدور الأساسي في إنجاح تلك التوجهات السياسية وتحويل الدمار أو التخلف الأقتصادي المريع إلى “معجزة اقتصادية” باتت موضع اهتمام العالم كله. وكانت هناك عوامل إيجابية عدة تكمن وراء تلك المعجزة ، ساهمت في تسريع وتيرة النمو الأقتصادي الياباني طوال عقود ثلاثة بدءاً من عام 1955. فقد ورثت اليابان من تجربة التحديث الأولى وإصلاحات مايجي قوى عمالية مدربة أفضل تدريب ، وطاقات بشرية عالية الثقافة ، وتكنولوجيا متطورة ، وانفتاحاً كبيراً على الثقافات العالمية والعلوم العصرية . هذا بالإضافة إلى بيروقراطية شديدة التماسك ، شكلت ركيزة أساسية من ركائز النهضة اليابانية الجديدة إلى جانب القوى البشرية المزودة بالعلوم العصرية ، والطاقات الاقتصادية والمالية الكبيرة التي تم توضيفها في الانتاج ، سواء من موارد اليابان نفسها أو من المساعدات والقروض. ويرى الكاتب أن نجاح النهضة المعاصرة في اليابان يعود في جانب أساسي منه إلى أسلوب التعاون الوثيق بين الرأسمال ، ونقابات العمال ، والبيروقراطية الإدارية ، ذات الكفاءة العالية ، بالإضافة إلى استقرار النظام السياسي عن طريق الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حكم اليابان منفرداً طوال النصف الثاني من القرن العشرين. فساهمت تلك العوامل مجتمعة في ولادة الاستقرار الاجتماعي ، وفي تطوير التنمية الاقتصادية بوتيرة نمو عالية لأكثر من عقود ثلاثة متتالية . ولم تتوقف عملية النمو العاصف للاقتصاد الياباني عند حدود استعادة اليابان لدورها السابق في منطقة جنوب شرق آسيا بل تعدتها إلى الأسواق العالمية . ففي مطلع السبعينات باتت اليابان تحتل موقعاً متقدماً في الاقتصاد العالمي إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الكبرى. فعلى سبيل المثال ، أصبحت اليابان عام 1973 في طليعة الدول العالمية في إنتاج الحديد ، والسفن الكبيرة ، والالكترونيات ، والآلات العلمية الخاصة بطب العيون. وبعد سنوات قليلة احتلت موقعاً متقدماً على المستوى العالمي في صناعة السيارات ، والجرارات ، والكمبيوتر ، والروبوت وغيرها. ونشرت إحصاءات عالمية رصينة تضع اليابان في المرتبة الثانية في العالم ، وتصنفها مباشرة بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ويشير الدكتور مسعود ظاهر أن اليابان اعتمدت شكلاً من أشكال الرأسمال غير مألوف لدى الغرب يطلقون عليها الرأسمالية اليابانية حيث يقوم هذا النمط على قبول القطاع الخاص بالرقابة الصارمة التي تفرضها عليه الدولة عبر جهاز بيروقراطي عالي الكفاءة تتشكل منه دوائر وزارة التجارة الخارجية والصناعة. وهو جهاز يتمتع برواتب مرتفعة جداً ، ويفضل مصلحة اليابان العليا على أية مصلحة خاصة ، سواء كانت لأفراد أو لشركات أو مؤسسات. وتعمل اليابان اليوم حسب ما يراه الكاتب على إعادة صياغة استراتيجيتها الاقتصادية في عصر العولمة على أساس أن الاقتصاد السلمي سيصبح الركيزة الأولى لجميع دول العالم ، وأن النزاعات الموروثة ستحل بالوسائل السلمية وعن طريق مؤسسات الأمم المتحدة . وقد برزت اليابان كلاعب ماهر في استخدام السلاح الاقتصادي والتوظيفات المالية لتزيد من نفوذها في عصر العولمة ، وتقيم علاقات وثيقة مع كثير من دول العالم ، متجاوزة الوصاية الأمريكية السابقة. ولعل أهم ما تميزت به تجربة التحديث اليابانية أنها تبنت مقولات الحفاظ على الأصالة مع الانفتاح التام على المعاصرة ، والتوظيف الاقتصادي الكثيف في تربية الإنسان وتشجيع البحث العلمي بحيث يعود ذلك التوظيف بالنفع الاقتصادي الكبير على اقتصاد البلد بأكملة . ويشير الكاتب إلى الأهتمام الكبير بالتعليم في اليابان حيث قدرت نسبة الانفاق المستمر على التعليم من نسبة الانفاق العام في اليابان بحوالي 11.6 بالمئة سنوياً ، وأعلنت الأدارة