https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

________________________________________
المؤلف : محمد خير الوادي
-1-
المقدمة
عملت سفيرا في الصين الشعبية لثماني سنوات في الفترة الممتدة ما بين اعوام 2000 -2008 . وقبل ذلك زرت هذا البلد عدة مرات كصحفي زائر، كتبت خلالها مقالات عنه واجريت لقاءات مع قادته .خلال اقامتي الدبلوماسية في الصين لم اترك منطقة الا وزرتها من الغرب الى الشرق ،ومن جنوب الصين الى شمالها . اختلطت مع مختلف فئات الشعب الصيني، من قادة سياسيين ومفكرين وفنانين وعمال ومزارعين ورجال اعمال . كنت حريصا على سبر اغوار الصين وفهمها، وادراك اسرار تطورها وتقدمها. وقد سكبت ذلك في عدة كتب الفتها ونشرتها وهي:
اضاءات على السياسة الخارجية الصينية ، تجارب الصين من التطرف الى الاعتدال ،والعلاقات الصينية الاسرائيلية : الحسابات الباردة.
عالجت في هذه الكتب مسائل السياسة والاقتصاد، والى حد ما التاريخ . لكنني ادركت ،ان الصورة الوافية عن ارض التنين لن تكتمل، الا اذا سلطت الاضواء على العنصر الاهم المكون لهذا البلد ، وهو المجتمع الصيني بعاداته وتقاليده ، وبإرثه الروحي والحضاري المتواصل دون انقطاع منذ خمسة الاف سنة . كان لا بد من الغوص في محيط هذا المجتمع الهائل- وهو الاكبر في العالم – ، والتعرف عن كثب، على كنوزه الروحية وسبر مرتكزاته الثقافية .وهذا ما فعلته في كتابي الحال ي عن الصين.
وهذا الكتاب ليس بحثا اكاديميا – كما فعلت في كتبي السابقة- وانما هو عبارة عن حصيلة انطباعاتي ومشاهداتي ولقاءاتي مع ممثلي هذا المجتمع ،المتعدد الاعراق والقوميات والذي تمتزج فيه الاسطورة بالواقع ، ويتعايش فيه التاريخ مع المعاصرة . اردت ان انقل حصيلة ذلك كله الى القارئ العربي الكريم ، على امل ان تتعمق معرفته بالصين ،وتزداد تلك الاواصر التاريخية ،التي تربط العرب والمسلمين بهذا البلد الناهض ، والذي ينتظره مكان مفصلي في مستقبل العالم . والله ولي التوفيق

في اليوم التالي انطلقت بي السيارة التي ارسلتها الحكومة الصينية خصيصا في موكب رسمي تنهب شوارع بكين العريضة والمقسمة في معظمها الى أربعة حارات : حارة السيارات الصغيرة ، حارة الحافلات العامة ، حارة الدراجات الهوائية ، وحارة المشاة . وأي تجاوز بين هذه الحارات يمثل خرقا مشينا للقانون. بهرتني الاكمات الخضراء المنتشرة في كل مكان ونباتات الزينة المغطاة بعناية لحمايتها من صقيع بكين القارس . كانت الشجيرات ملفوفة بقطع قماشية خضراء، وكانت بعض الاشجار الكبيرة مغطاة بالكامل بشوادر للحماية . افهمني مدير المراسم الجالس إلى جانبي في السيارة ، ان بلدية المدينة تهتم جدا بحماية الأشجار والنباتات من برد الشتاء ، وانه حالما يحل الربيع ستخلع الأشجار ملابسها وتظهر مفاتنها للناس.كنا في فصل الشتاء ، وهو اكثر الفصول قتامة في بكين . فهناك برد قارس حيث تنخفض الحرارة الى ما دون الصفر بدرجات ربما تصل احيانا الى عشر او خمسة عشر، وكانت الاشجار عارية من اوراقها ، والارض مغطاة بطبقة رقيقة من الثلج الذي بات لونه اقرب الى السواد بسبب التلوث الشديد في بكين . وبالمناسبة ، فان العاصمة الصينية تشغل – للاسف- الطليعة بين عواصم العالم في مسالة التلوث.
دلفت السيارة إلى ساحة تيان آن مين ،والتي تعني باللغة الصينية “بوابة السماء” وهي من اكبر الساحات في العالم ،وتضم على أطرافها أبنية أشيدت في خمسينات القرن الماضي على الطراز السوفياتي وهي: متحف الصين الوطني وقاعة الشعب الكبرى ،فضلا عن المدينة المحرمة أو القصر الإمبراطوري الذي مارس الحكم منه عشرات أباطرة الصين على امتداد قرون . والساحة المذكورة تختصر تاريخ الصين ,القديم والمعاصر ، الحلو والمر،ومر فيها على امتداد القرون، مختلف انواع البشر:ذوو البذلة الرسمية الامبراطورية او اللباس الشعبي البسيط ،أو اولئك الذين ينتعلون الجزمة العسكرية أوالحذاء الخفيف المهتريء . كل هذه المتناقضات جمعتها تلك الساحة التي شهدت الكثير من الوقائع والأحداث ، منذ إنشائها ً في بكين عام 1651. وقد كُبّرَت إلى حجمِها الحاليِ وتضاعفت أربع مرات لتبلغ مساحتها 40.5 هكتار،واستمرت بالتوسع إلى ان أخذت شكلها الحالي في 1959 . شهدت الساحة إعلان جمهورية الصين الشعبية مِن قِبل ماو تسي تونج في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1949، وفيها تقام العروض العسكرية ،وكانت مقرا للإجتماعاتِ الشعبية أثناء الثورةِ الثقافيةِ التي هزت الصين طيلة عشرة اعوام مابين 1966-1976. والساحة كانت مكانا لاحتجاجات الطلاب في عام 1989.وعلى وعلى طرف الساحة القريب من المدينة المحرمة ، يرفرف العلم الصيني بلونه الأحمر على سارية عالية، حيث تدأب ثلة من الجنود المدربين على رفعه صباحا وإنزاله عند غروب الشمس، أمام أنظار الجمهور الذي إعتاد أن يحتشد في هذين الوقتين لمراقبة الحركات المتقنة للجنود خلال تلك المراسم . ويشعر كل صيني بالفخر لحضوره مراسم رفع العلم الأحمر . وفي وسط الساحة اقيم تمثال ضخم لابطال الشعب . وقد درجت العادة ان يضع القادة الصينيون الزهور على التمثال في المناسبات الوطنية . وعلى الطرف الاخر من الساحة اقيم ضريح الزعيم ماو تسي تونغ، حيث يرقد ماو محنطا في قفص زجاجي . ويمر الزوار جانبه لالقاء نظرة عليه . والملاحظ ان الاصلاحات التي جرت خلال العقود التي اعقبت حكم ماو ، قد قلصت الماوية ونفوذها، وبالتالي تقلص إلى حد كبير عدد زوار الضريح.
توقفت سيارة المراسم عند المدخل الرئيسي لقاعة الشعب ، التي تقع في الجزء الغربي من ساحة تيان آن من. وقاعة الشعب الكبرى هي المكان الذي يمارس فيه قادة الدولة والحزب في الصين النشاطات السياسية والدبلوماسية.فهناك ينظم رئيس الجمهورية المأدبة السنوية التي يدعو إليها نخبة لامعة من المجتمع الصيني بمناسبة ذكرى تأسيس الصين في الأول من تشرين أول ،وهناك يجتمع البرلمان الصيني بشقيه في القاعة الرئيسية التي تتسع لنحو أربعة آلاف مندوب . كما يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمراته في القاعة نفسها ذات اللون المخملي الاحمر. وهناك تقليد رسمي في الصين يلزم جميع أعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، وعددهم تسعة ، باستقبال ضيوفهم في قاعة الشعب – باستثناء رئيس الوزراء الذي يلتقي ضيوفه في مقر الحكومة. كما تقام على المسرح الرئيسي للقاعة الحفلات الفاخرة التي يحييها كبار الفنانين الصينيين. وتتسابق كبريات الشركات الصينية الغنية في تنظيم حفلات استقبال مأجورة للتعريف بأنشطتها.وتسارع شركات الطعام والشاي الصينية التي تزود قاعة الشعب بمنتجاتها إلى وضع لصاقات على سلعها تفيد، بأنها المزود الوحيد أو الرئيسي للمآدب التي تقام في القاعة ، وهو أمر يعزز الثقة بإنتاج هذه الشركات ويزيد من مكانتها.والقاعة تشكل أحد الرموز المعمارية الرئيسية في الصين.فهي قد بنيت في عام 1959، وتبلغ مساحة البناء فيها 170 ألف متر مربع، وتتميز من الخارج بالرفوف المصنوعة من القرميد الأصفر والأخضر المطعم بالأحمر . ويوجد داخل قاعة الشعب الكبرى حوالي 100 جناح وقاعة مؤتمرات تتميز كل منها بميزات خاصة.فهناك قاعة تحمل اسم كل تجمع قومي في الصين . وعلى سبيل المثال هناك قاعة منطقة شينجيانغ ذات الأغلبية المسلمة . وقد زينت جدران القاعة بلوحات ضخمة عن الطبيعة وأنماط الحياة في ذلك الإقليم ، وفرشت بالسجاجيد الفاخرة ذات الألوان الفاقعة والتي تتضمن رسوما ومزركشات تمثل قمة في فن الرسم الصيني . ومن حيث النمط المعماري،فالقاعة تشبه النمط السوفياتي المطعم بمفاهيم العمارة التقليدية الصينية . ويفاخر الصينيون ، بان هذا المجمع الضخم قد بني خلال مدة عام.
جرى اللقاء مع الرئيس الصيني جيانغ زيمين في مطلع شهر كانون الثاني من عام 2001 وفق الترتيبات الصارمة التي حددتها المراسم الصينية ، باستثناء تفصيل واحد ،وهو أن مسؤول المراسم اقترب – خلال الحديث- أربع مرات للتذكير بنفاذ الوقت المخصص ، و في كل مرة كان الرئيس زيمين المنسجم بالكلام و بالإصغاء يصرفه بحركة من يده. أدركت أن الرئيس يعرف كل شيء عني . يعرف أنني زرت الصين سابقا مرتين : الأولى عام 1992، والثانية عام 1996 كرئيس لتحرير صحيفة تشرين السورية ، وكتبت عدة مقالات وأجريت عدة لقاءات مع رئيس الوزراء ونائبه ووزراء آنذاك. ويعرف أنني قد درست الصحافة في موسكو – وهو ما أثار اهتمامه. لن اروي كل الموضوعات التي تمت في اللقاء والذي استمر نحو ساعة كاملة ، لأنني ببساطة لا املك الحق بذلك ، ولكنني أشير إلى أمر شغل قسما كبيرا من اللقاء وهو موضوع انهيار الاتحاد السوفياتي . شعرت ان الرئيس مهتم جدا بمعرفة أسباب سقوط الحزب الشيوعي السوفياتي . وهو – أي الرئيس طرح عددا كبيرا من الأسئلة عن هذا الأمر. كانت هذه المسألة تشغل القيادة الصينية وتقلقها ، وهي أرادت الوقوف على أسباب ذلك كي لا يتكرر الأمر مع الحزب الشيوعي الصيني. واللافت أن الرئيس زيمين آثر الحديث عن هذا الموضوع معي باللغة الروسية . وتفسير ذلك أنه أراد أن يعرف بدقة وجهة نظري مباشرة ودون الدخول في تعقيدات الترجمة، و استثمار الوقت بشكل كامل . أجبته- أيضا باللغة الروسية – بان السبب الرئيسي – برأي- لانتهاء الحزب الشيوعي السوفياتي ،تجلى في الجمود الفكري الذي سيطر على نظرية الحزب ،وكذلك في التكلس التنظيمي والابتعاد عن الناس. لقد فقد الحزب خلال 18 عاما من قيادة بريجنيف القدرة على الإبداع ،وتكلست مفاصله وترهلت أطرافه، واضاع القدرة على قيادة الناس وفقد بوصلة الاتصال بالواقع . لم يتمكن الشيوعيون السوفيات من مجاراة التطور، وتخلفوا عن نبض الزمن .لم يطرح الحزب برامج اقتصادية فعالة ، حتى الأفكار الإصلاحية التي طرحها كوسيغين – رئيس الوزراء انذاك، رفضها بريجينيف.
لاحظت أن الرئيس زيمين يدون كثيرا من الملاحظات على ورقة أمامه ، كما لفت انتباهي أن المترجم الجالس وراءنا قد استرخى على الكرسي لا بل انه بدا مشغولا بحديث جانبي مع مدير المراسم الصينية تتخلله ابتسامات صامتة.قلت : هناك مثل روسي يقول: إن تعفن السمكة يبدأ من رأسها ، وهذا ما حدث في روسيا. ابتسم زيمين وقال ، لدينا تقريبا نفس المثل .ونحن لا نريد تكرار ذلك في حزبنا . وأكد بان قيادة الحزب الشيوعي الصيني لن تغرق بالملذات ولن تكون أسيرة لمتع السلطة وجاذبيتها، وسنعمل على أن لا يتعفن رأس السمكة وان يبقى راس الحزب سليما. واضاف الرئيس زيمين : انا مثلا ، عملت كعامل عادي في مصنع للسيارات عندما ذهبت إلى روسيا. وشاركت في المسيرة الكبرى التي قادها ماو واختبرت شظف الحياة . لقد طرحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني نظرية بناء الاشتراكية ، ونحن لم نحقق البناء الاشتراكي ونعرف صعوبة ذلك، ولم نتسرع ونطرح برامج لقلب الاقتصاد خلال عدة مئات من الايام( إشارة إلى ما طرحه غورباتشوف من انه سيحول الاقتصاد السوفياتي خلال 500يوم)، نحن لن نفقد البوصلة الاشتراكية ، وسنبقي الحلم الاشتراكي متوهجا . فالاشتراكية تشبه الشمس التي تسطع من وراء الجبال البعيدة ، قد لا يغمرنا ضوؤها مباشرة ، ولكن وهجها يضيء لنا الطريق.
قال زيمين في إشارة الى انتهاء اللقاء : لقد استمتعت بهذا الحديث المفيد ، وأود من كل قلبي الاستمرار به، لكنني لا أريد خلق مشكلة دولية . فهناك أربع سفراء أجانب ينتظرونني خارج هذه القاعة لتقديم أوراق اعتمادهم، سنلتقي بالتأكيد، وهنا عاد للحديث باللغة الصينية والتفت إلى مدير المراسم قائلا: السفير الجديد صديق قديم للصين ،قدموا له كل المساعدة لإنجاح مهمته في تعميق العلاقة مع سورية .ووقف ومد يده مودعا وخاطبني بالروسية : إلى اللقاء أيها الصديق العزيز.
في الطريق إلى السيارة ، أشاد مسؤول المراسم باللقاء ، وقال إن الارتياح كان باديا على الرئيس ولذلك مدد الحديث معكم خمسة أضعاف ما كان مقررا ، وهذا لم يحدث إلا نادرا . وأردف المسؤول الصيني : بإمكانكم اعتبارا من اليوم ممارسة مهماتكم ، والسفر إلى أي منطقة في الصين دون الحاجة إلى موافقة مسبقة من وزارة الخارجية الصينية ،وهذه ميزة لا نمنحها إلا للأصدقاء الحميمين.
وهكذا حصلت على الشرط الأساسي لمعرفة الصين وفهمها،وهو التجوال دون عوائق في أصقاعها الواسعة، والاختلاط الحر مع امواجها البشرية المتلاطمة.
فيما بعد التقيت الرئيس جيانغ زييمن ثلاث مرات : الاولى عندما كنت برفقة وفد عالي المستوى من بلادي ، والثانية في حفل استقبال أقامه الرئيس نفسه بمناسبة ذكرى قيام جمهورية الصين الشعبية، والثالثة لدى افتتاحه مهرجان الرياضة الجامعية الدولية ” الاونيفريسادا ” في ملعب العمال في بكين . وفي كل مرة كان الرئيس زيمين يخصني بسلام حار ويدعوني بالصديق القديم ، ويقدمني لمن حضر بهذا الوصف. لكن للأسف، لم تتح لي فرصة أخرى للجلوس والحديث مع الزعيم الصيني حول النظرية الجديدة التي طرحها واسماها التمثيليات الثلاثة . ولا زلت على قناعة ، بان الرئيس زيمين قد استفاد من تجارب انهيار الحزب الشيوعي السوفياتي . فهو – أي زيمين- من خلال طرحه النظري الجديد، قضى على الجمود الفكري ،وجدد طاقة الحزب، وعزز صلاته بفئات جديدة من المجتمع الصيني . لقد بذل جيانغ زيمين كل ما في وسعه من اجل الاستمرار في سياسة الإصلاح والانفتاح التي بدأها دينغ شياوبينغ ،ووسع هذه السياسة لتصل إلى الحزب . ثم ان خروج زيمين من المنصب الأول، ضمن ان يبقى رأس السمكة في القيادة الصينية صالحا. وحال دون انتشار االفساد فيما بعد في كل ارجاء الدولة .
لحلقة القادمة : لقاءات مع الرئيس هوجين تاو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × ثلاثة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube