https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png
في خضم الترنح وفقدان البوصلة وإلغاء نظام الرعاية الاجتماعية الذي ربما كان أفضل ميزات النظام الشيوعي السابق -إن لم نقل ميزته الوحيدة- استشرى الفساد بين السياسيين الروس وأصبح التلاعب في الانتخابات ديدنا عاما, وباتت دفة الاقتصاد تدار لتحقيق مصالح فئة صغيرة من مستغلي موارد البلد في ظل الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. وفوق ذلك كله فإن روسيا زجت بنفسها في أتون حرب مكلفة بشريا وماديا في الشيشان ليس لنهايتها أمد منظور.
وفي إطار هذه الفوضى العارمة التي أصابت عقدها الأول -مشيرة إلى أن عافية الإمبراطوريات المنهارة ليست سهلة المنال- يأتي كتاب “المنتفعون: الثروة والقوة في روسيا الجديدة” ليقدم للقارئ العادي فرصة ممتازة -وإن كانت مريرة- للتعرف على طبيعة ما جرى ومازال يجري في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى يومنا هذا, وذلك رغم حذر المؤلف إزاء مناقشة دور اللوبيات اليهودية في روسيا الجديدة سواء في عالم التجارة والمال أو عالم السياسة والأمن والدبلوماسية, وهو الأمر الذي يعتبر مأخذا جليا على الكتاب.
خفافيش ومصاصو دماء
لكن على العموم يروي لنا الكتاب تفاصيل مذهلة وسريعة الإيقاع لكيفية تكوين ثروات طائلة وخسارتها في عمليات نصب واحتلال واسعة النطاق, وتفاصيل أخرى عن فساد سياسي يكاد لا يستثني أحداً, وتدبير مكائد ومؤامرات, وإقدام على مجازفات مالية دولية, واستقواء لعصابات المافيا وما تقوم به من جرائم سلب ونهب وقتل. ويرسم الكتاب صورة قاتمة لروسيا تتحول فيها إلى ما يشبه بيوت الخفافيش ومصاصي الدماء الذين لا همّ لهم سوى إشباع مصالحهم الذاتية. إنه كتاب يوفر كثيرا من الدروس المحبطة لتجربة دولة كانت عظمى ذات يوم وأمست وكأنها جيفة تتخطفها السباع والنسور دون رحمة بأهلها.
مؤلف الكتاب ديفد هوفمان أميركي كان قد شغل منصب مدير مكتب صحيفة “واشنطن بوست” في موسكو بين عامي 1995 و2001, ولذا فقد أحاط عن طريق عمله بتفاصيل استثنائية عن الصفقات المالية والتجارية المشبوهة لأربعة من ملوك المال الكبار الذين سلط الضوء عليهم في كتابه هذا. وكان هؤلاء الأربعة قد بدؤوا بارتقاء درجات سلم الثروة والقوة إبان ثمانينيات القرن الماضي وتواصلوا في ارتقاء سلم النفوذ إلى أن أصبحوا أباطرة المال في موسكو. أولهم المصرفي الكبير ألكساندر سمولنسكي الذي اشتغل في بيع نسخ من الإنجيل في السوق السوداء واغتنى من وراء ذلك. وثانيهم الشاب ميخائيل خودوركوفسكي ويصفه الكاتب بمغناطيس النفط الذي تمكن بسبب قدراته السحرية الخارقة من تحويل الروبلات الروسية البخسة إلى ملايين من الدولارات الذهبية بينما كان مسؤولا عن مكتب الشباب الشيوعي. وثالثهم الصناعي والسمسار بوريس برزوفسكي الذي بدأ شق طريقه نحو الإوزة التي تبيض ذهبا وهو لا يملك سوى سيارة روسية مناصفة مع شريك آخر. أما رابعهم فهو فلاديمير غوزنسكي أحد المشتغلين بالإعلام والمسرح والذي تحول بعد فشله في إدارة مسرحه إلى عالم المال والأعمال, وهناك نجح!