اليابانية صراحة أنه بدءاً من عام 2000 فإن كل شاب ياباني لا يجيد استخدام وظائف الكمبيوتر ، ولا يجيد معها لغة أجنبية واحدة ، سيصنف في خانة الأميين. ولابد من الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الياباني كايفو حدد الخطوط الأساسية للسياسة الخارجية اليابانية في عقد التسعينيات وموقف اليابان من النظام العالمي الجديد. وقد عرفت لاحقاً بالمباديء الخمسة التالية : ضمان السلام والأمن في العالم ، واحترام الحريات الأساسية للإنسان ، ودعوة جميع الدول إلى ممارسة الديمقراطية الحقيقية ، وتوفير الرخاء لكل شعوب العالم من خلال تطوير آليات عمل اقتصاد السوق الحر ، وحماية البيئة وعدم التلاعب بها أو تشويهها بحيث يستطيع سكان الكرة الأرضية أن يحيوا فيها حياة إنسانية ، وبناء علاقات دولية مستقرة تقوم على الحوار والتعاون بين الشعوب والدول.
تجربة التحديث اليابانية المعاصرة ، دروس وعبر للعرب كان هاجس المقارنة بين فشل النهضة العربية ونجاح النهضة اليابانية حاضراً بقوة في الفكر العربي طوال القرن العشرين ، إلا أن الدراسات العربية عن اليابان بقيت تفتقر إلى الحد الأدنى من التوثيق العلمي. وبحسب رأي الدكتور مسعود ظاهر فإن مقالة شارك عيساوي : لماذا اليابان ؟ كانت فاتحة بحث نظري حول مدى استفادة العرب من دروس تجربتي التحديث في اليابان ، فقد انطلقت المقالة من محاولة الإجابة على السؤال الدائم : لماذا نجحت اليابان ، ولماذا فشلت مصر ؟ وبالتالي جميع العرب والمسلمين ؟ فقدم الدليل العلمي الملموس على أن مصر كانت في وضع أفضل من اليابان في النصف الأول من القرن التاسع عشر من جهة ، وكانت البلد الوحيد في الدولة العثمانية كلها الذي تمتع بالشروط الضرورية للقيام بعملية تحديث ناجحة من جهة أخرى. ونحى عيساوي باللائمة على النظام السياسي في مصر الذي أعاق إستمرار عملية التحديث العربية الأولى والإرتقاء بها من التحديث إلى الحداثة المنجزة ، وانتهى إلى القول ” لو كان قدر لمصر أن تحكم في ذلك الوقت على يد حكومة وطنية ومستنيرة لكانت قد بزغت في القرن العشرين كصورة مصغرة لليابان”. ويرى الدكتور مسعود ظاهر أن على العرب الإستفادة من تجربة اليابان في مجال النهوض الإقتصادي بعد حرب مدمرة ، وحماية البيئة الطبيعية ، ونقل السكن الجديد نحو المناطق الآمنة ، وحماية الثروات الطبيعية المتوفرة لديها ، وبناء الوحدة القومية في مواجهة التحديات الخارجية ، وممارسة شكل أرقى من العمل الديمقراطي . وتعمل اليابان منذ نصف قرن على اتباع الحل سلمي في حل مشكلاتها الأمنية والأقليمية العالقة مع الولايات المتحدة التي لازالت تحتفظ بأكثر من أربعين ألف جندي أمريكي على الأراضي وفي المياة الأقليمية اليابانية. وبعبارة أخرى ، إن دروس اليابان في هذا المجال مفيدة جداً للعرب ، فاعتماد طريق الحل السلمي عن طريق المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة لا يعني أبداً التنازل عن شبر واحد من الأرض الوطنية أو القومية. كما أن الموارد الطبيعية ، والمال ، والتكنولوجيا ، وغيرها تشكل أسلحة فعالة لا تقل أهمية عن سلاح الجيوش ، ويجب استخدامها في سبيل استعادة تلك الأرض ، مهما طال عليها الاحتلال. ويؤكد الكاتب على نقطة مهمة جداً وهي من الدروس المستفادة من تجربة التحديث اليابانية المعاصرة في مجال تطبيق المفهوم الجديد للأمن القومي من حيث الحفاظ على أمن المجتمع بشموليته ، وكامل طبقاته وليس أمن محتكري السلطة السياسية فقط. وقد أستنبط اليابانيون أشكالاً من الحماية الذاتية حولت الغالبية الساحقة من الشعب إلى قوى متعاونة طوعاً مع القوى الأمنية المزودة بأسلحة بسيطة للغاية. وعلى قاعدة “كل مواطن خفير” نجح اليابانيون بحماية مجتمعهم بطرق ديمقراطية حضارية جعلت اليابان في طليعة الدول المتحضرة من حيث تدني نسبة الجريمة ، والاغتصاب ، والمخدرات ، والسرقات ، واستخدام العنف ضد الأفراد والمؤسسات. ويشير الكاتب إلى أن من أخطر سلبيات النظام الإقليمي العربي في هذه المرحلة ، هي التكتلات الإقتصادية والمالية ، فهم يواجهون مؤسسات عصر العولمة العملاقة بقوى مشتتة ، وغياب تام للتنسيق المتكامل فيما بينهم ، وتغليب المصالح القطرية الضيقة على التوجهات الوحدوية في مجال التكامل الإقتصادي ، وفي هذا المجال هناك بالتأكيد دروس مستفادة للعرب من اليابان التي طورت جميع مؤسساتها لكي تتلائم مع العولمة والمنظمات الفاعلة في النظام العالمي الجديد. فقد جرى دمج عدد كبير من البنوك ، والمؤسسات التجارية ، والمصانع ، والمنظمات الاعلامية ، والثقافية ، والفنية لكي تستطيع تلك المؤسسات التصدي لسلبيات عصر العولمة وحماية المجتمع الياباني من السقوط تحت رحمة المنظمات المالية والإعلامية الدولية. وفي مجال البحث العلمي وتوطين التكنولوجيا فقد دلت الدراسات أن نسبة الانفاق العربي على البحث وتطوير المراكز العلمية إلى الناتج القومي لم تصل إلى أكثر من 0.5 بالمئة في عام 1996 ، وهي نسبة متدنية جداً ولا يمكن أن تقاس بما ترصده البلدان الصناعية المتطورة في هذا المجال . ففي عقد الثمانينات ، كانت الولايات المتحدة توظف سنوياً 135 مليار دولار في البحث العلمي ، اي قرابة 2.9 بالمئة من إجمالي إنتاجها القومي ، مقابل 3 بالمئة من اليابان ، وفي مجال التنمية البشرية المستدامة يذكر الكاتب أن هناك تجارب ناجحة في هذا المجال قامت بها اليابان ، وتتلخص في تنمية الطاقات البشرية والمادية في آن واحد . ولقد قامت خطط التنمية في جميع البلدان العربية على استغلال مكثف للموارد الطبيعية مع إهمال شبه تام للتنمية البشرية المستدامة ، فعطلت طاقات الإنسان العربي الإبداعية بدل تطويرها . ويتختتم الدكتور مسعود ظاهر كتابه بالتساؤل : لماذا تجاهل العرب دروس حركة الحداثة اليابانية واستفاد من الآسيويين؟ ويعيد الكاتب التذكير بمقالة شارل عيساوي : لماذا اليابان ؟ واعتبرها نقطة تحول أساسية في تاريخ البحث العلمي العربي عن النهضة اليابانية . وقد انتهى عيساوي إلى ضرورة إستفادة العرب من تجربة التحديث اليابانية إذا كانوا فعلاً راغبين في كسر طوق التبعية التي كبلهم بها الغرب فأجهض نهضتهم الأولى في القرن التاسع عشر ، وبناء نهضة عربية جديدة تجمع ما بين العلوم العصرية والحفاظ على كل ما هو إيجابي في تراثهم الإنساني على غرار ما فعلت اليابان. وقد صاغ عيساوي جملته الأخيرة على شكل مقولة علمية بالغة الدقة ، هي : ” على أية حال ، فقد فات العرب قطار الرأسمالية في القرن التاسع عشر ، وهو الذي لحق به اليابانيون بنجاح شديد ، ولكن هناك الكثير من القطارات الأخرى . واليوم يمتلك العرب فرصاً لم يكن اليابانيون ولا غيرهم يتصورونها أبداً . ما نتمناه هو أن يحسنوا استغلال هذه الفرص وأن يجدوا طريقهم إلى التنمية . وهم إذ يفعلون ذلك فإننا ننصحهم بأن يتأملوا في التجربة اليابانية وأن يتعظوا من بعض دروسها “. وأخيراً يضع الكاتب هذا السؤال : ما هو مستقبل كل من العرب واليابانيين في عصر العولمة ؟ ويذهب الكاتب إلى أن نتاج التاريخ العبء لدى الجانب العربي والتاريخ الحافز لدى الجانب الياباني. فقد بدأ العرب نهضتهم قبل خمسين سنة من نهضة اليابان في القرن التاسع عشر. لكن نهضة اليابان هي التي نجحت واستمرت بقوة حتى الآن ، في حين بقي العرب عاجزين عن تحقيق وحدتهم القومية طوال القرن العشرين ، وليس ما يؤكد أنهم على أبواب نهضة عربية جديدة في مطلع القرن الواحد والعشرين. ويعيد الدكتور مسعود ظاهر التأكيد على أنه ” لابد من البحث عن مستقبل الإنسان أولاً ، عربيا كان أم يابانياً ، لأن الإنسان هو مادة الحداثة وغايتها ومستقبلها”