كتاب المثلث الحرج: إسرائيل والولايات المتحدة والفلسطينيون لنا عوم تشومسكي يتناول بالتحليل التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان في صيف 1982 والمعروف “بعملية السلام في الجليل” كدراسة حالة لرصد أبعاد العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. والكاتب ناعوم تشومسكي هو أستاذ اللغويات المعروف بنظرياته عن وحدة الأساس المعرفي Deep Structures بالإنسان. وقد طبق هذه النظريات في مجال اللغويات Linguistics، حيث تقوم هذه النظريات على أن للإنسان قدرة كامنة innate على البناء اللغوي، وهي ما أطلق عليها generative syntax، ويعرف أيضاً بنشاطه السياسي المعادي للامبريالية الأمريكية في خلال حرب فيتنام، حيث صدر عدة كتب يدين فيها التدخل الأمريكي في جنوب شرق آسيا وإلى جانب ذلك هو يهودي غير صهيوني، وعلماني، وتعرض لاضطهاد من الطائفة اليهودية في أمريكا. من هنا تنبع أهمية هذا الكتاب إلى جانب أطروحته غير المسبوقة في الكتابات عن الصراع العربي- الإسرائيلي التي، وإن كنا، كقوميين عرب، نختلف معها، ولكن لأنها قادمة من ذلك العالم المستنير المناضل تستحق الترحيب والمناقشة. والأطروحة تقول باختصار أن سبب عرقلة عملية السلام في الشرق الأوسط يكمن في تلك العلاقة الخاصة، بين الولايات المتحدة وإسرائيل وما يرتبط بذلك من الرفض المتبادل بين العرب والإسرائيليين. وسوق نناقش هذه الأطروحة فيما بعد، لنوضح أبعاد الخلاف معها. والكتاب مقسّم إلى سبعة فصول كل منها يحتوي على العديد من المباحث. فالكتاب يبدأ بفصل موجز عن التمزق، الذي سبّبه التدخل في لبنان، في بنية النخبة الحاكمة الإسرائيلية. ويحتوي الفصل الثاني على إطار للتحليل، يقوم على فكرة انه لولا التأييد الأمريكي لما استطاعت إسرائيل أن تنجح في سياستها العدوانية تجاه دول المنطقة. وفي الفصل الثالث، يطور الكاتب الإطار التحليلي كصراع إقليمي ذي بُعد دولي. وفي الفصل الرابع يتناول الكاتب تاريخ الصراع الفلسطيني- الصهيوني كجوهر لهذا الصراع الإقليمي. ويأتي الفصلان الخامس والسادس عن التدخل العسكري في لبنان، باعتباره تصعيداً لتطور الصراع الفلسطيني- الصهيوني بأبعاده الإقليمية والدولية. وفي الفصل السابع والأخير يلخص الكاتب مقولته الأساسية في الكتاب بأن تاريخ التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة والصراع بينهما وبين الفلسطينيين أصبح لا يقود إلاّ إلى كارثة وقد تكون نووية. ومن المفترض أن الكتاب كتب من وجهة نظر مؤيدة إلى حد معقول للحق العربي، ووجهة نظر ناقدة إلى حد كبير للسلوك الإسرائيلي والأطماع الأمريكية في المنطقة. فتشومسكي المؤيد لفكرة السلام العالمي وعدم الحرب، والمؤمن بمبدأ الإخاء الإنساني ووحدته المعرفية يرى الشر في السلوك الإسرائيلي العدائي والسلوك العربي الرافض والسلوك الأمريكي الامبريالي. والكتاب مكتوب بشكل وثائقي شامل، حيث تكثر المقتطفات من أقوال صانع القرار الإسرائيلي، والوثائق الأمريكية المتعلقة بالأمن والتي كشف عنها حجاب السريّة. هذا بالإضافة إلى استخدام المراجع باللغة الانكليزية. ولكن الكتاب لا يحتوي على وثائق باللغة العربية، ويمكن أن يفسر ذلك بعدم إلمام الكاتب باللغة العربية حتى يمكن الرجوع إليها. وتناول هذا النوع من الكتابات بالمراجعة والعرض يمثل مشكلة حقيقية، تنبع من أن منطق الكتاب كالتالي: إطار مفهومي متضمن في أول أربعين صفحة، ثم بقية الكتاب وهي حوالي اربعمائة وخمسين صفحة عبارة عن إثبات امبريقي لصحة هذا الإطار. فالكتاب ومنطقه لا يتطور من نقطة إلى أخرى، بل يدور حول مقولة أساسية، مما يؤدي إلى التكرار والإرادة في الإثبات، فالعرض لكل فصل من الفصول إما أن يؤدي إلى إعادة تلخيص الكتاب، أو على إخلال واضح، وعدم إعطاء حق للجهد الامبريقي الشامل والممتاز الذي قام به الكاتب. والحل الذي يتبناه المُراجع هو عرض للإطار المفهومي أي توضيح المقولات الأساسية في هذا الإطار ثم محاولة قراءة في بعض الحوادث المثيرة التي يوردها الكاتب. في بداية الكتاب يحدد الكاتب نطاق البحث بقوله: أن ما يلي ليس المقصود منه عرض أو تحليل شامل لشبكة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين، وإنما له هدف متواضع يتمثل في التركيز على بعض عناصر العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية، وعلاقتهما بالسكان الأصليين (الفلسطينيين) من ناحية أخرى. وانطلاقاً من هذا التحديد فهو يسعى إلى تفسير الرفض الإسرائيلي الدائم للتسوية السياسية التي تقوم على احترام الحقوق الوطنية للسكان الأصليين وما يتبع ذلك من استخدام القوة والإرهاب والدعاية من الجانب الإسرائيلي. وانطلاقاً من هذا التحديد لموضوع الكتاب يؤكد الكاتب على أن المقصود ليس كتابة تاريخ سياسي للصراع أو الإشارة إلى ما هو صحيح في هذه العلاقة الثلاثية، بل توضيح ما هو خطأ، والذي يجب تغييره. ومنهج الكاتب في ذلك هو التركيز على الأفعال والسياسات الإسرائيلية، وذلك ليس بقصد إدانة هذه الأفعال بقدر ما هو إثبات انه لولا المساندة الأمريكية، ما كانت إسرائيل قادرة على الإتيان بها، ولإثبات ذلك فهو يأخذ حالة المذابح الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في أيلول/ سبتمبر 1982 في لبنان باعتبارها تشكل أكثر الإسهامات الأمريكية نحو خلق إسرائيل الكبرى. والكاتب بوضعه المسألة بهذا الشكل يريد أن يقول لنا أنه إذا كان هناك أمل في التغيير وتحقيق التسوية السياسية فيجب عدم التركيز على القوى السياسية في إسرائيل التي تستهجن الأفعال الإسرائيلية الرسمية، بل يجب العمل على تغيير العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن هنا، يمكن أن نفهم فكرته عن المثلث الحرج: فهذا المثلث قائم على قاعدة الرفض: الرفض العربي في مواجهة الرفض الإسرائيلي له من القوة والامتداد بحيث يحدد الضلع المقابل بالفناء، فحيث الاقتراب بين القاعدة والضلع الأمريكي- الإسرائيلي، الكارثة، حيث يختل ميزان القوى والمسافات، فتسود الفوضى واستخدام القوة والعنف. وبناء على ذلك، فكما أن العلاقة الخاصة، بين الولايات المتحدة وإسرائيل قد تغضب إسرائيل بعض الحين، فإن الكاتب يتنبأ بأنها سوف تضر بإسرائيل في التحليل النهائي. ويعتبر مفهوم العلاقة الخاصة، مفهوماً محورياً في فهم تشومسكي للصراع العربي- الإسرائيلي، وهذه العلاقة الخاصة تجد شكلها المحدد في مستوى المساعدة العسكرية الاقتصادية الأمريكية لإسرائيل عبر الزمن. وتشومسكي يقدّر حجم هذه المساعدة في أنه آخذا لكل العوامل في الاعتبار، فإنها ترتفع لتبلغ ألف دولار سنوياً لكل مواطن إسرائيلي، فقد حصلت إسرائيل خلال السنوات المالية من 1978 إلى 1982 على 48 بالمائة من مجمل المساعدة الأمريكية العسكرية للعالم وعلى 35 بالمائة من مجمل المساعدة الأمريكية الاقتصادية للعالم. وفي خلال العام المالي 1983 طلب الرئيس الأمريكي ريغان حوالي مليارين ونصف المليار دولار من إجمالي 8.1 مليارات دولار مساعدات للعالم ومنها 500 مليون دولار هبات و 1.2 مليار دولار من القروض المنخفضة الفائدة. بالإضافة إلى العادة الأمريكية بإسقاط الديون الإسرائيلية، وبيع السلاح بسعر خاص منخفض إلى آخر ما هنالك من مساعدات خاصة تحت أسماء متعددة ومختلفة. ويسخر الكاتب من موقف الكونغرس الأمريكي بعد حدوث مذبحتي صبرا وشاتيلا، بأنه كان أمام موقفين: أما الموقف المتشدد فيتمثل في الموافقة على طلب الرئيس ريغان بالمساعدات الاقتصادية لإسرائيل المشار إليها سلفاً، وإما الموقف اللين الذي دعا إليه البعض مطالباً بزيادة هذه المعونة وإضافة بعض المليارات الأخرى على ما اقترحه الرئيس الأمريكي! ويعتبر الكاتب هذا الموقف من اكبر المساهمات الأمريكية في المذابح الفلسطينية. وتأخذ هذه العلاقة الخاصة، أبعادها الأيديولوجية، وذلك في الوهم المستمر لصانع القرار الأمريكي عن طبيعة المجتمع الإسرائيلي وعن الصراع العربي الإسرائيلي، فالمناقشة الموضوعية للسلوكيات الإسرائيلية غير مسموح بها في الصحافة الأمريكية. ويؤصل تشومسكي أسباب هذه العلاقة الخاصة في أنه قد يكون من الخطأ اعتبار ضغوط الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة هو السبب الأول لهذه العلاقة، والخطأ ينبع من أن القول بهذا يؤدي إلى عدم التقدير السليم لعمق التأييد الأمريكي من ناحية، وإلى إعطاء الجماعات اليهودية دوراً اكبر مما تستطيع أن تلعبه في التأثير على عملية اتخاذ القرار الأمريكي. فاللوبي الإسرائيلي في أمريكا لا يعكس فقط التجمع اليهودي، بل يضم أيضا قطاعات كبيرة من أصحاب الآراء الليبرالية ومن قيادات النقابات العمالية ومن الأصوليين الدينيين ومن المحافظين الذين يقولون بضرورة تأييد وجود جهاز دولة قوي قادر على الدفاع من خلال التكنولوجيا الحديثة. وهذه التركيبة للوبي الإسرائيلي استطاعت تحويل معنى العداء للسامية في أمريكا من العداء لليهود إلى معنى أكثر شمولاً، حيث أصبح عدواً للسامية كل من يؤيد السلام في فيتنام، وكل من يشجع الفلسطينيين. وهذا المعنى الجديد الذي يطلق عليه العداء الموضوعي للسامية يقوم على فرضين: أنه ليس هناك فرق بين اليهودية والصهيونية، وأن كل من هو ضد مصالح الدولة الإسرائيلية هو في الحقيقة عدو للسامية. واتساقاً مع أن اللوبي الإسرائيلي أكبر من الجماعات اليهودية، يرى تشومسكي أن هناك عوامل إستراتيجية تحبذ المساندة لإسرائيل وتعطي للوبي الإسرائيلي قدرة نظامية إضافة إلى قدرته الوظيفية في التأثير على عملية صنع القرار الأمريكي. وبهذا يستخدم تشومسكي مقولة ناداف صفران الأستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب إسرائيل الطيف المحارب، وهي أن تطور العلاقة الأمريكية بإسرائيل محكومة أساساً بالدور الإسرائيلي المتغير في نطاق المفاهيم الأمريكية المتغيرة لمصالحها السياسية- الإستراتيجية في الشرق الأوسط. وبناء على هذه المقولة يرى تشومسكي أنه من الخطأ الاعتقاد بأن إسرائيل تمثل مصلحة قومية أمريكية، بل تمثل وسيلة أساسية للحفاظ على مصادر الطاقة في المنطقة تحت السيطرة الأمريكية، خلافاً للنتيجة التي توصل لها صفران وهي أن إسرائيل تمثل مصلحة قومية أمريكية. والمصالح الأمريكية تتمثل في تجنّب التهديد للسيطرة الأمريكية على نفط الشرق الأوسط، فتشومسكي يحدد الأصول المعتقدية لصنع السياسة الأمريكية تجاه المنطقة في تاريخ التدخل الأمريكي في اليونان 1947، حيث تم التدخل بناء على إيمان ترومان الرئيس الأمريكي آنذاك بأن سقوط اليونان سوف يؤدي إلى انتشار الفوضى في الشرق الأوسط، في النموذج اليوناني يرى تشومسكي الملامح الأساسية للإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة، من حيث اللجوء إلى الادعاء بأن التهديد السوفيتي هو تهديد حقيقي، بينما في الحقيقة يتمثل التهديد الحقيقي للمصالح الأمريكية في التنافس الأوروبي على السيطرة على مصادر النفط. وفي إطار هذه الوضعية للمصالح الأمريكية تلعب إسرائيل دور المنشط لمعاني ومفاهيم وسياسات الحرب الباردة بين القوتين العظميين على المستوى الإقليمي، حيث أنه من خلال هذا التنشيط تكون للولايات المتحدة القدرة على التدخل والتأثير على السياسات الإقليمية المختلفة. والتهديد الثالث إلى جانب التهديدين السوفيتي والأوروبي هو التيار القومي الراديكالي. ويعتقد تشومسكي بأنه بسبب هذا التهديد فإن العلاقات الإسرائيلية –الأمريكية قد دخلت طوراً جديداً من الترسخ والثبات. والأهمية المنهجية لهذا التهديد في بناء تشومسكي النظري هي انه يرى هذا التهديد هو مصدر الرفض المتبادل بين إسرائيل والعرب، وأيضاً في أن هذا التيار بسياسته الراديكالية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل لقاءً حتمياً ومتطوراً. وهذه الحتمية وهذا التطور يأتيان من الإيمان بأن إسرائيل قادرة على استخدام القوة بنجاح لحماية المصالح الأمريكية بصفة خاصة والمصالح الغربية بصفة عامة. وبالإضافة إلى ما سبق- من كون إسرائيل تلعب دوراً مهماً في الإستراتيجية الأمريكية فإنها تلعب أيضاً دوراً قد يكون أكثر أهمية على المستوى اللوجيستي لهذه الإستراتيجية، وذلك من حيث ما تقدمه من خدمة في جمع معلومات وإمدادها إلى المخابرات الأمريكية، ومن حيث تقديم معونات فنية في مجال التدريب العسكري للدول الصغيرة المتحالفة مع الولايات المتحدة في القارات الثلاث مثل زائير، هندوراس، وإيران في ظل الشاه. وتعتبر الحركة الديالكتيكية بين الرفض والتصالح (Rejectionism and Accomodati on) هي القوة الدافعة لهذه العلاقات الخاصة. فالفرضية هي أن العلاقة الخاصة تأخذ أسبابها الإستراتيجية الثابتة من مفهوم الولايات المتحدة الاستراتيجي وقدرة إسرائيل العسكرية وفضل العرب في فرض سلام، بينما تأخذ أسبابها الديناميكية من تفاعل قوى الرفض والتصالح في إطار سياسات الشرق الأوسط. فالجوهر هو أن قوى التصالح في المنطقة أضعف من أن تغير المفهوم الاستراتيجي الأمريكي أو كبح جماح إسرائيل عسكرياً، فهذا الضعف يؤدي في التحليل النهائي إلى تقوية قوى الرفض سواء الإسرائيلية منها أو العربية أو الأمريكية أو الفلسطينية. في إطار هذا المفهوم، تأتي قراءة تشومسكي لأحداث لبنان في صيف 1982م، فأحداث لبنان هي نتيجة لاستمرار الرفض الإسرائيلي للوجود الفلسطيني منذ عام 1949، من ناحية، ونجاح إسرائيل في غزو لبنان يأتي نتيجة استمرار الدعم الأمريكي من ناحية أخرى. يورد تشومسكي في الجزء الباقي من الكتاب يوميات دقيقة للحرب في لبنان، وهو لا يورد هذه اليوميات والأحداث بشكل ممل، بل على العكس يُقرأ في هذه الأحداث معاني تلك التحولات الضخمة التي حدثت في المنطقة، من نجاح المجالات الأمريكية وإخفاقها، والصراع الإسرائيلي-السوري في لبنان، والسياسات الإسرائيلية لفرض السلام الإسرائيلي الذي يعني، ضمن ما يعني، الخضوع للهيمنة الإسرائيلية، وسياسات العرب المتأرجحة بين الرفض والتصالح، والتمزق الداخلي في لبنان، وأخيراً مقاومة أهالي الجنوب اللبناني وأهالي الأراضي المحتلة والمرتفعات السورية والضفة الغربية وقطاع غزة والمقاومة الفلسطينية. ويدين تشومسكي القصف الإسرائيلي للمدنيين في جنوب لبنان وأعمال الإرهاب، والأسلوب الإسرائيلي غير الإنساني في التعامل مع ضحايا الحرب. ولَيّ الحقائق عن طريق تسمية الأشياء بغير مسمياتها. فالحرب تصبح عملية سلام، والسلام يصبح توسعاً إسرائيليا، وهو يرى أن ذلك ليس مجرد إثارة جانبية للحرب بمعنى أنه يمكن التسامح معها باعتبارها أمراً لا بد منه في أي حرب، بل على العكس يعتقد بأن فعل ذلك هو شيء مقصود في حد ذاته، وأنه يشكل هدفاً ووسيلة مهمة في أسلوب إسرائيل في تعاملها مع قضايا الأهالي في الأراضي المحتلة، ويحتج في هذا بأقوال الآباء المؤسسين لإسرائيل وأقوال الجنود والمراقبين الإسرائيليين. ويناقش تشومسكي بعض الدعاوى الإسرائيلية مثل القول بأن الاعتراف بشرعية إسرائيل هو عامل وشرط أوّلي قبل البدء في عملية السلام والتسوية، وهو يرى أن وضع المسألة بهذا الشكل لا يدعو إلا إلى ازدياد الرفض وتقوية شوكته، بل إنها في اعتقاده مقولة تدعم العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فهو يرى أن الدول يعترف بها ليس لأنها شرعية، بل لأنها موجودة وقادرة على أداء وظائف الدولة، وأنه من الواجب التركيز على حقيقة وجود أطراف الصراع وليس على شرعية وجودهم أم عدمها، حيث أن قضية شرعية طرف ما، يجب ألاّ تكون الشغل الشاغل للطرف المقابل، بل أن تكون من اهتمامات من يمثله كل طرف. أما بالنسبة لدعاوى الولايات المتحدة، فتشومسكي يفضح التغطية الأمريكية المتعمدة للتدخل الإسرائيلي، فالولايات المتحدة، وليست إسرائيل، هي التي ادّعت رسمياً بأن إسرائيل قد رجعت إلى لبنان بسبب اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل على يد بعض من الميليشيات اليسارية التي لا زالت موجودة في بيروت. والمدهش أن إسرائيل لم تدَّع على الإطلاق هذا السبب للتدخل، وأيضاً أن إسرائيل قد دهشت وسعدت كثيراً من الاعتدال الأمريكي، وتعاملت مع تصاعد النقد الأمريكي للتدخل على اعتبار انه يتم تحت الضغط العربي من ناحية، وانه للاستهلاك الإعلامي من ناحية أخرى. وكانت حجة إسرائيل في ذلك أن الولايات المتحدة على المستوى غير الرسمي كانت متفهمة ومشجعة للتدخل غير الرسمي مما يتضمنه من خرق للتعهد الأمريكي بسلام الفلسطينيين المدنيين في بيروت. إن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في فهم تشومسكي تؤكد الخيارات التي سوف تدمر إسرائيل. فهذه العلاقة هي التي تمنع الإسرائيليين من رؤية حدود قوتهم والحاجة إلى دبلوماسية خلاقة تقوم على مبادئ إنسانية، وهي التي تساعد وتغذي تيار التطرف والتصلب الديني والإجرامي في إسرائيل. فإسرائيل العلمانية، كما يقول تشومسكي، قد ولّت بلا رجعة، والفكرة في اعتقاده قد ولدت ميتة بسبب التركيز على فكرة الأمة اليهودية بدلاً من فكرة الإخاء الإنساني القائم على المبادئ العلمانية والعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، مع تزايد التطرف في إسرائيل ضد الوطن العربي، تضع العالم على حافة الكارثة النووية. وبصدد تقويم هذا العمل العلمي يمكننا أن نركزّ على قضيتين أساسيتين للنقاش: أولاً: العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وما يؤخذ على الكاتب ليس عدم وجود علاقة خاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بل تفسيره لآليات هذه العلاقة من ناحية، وما ينطوي عليه تفسيره من اقتراحات سياسية للعرب من ناحية أخرى. فبالنسبة لآليات هذه العلاقة، يرى تشومسكي أن العوامل الإستراتيجية التي تحبذ وجود علاقة خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لا ترتبط بطبيعة التعددية للنظام السياسي الأمريكي الذي يسمح من الناحية البنائية بدور فعال للوبي اليهودي في التأثير على صانع القرار الأمريكي. ونقطة الخلاف هي أنه تعامل مع العوامل الإستراتيجية والعوامل الداخلية كمتغيرين مستقلين، وهذه الطريقة في الفهم رغم ما تنتجه من اعتبار العوامل الإستراتيجية كعوامل مرتبطة بالنظام الدولي وليست مجرد انعكاسات لإدراك صانع القرار أو أحداث داخلية، إلا أنها تغفل تلك الارتباطات بين العوامل الخارجية والداخلية. فمثلاً في ظل ما يقول به تشومسكي لا نستطيع أن نفهم سعي الكونغرس الدائم لتفضيل إسرائيل في المعونات حتى على بعض الدول الأخرى والتي تعتبر أكثر أهمية من إسرائيل في إطار الإستراتيجية الأمريكية، مثل الفلبين وتركيا، حيث أن الأولى مرتبطة بالتوازن والسيطرة في شرق آسيا والثانية مرتبطة بالقدرة الأمريكية على المواجهة مع السوفيت. بل أكثر من ذلك أن القول باستغلال العوامل الإستراتيجية استغلالاً تحليلاً كاملاً يؤدي إلى جعل إصرار الولايات المتحدة على تزويد الصين الوطنية (تايوان) بالسلاح المتقدم رغم عدم وجود منفعة إستراتيجية مرتبطة بذلك غير مفهوم، إلا إذا أخذنا في الاعتبار ثقل اللوبي الصيني (التايواني) في تأثيره على صانع القرار الأمريكي. ومن المستحسن التعامل مع هذين المتغيرين كمتغيرين في موقف محدد، حيث قد يلعب أحدهما أحياناً دوراً مستقلاً في مواجهة الآخر وأحياناً أخرى دوراً تابعاً للآخر. وهذه الكيفية الجديدة سوف تسمح لنا بقدرة تحليلية أكبر على فهم تلك العلاقة المعقدة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية واللوبي الصهيوني حول مدى اعتبار إسرائيل وأفعالها مورداً استراتيجياً للولايات المتحدة أو مجرد دولة ما في النظام الدولي. والنقطة الثانية، هي ما يتضمنه أسلوب تشومسكي في التحليل من اقتراحات سياسية للعرب، ففكرة المثلث الحرج تقوم على فرضية أنه لا بد من مواجهة تلك العلاقة الخارجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وأنه يقترح بأن العمل على موازنة ذلك تخلق علاقة خاصة بين الولايات المتحدة والعرب أمراً حيوياً وضرورياً لها. والخلاف معه هنا ينبع من اعتبارين أولهما أنه على فرض صحة هذا الاقتراح هل هذا ممكن عملياً بالنسبة للعرب؟ وثانيهما أنه على فرض إمكان هذا، فهل هذا مرغوب فيه؟ بالنسبة للاعتبار الأول –اعتقد أنه غير ممكن، وذلك اعتماداً على الأسباب التالية: – الارتباط والوحدة الثقافية بين قضية اليهود والفكر الليبرالي العلماني الأمريكي. – الأسبقية التاريخية لليهود الأمريكان في التنظيم والتأثير على عملية صنع القرار. – ارتباط الاقتصاد الإسرائيلي بالاقتصاد الأمريكي. – تاريخ التكامل الوظيفي الإسرائيلي الأمريكي في المجالات الإستراتيجية وخاصة في مجال التسليح وتبادل الخبرات الإستراتيجية، فعدم الإمكان هنا ليس فقط على المدى القصير، بل أيضاً على المدى المتوسط أو الطويل، وحتى إن كان المدى الطويل يحسب على أنه من عشر إلى خمس عشرة سنة. أما بالنسبة للاعتبار الثاني (هل هذا مرغوب فيه حتى وإن كان ممكنا) فالرأي أنه غير مرغوب فيه وذلك للأسباب التالية: – إن السعي في هذا المضمار سوف لا يولد إلا تأكيداً للهيمنة الإسرائيلية. – أنه قد لا يتفق مع الأهداف العربية في استقلال الحرية. – أنه قد يولد مشاكل للشرعية السياسية لبعض النظم العربية هي في غنى عنها. – أنه يخلّ بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة بما له من آثار جانبية على تحقيق الأمن العربي. ثانياً: هي مقولة تشومسكي بأن الرفض العربي الإسرائيلي المتبادل يغذي ويرسخ العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. والخلاف هنا حول نقطتين أولاهما هي في فهمه لفكرة الرفض العربي، وثانيهما هي في مساواته للرف العربي بالرفض الإسرائيلي. فبالنسبة لفهمه للرفض العربي، فإنه من غير الحقيقي من الناحية الامبريقي أن العرب هم الذين ابتدءوا برفض الولايات المتحدة، بل إن الولايات المتحدة هي التي رفضت الأنظمة الوطنية خلال الخمسينات والستينات واعتبرتهم مجرد أبواق لموسكو. وأيضا من غير امبريقياً أن العرب يرفضون شكل الدولة الصهيونية، فالرفض العربي أصلاً هو رفض للتبعية والشكل الاستيطاني، أما القول بأن هذا يمثل رفضاً لأشكال التعايش العلماني القائم على المساواة –أن أي نقد لإسرائيل هو نقد للسامية أو أن الدعوة للتحرر هو عداء للسامية –فكأن تشومسكي قد وقع في الشّرك الدعائي الصهيوني الذي يحاربه ويفضحه في كتابه هذا. والنقطة الثانية هي في مساواته بين الرفض العربي والرفض الإسرائيلي. والخلاف معه هو أن تشومسكي، باعترافه، يرى الرفض الإسرائيلي متمثلاً في رفض البشر وملكيتهم للأرض بينما كما سبقت الإشارة يتمل الرفض العربي في رفض الشكل الصهيوني للوجود اليهودي على أرض فلسطين، فكيف إذاً يمكن المساواة المنطقية بين الرفض الإسرائيلي للحق العربي بالرفض العربي للشكل الصهيوني؟! إنّ الوقوع في هذا الخطأ المنطقي من جانب تشومسكي يجعلنا نتعجب حول قدرته على النفاذ إلى جوهر المشكلة كما هي في الواقع وليست كمسألة مجردة. وفي النهاية يمكن القول أن تشومسكي في هذا الكتاب يعبر عن يأس عميق من احتمال انتصار العقل والجمال. على الشر والتعصب، إنه بذلك يعبر عن المأساة المعرفية للعقلاني في مواجهة واقع متغير تلوح فيه القوة كمصدر وحيد للتقرير والتخطيط، وما يتبع ذلك من انتشار الفوضى والإرهاب. إن الصراع العربي- الإسرائيلي يفرض على العقلاني تحديات متزايدة للفهم والاستيعاب، ويفرض عليه بأن يؤمن أكثر بعقلانيته على أن يكون ذلك بطريقة خلاّقة وإيمان عميق بانتصار وحدة الإنسان.