مفاتيح النجاح الذي حققه هؤلاء المغامرون -وهم جميعا من أصل يهودي الأمر الذي يثير الدهشة ويرسم أكثر من علامة استفهام على دور اللوبيات اليهودية في إنجاحهم- تتمثل في العمل الدؤوب والصفاقة والعلاقات المحكمة مع شخصيات مهمة
”يهود ومغامرون
يقدم هوفمان في الفصول الأولى من الكتاب استعراضا محكما ومفصلا لكيفية بروز هؤلاء الأباطرة في عهد غورباتشوف وبعد إعطاء الضوء الأخضر لتأسيس ما عرف بالتعاونيات. فعندها بادر سملونسكي في ذلك الوقت إلى تأسيس شركة بناء وتعمير تخصصت في بناء البيوت الروسية الريفية بالاستفادة من بقايا مواد عمليات إنتاجية مختلفة. أما خودوركوفسكي فأنشأ شركة حاسوب تقدم خدمات استشارية للمصانع الروسية. وعمد غوزنسكي إلى تصنيع الأساور النحاسية من الكابلات التي كانت تستخدم في خطوط الترام الروسية, في حين أقدم برزوفسكي على فتح مقهى جديد.
أما مفاتيح النجاح الذي حققه هؤلاء المغامرون -وهم جميعا من أصل يهودي الأمر الذي يثير الدهشة ويرسم أكثر من علامة استفهام على دور اللوبيات اليهودية في إنجاحهم- فتتمثل في العمل الدؤوب والصفاقة والعلاقات المحكمة مع شخصيات مهمة.
رعاة الأباطرة
وتمتع هؤلاء بالحماية والرعاية من مجلس بلدية موسكو ورئيسه يوري لوزخوف الذي ظل يشغل منصبه هذا منذ عام 1992 ويمثل خامس الشخصيات الرئيسية التي يعالجها هوفمان في كتابه هذا.
وكان لوزخوف قد حول العاصمة السوفياتية الكئيبة إلى ميتروبوليتان يضج بالأضواء واللمعان عن طريق بيعه لممتلكات المدينة من عقارات ومؤسسات ومواقع إلى أصدقائه من رجال المال والأعمال واقتراحه عليهم بما له عليهم من دالة تنفيذ مشاريع باذخة مثل إعادة تعمير كاتدرائية المسيح المنقذ المنكوبة التي بنيت في الأساس احتفاء بذكرى الانتصار على نابليون, ثم عمد السوفيات إلى تفجيرها لتوفير مساحة كافية لبناء بركة سباحة ضخمة, وتنتصب هذه الكاتدرائية في موسكو اليوم شاهدا على اتحاد أصحاب الثروات الفاسدة وأصحاب السلطة والقوة في روسيا الجديدة.
أما الراعي الثاني لهؤلاء الأباطرة الأربعة فهو ألكساندر تشوبايز أحد أهم “قساوسة” نظرية السوق الحر في روسيا الجديدة والذي يعتقد بأن السوق الحر الدواء الشافي من كل العلل والأمراض، وكان قد كلف إدارة برنامج يلتسين للخصخصة بعد عام 1991، وكان تشوبايز هو المسؤول عن مشروع القسائم السيئ الصيت الذي قسمت فيه ملكية الصناعات السوفياتية القديمة إلى أسهم وزعت على عامة الناس، غير أن معظم تلك القسائم بادر إلى جمعها وشرائها فئة من رجال المال والأعمال والتجار الأجانب الذين تمكن وكلاؤهم في الشوارع من شراء العديد من قسائم الناس العاديين بسعر زجاجة من الفودكا.
