مطيع الله تائب
مع الاستيلاء على مقر ولاية بنجشير (شمال العاصمة الأفغانية كابل) ثم الإعلان عن حكومة تصريف أعمال انتقلت حركة طالبان عمليا إلى مرحلة الحكم في دولة مزقتها الحروب لعقود طويلة.
وبتشكيلها حكومة تضم شخصيات من الجيلين الأول والثاني للحركة ربما أرادت طالبان أن تقول للعالم إن حكومتها الحالية هي امتداد لنفس حكومتها التي سقطت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 والتدخل الأميركي في أفغانستان، لكن بعيدا عن هذه الرمزية التي قد تحملها توليفة حكومة طالبان ربما يكون حكم بلد قسمته عقود من الصراع المرير أصعب بكثير من كسب الحرب.
صراع الأجيال
تشكيل حكومة تصريف أعمال بعد 3 أسابيع من السيطرة على العاصمة كابل ربما كان القصد منه ملء الفراغ حسب تبرير طالبان، لكن يبدو أن الحكام الجدد لأفغانستان غير راغبين في تشكيل حكومة شاملة تضم شخصيات من خارج الحركة، كما يشير التأخير في الإعلان عن الحكومة إلى النقاشات الداخلية الصعبة التي قد تواجهها قيادة طالبان في تشكيل حكومة شاملة.
وقد يكون التحدي الأساسي في المرحلة الراهنة بالنسبة لطالبان هو الحفاظ على الوحدة داخل صفوفها، فالحركة في مرحلة الحرب حافظت إلى حد كبير على رص صفوفها وتجاوز خلافاتها بشأن تكتيكات عسكرية أو سياسية، لكن عودتها إلى السلطة قد توسع الخلافات التي غطتها أولويات الحرب، فالحركة تضم بين جنباتها جيلا متشددا معظمه من القيادات الميدانية الشابة وجيلا يتسم بالاعتدال والانفتاح يضم معظم قيادات الحرس القديم الذين بقوا خارج أرض المعركة ونشطوا في المجال السياسي.
ورغم وعود طالبان بالتغيير من الصعب التوقع بتحول الحركة من الهوية المحافظة التي اتسمت بها إلى أخرى معتدلة في زمن قريب، ويبقى التساؤل هو: إلى أي مدى يمكن لقيادة طالبان أن تذهب في قبول التعددية وتغيير موقفها بشأن حقوق المرأة والحريات الشخصية حتى تحصل على الاعتراف الدولي الذي تتوق إليه حاليا؟ وكيف يمكنها أن تجسر بين الرؤى المختلفة داخل الحركة بشأن متطلبات وأولويات مرحلة الحكم؟
توازنات الداخل
يبدو أن طالبان تراهن في المرحلة الراهنة على مكاسبها بأن أفغانستان ولأول مرة منذ 4 عقود تخضع لسيطرة حكم واحد، ولا توجد هناك مقاومة منظمة وواسعة ضد الإمارة الإسلامية حاليا، وأن الشعب الأفغاني قد تعب من الحروب المتتالية، مما يعطي للحركة فرصة لبسط نفوذها وترسيخ دعائم حكمها بناء على أجندتها الخاصة، لكن هذا الهدوء قد يكون خادعا لو أرادت طالبان الاستفراد بالحكم وفرض نظامها الاجتماعي بالقوة والعنف، حسب معظم المراقبين.
فمجرد الوعد بالتغيير والتعهد بإقامة نظام سياسي يسمح لمشاركة جميع أطياف الشعب الأفغاني قد لا يكون كافيا لإرضاء جيل جديد من الشباب الأفغان يتمتعون بتعليم أفضل ولديهم وعي سياسي كبير بالأوضاع، وفي حال فشلت طالبان بترجمة وعودها إلى أفعال ومواقف حقيقية قد يجد الجيل المتعلم نفسه أمام خيار الهروب من البلد بحثا عن الحرية ومستقبل أفضل.
ويرجع الهدوء الحذر في أفغانستان جزئيا أيضا إلى أن الشعب يريد أن يعطي فرصة للنسخة الجديدة من طالبان، وكيف تتصرف في مجالات مثل النظام السياسي والأداء الاقتصادي وقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
وفي حال فشل هذه الوعود قد تجد أفغانستان نفسها أمام توترات أمنية وسياسية واجتماعية جديدة يمليها واقع التكوين العرقي والمذهبي للبلد وتوازنات مصالح الجيران والقوى الإقليمية المتنافسة.
ولا ننسى أن أفغانستان واحدة من أفقر البلدان في العالم، ويعيش قرابة 50% من الأفغان تحت خط الفقر، وقد يؤدي المزيد من عدم الاستقرار في البلاد إلى دفع المزيد من الناس إلى المجاعة، في ظل أزمة نزوح داخلية بسبب المعارك لربع مليون شخص خلال الشهور الأخيرة قبل الانسحاب الأميركي.
ويعتبر إنعاش الاقتصاد من أكبر التحديات التي تواجه حكومة طالبان الجديدة، ومن الصعب التعامل مع الأزمة الاقتصادية بمعزل عن المجتمع الدولي، وكذلك في غياب المتخصصين والقوى العاملة المتدربة التي بدأت تفكر في الهروب من البلاد.
ربما تفكر طالبان في الاستثمار الأجنبي -خصوصا الصيني- في الثروات المعدنية لأفغانستان -التي قدرتها مصادر الحكومة الأفغانية قبل سنوات بـ3 تريليونات دولار- كطوق النجاة لاقتصاد البلد.
كما تفكر الحركة أيضا بتفعيل موقع أفغانستان الجيوإستراتيجي في مشاريع نقل الغاز والنفط من آسيا الوسطى إلى جنوب آسيا، لكن هذه المشاريع الكبيرة بحاجة إلى وقت طويل، وقبل ذلك إلى اعتراف دولي بحكم طالبان يسهل عمل الشركات العالمية في مثل هذه المشاريع العملاقة.
الاعتراف الدولي
رغبة طالبان في الاعتراف الدولي كانت واضحة منذ موافقتها على فتح مكتب سياسي في قطر والتواصل مع العالم، وما زالت هذه الرغبة تتملك صناع القرار في زعامة الحركة، لأنها تعلمت من تجربتها الأولى في الحكم وكذلك تجارب أخرى في العراق وسوريا أن الاعتراف الدولي والتعامل مع العالم هما مفتاح نجاحها وسر بقائها.
الآن وبعد الإعلان عن حكومتها تواجه طالبان مهمة الحصول على اعتراف دولي وعضوية الأمم المتحدة، وذلك عبر مجموعة وعود وتأكيدات ربما أهمها الانفصال التام عن منظمات إرهابية عالمية أو إقليمية، واحترام الحدود الدولية، وعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية ضد أي دولة، واحترام المواثيق الدولية بالنسبة لحقوق الإنسان، وتأمين الحريات والمشاركة السياسية في ظل القوانين الإسلامية.
وتوحي تصريحات قادة طالبان أن الحركة تدرك فعلا أن المجتمع الدولي سيتفاعل معها بإيجابية لو أدارت علاقاتها بعناية مع دول الجوار والقوى العظمى والمنظمات الدولية، وتجنبت الصراع والمواجهة، خاصة في تفاعلها مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
الحركة تدرك أيضا مخاوف دول الجوار والغرب من خطورة انزلاق أفغانستان إلى الحرب الأهلية مرة أخرى، وعودة الجماعات الإرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، وحدوث موجة لجوء جديدة وكبيرة نحو أوروبا من أفغانستان.
لكن يبدو الحصول على الاعتراف الدولي بحكومة طالبان الجديدة مبكرا، فالحكومة -كما أعلنت عنها الحركة- تعمل كحكومة تصريف أعمال لملء الفراغ وإدارة شؤون البلاد بشكل مؤقت، في انتظار تشكيل حكومة موسعة تمثل النسيج العرقي والمذهبي والأطياف السياسية في البلد حسب وعود طالبان.
والمجتمع الدولي لا يبدو متسرعا في إعطاء الشرعية لحكومة طالبان قبل أن يتأكد من أدائها الذي لا يبدو مشجعا حتى الآن حسب تقييمات غربية، وربما تأمل الحركة أن تباشر دول مثل باكستان والصين وروسيا وإيران بالاعتراف بحكومتها لفتح الطريق أمام اعتراف دولي أوسع، وهو أمل بحاجة إلى إظهار طالبان نضجها النسبي في إدارة البلد بعيدا عن أجندتها الحزبية الضيقة ودبلوماسية تراعي التوازنات الإقليمية والدولية. إن حالة عدم اليقين بشأن تشكيل حكومة موسعة تمثل جميع المكونات العرقية والمذهبية في أفغانستان، والغموض السائد في قضايا حقوق الإنسان والحريات السياسية والشخصية، ولا سيما حقوق المرأة، وتردد المجتمع الدولي في الاعتراف بالحكومة الأفغانية الجديدة بعد الانسحاب الأميركي كلها ترمي الكرة إلى ملعب طالبان التي تبحث عن شرعية في الداخل واعتراف من الخارج عبر سلسلة تنازلات، دون أن يسبب ذلك صدعا في صفوفها أو صدمة في هيبتها