بيد أن الفضيحة الحقيقية تمثلت في مشروع “قروض مقابل أسهم” الذي طرحه تشوبايز في عام 1995, وذلك عندما عجزت الحكومة عن دفع أجور موظفيها ولجأت إلى رجال الأعمال الذين كانوا قد أسسوا لأنفسهم مصارف خاصة. وتمكن هؤلاء عن طريق تلك المصارف من تكديس ثروات طائلة عبر بذل الوعود لعامة الناس بالحفاظ على أموالهم وتنمية هذه الأموال التي وصلت الى مليارات من الروبلات والتي كانت مخبأة تحت فرش الأسرة في البيوت. ولكن في ظل التضخم غير العادي الذي شهدته روسيا في تسعينيات القرن الماضي عندما واصل الروبل انحداره أمام الدولار, تمكن أصحاب تلك المصارف من تحقيق أرباح ضخمة عبر السيولة التي يملكونها بتصريفها إلى دولارات وتهريبها إلى خارج البلاد.
علاوة على ذلك فإن تشوبايز سمح لأصحاب المصارف كجزء من مشروع “قروض مقابل أسهم” بشراء حصة كبيرة من أسهم أهم العقارات والمؤسسات الصناعية الروسية عبر مزادات صورية ينظمونها بأنفسهم. فاشترى خودوروكوفسكي 45% من أسهم شركة يوكوس التي تصدر نحو خمس النفط الروسي بسعر زهيد يصل إلى 159 مليون دولار. وتصل اليوم قيمة الـ80% من أسهم يوكوس التي يمتلكها إلى ثمانية مليارات دولار.
سمح تشوبايز لأصحاب المصارف كجزء من مشروع “قروض مقابل أسهم” بشراء حصة كبيرة من أسهم أهم العقارات والمؤسسات الصناعية الروسية عبر مزادات صورية ينظمونها بأنفسهم
”المنتفعون وفوز يلتسين
وكانت القوة المالية لزمرة المنتفعين قد لعبت دورا في تأمين فوز يلتسين على خصومه من الشيوعيين في الانتخابات الرئاسية الحاسمة التي جرت في عام 1996. وتولت المحطات التلفزيونية التي يملكها برزوفسكي وغوسنسكي احتضان حملة يلتسين والترويج لها. ووصل المنتفعون إبان تلك الفترة إلى أوج قوتهم, وبدؤوا يتصرفون كما لو كانوا يمثلون حكومة البلاد.
غير أن الطمع شق صفوفهم وسرعان ما بدؤوا يتناحرون على وضع أيديهم على ممتلكات الدولة ومؤسساتها, وجرت حوادث تفجير وقتل متعددة, ثم هوت ثرواتهم إلى الحضيض بعد انحدار سعر الروبل المفاجئ في عام 1998.

وفي العامين الماضيين شرع الرئيس فلاديمير بوتن في التأكيد على سلطة الدولة, فأمر في صيف عام 2000 بالقبض على غوزنسكي الذي انتقدت شبكة “إن تي في” التي يمتلكها الحرب في الشيشان, وأرغم على الهرب خارج البلاد.
أما برزوفسكي الذي ساعد في إيصال بوتن إلى السلطة فقد أرغم على بيع حصته في شبكة “أو آر تي” وهو يعيش الآن في نيويورك. أما خودوروكوفسكي فهو المنتفع الوحيد الذي ظل يعيش في روسيا وأصبح الرجل الأثرى فيها وهو لا يبلغ أكثر من 38 عاما.
بقي أن نقول بأن هوفمان لم يحاول تحليل الإرث السياسي أو الاجتماعي لهرولة روسيا باتجاه السوق الحر بالمعنى الأكاديمي للكلمة, لكن رغم ذلك فإن ما يرويه لنا يقدم صورة سوداء أخرى لحالة الانتقال التي ما زالت تعيشها روسيا ولا يعلم أحد إلى متى ستطول.

-المؤلف: ديفد هوفمان
-الناشر: UK, Public Affair,2002
-الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 + 20 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube