اهتمت الكتابات الأجنبية بوجه عام، والغربية على وجه الخصوص، في الأيام الأخيرة بتحليل الموقف الصيني من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في ضوء العلاقة الوثيقة التي تربط بين بكين وموسكو، ووجود قناعة بأن الصين يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في مستقبل هذا الصراع. وفي هذا الإطار، نشر موقع “إيكونوميست” تقريرين بعنوان “رغم مواقف حكامهما.. الصداقة بين الصين وروسيا تظل لها حدود”، و”الحرب في أوكرانيا ستُحدد كيف ترى الصين العالم”. كما نشر موقع “نيكاي آسيا” تقريراً بعنوان “يمكن للصين استخدام روسيا لبناء نظام دولي جديد”.
تطرَّقت التقارير الثلاثة إلى المؤشرات التي تكشف عن حياد الصين في الحرب الأوكرانية، والعوامل التي تفسر تفضيل الجانب الصيني نهج الحياد، والأهداف بعيدة المدى التي يسعى إلى تحقيقها من وراء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. كما استعرضت التقارير المؤشرات التي تؤكد محدودية الاستفادة المتبادَلة بين الصين وروسيا خلال حرب أوكرانيا، رغم وجود بعض المؤشرات على التقارب المصلحي بينهما.
مواقف حيادية
استعرضت التقارير بعض المؤشرات التي تدلل على حياد الصين في الحرب الأوكرانية، ومن هذه المؤشرات ما يأتي:
1– ترديد الصين الروايات الروسية قبل الحرب وأثناءها: رفضت الصين في السابق التحذيرات الأمريكية التي تحدثت عن توجه روسيا نحو شن حرب في أوكرانيا؛ حيث اعتبرتها بكين حينها مجرد “أكاذيب”. وحتى بعد شن الحرب بالفعل، ردَّدت بكين حجج الرئيس الروسي “بوتين” بأنه يدافع عن روسيا ضد الولايات المتحدة وتحالفها في إطار حلف “الناتو”.
2– رفض بكين للنداءات الغربية بالضغط على روسيا: رفضت الصين منذ التدخل الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، النداءات المتكررة من الحكومات الغربية لأن تعمل بنشاط أكبر لأجل إقناع روسيا – صديقتها القوية – بوضع حد سريع للفوضى في أوكرانيا. ولم تذهب بكين أبعد من الدعوات العامة لضبط النفس من قبل جميع أطراف النزاع، وحافظت الصين على موقف الحياد “الزائف” المؤيد ضمناً لروسيا.
3– قلق غربي من رهان الصين على قوة الأمر الواقع: يُثير موقف الصين استياء الحكومات الغربية التي تخشى رهان بكين على أن تسود القوة الغاشمة الروسية في غضون أسابيع، وتوجُّه الصين –على الأغلب– لتكون أكثر حزماً في الضغط من أجل وقف إطلاق النار بمجرد أن ينجح “بوتين” في تحقيق انتصارات تعزز موقفه في مواجهة القوى الغربية، وهو ما قد يرتبط بالاستيلاء على العاصمة الأوكرانية “كييف” التي تتعرض لقصف متواصل، وبعد ذلك قد تعرض الصين إعادة بناء المدن المحطمة في أوكرانيا، على أمل أن يُجبر ثقلها الاقتصادي الدول الأخرى على نسيان فترة اللامبالاة الصينية تجاه الانتهاكات الروسية.
4– نفي بكين تقديم الدعم العسكري لموسكو: في مقابل تقارير أفادت بأن واشنطن تبادلت معلومات استخباراتية مع حكومات حليفة تُظهر أن روسيا طلبت من الصين طائرات بدون طيار وصواريخ أرض–جو ومساعدات عسكرية أخرى، فإن الخارجية الصينية وصفت هذه التقارير بأنها “معلومات مضللة“.
عوامل مفسرة
أكدت التقارير أنه يمكن فهم حياد الصين في الأزمة الأوكرانية من خلال مجموعة من العوامل؛ هي:
1– إخفاء الدعم لتحقيق المصالح الصينية الخاصة: رغم التقارب بين روسيا والصين، فإن بكين لا تجاهر بتقديم الدعم العلني لموسكو؛ تفادياً لاستعداء الغرب؛ حيث تتعامل الصين مع علاقتها بالكرملين في الواقع باعتبارها وسيلة لتعزيز القوة الصينية، لا القوة الروسية، فيما لا يرغب الرئيس “بينج” في تقاسم اللوم عن الحرب مع “بوتين” رغم محفزات التقارب بينهما. ولا توجد مؤشرات كذلك على استغلال الصين تشتت الغرب للإسراع لمهاجمة جزيرة تايوان، على عكس نهج “بوتين” الذي يبدو ساعياً بجد أكبر نحو مواجهة النظام العالمي القائم.
2– ارتباط سياسي بين انتصار “بوتين” ونجاح “شي”: يرتبط رهان الصين على التزام الحياد، وحتى على نجاح روسيا عسكرياً في أوكرانيا، بالموقف من شخص “بوتين”؛ ذلك أن هزيمة الرئيس الروسي قد تُلقي بتبعاتها السلبية على نفوذ الرئيس الصيني نفسه، الذي يأمل الحصول على فترة ولاية ثالثة رئيساً للحزب الشيوعي في أواخر عام 2022، متجاوزاً بذلك القواعد المنظمة لفترات الرئاسة في الصين، فضلاً عن أن الرئيس الصيني سبق أن وقع بياناً مشتركاً مع نظيره الروسي قبل أقل من شهر من الحرب، معلناً أن “الصداقة بين الدولتين لا حدود لها”.
أهداف استراتيجية
رأت التقارير أن الصين تسعى إلى استغلال الحرب في أوكرانيا لتحقيق جملة من الأهداف البعيدة المدى؛ هي:
1– استغلال الحرب لتأسيس نظام عالمي بديل: يُثير موقف الصين من الحرب في أوكرانيا الكثير من الجدل؛ ففي حين يُجادل البعض بأن الصين ستبني على صداقة ما قبل الحرب مع روسيا لإنشاء محور للاستبداد؛ يرد آخرون بأن واشنطن ستكثف ضغوطها على بكين لدفعها نحو الانفصال عن روسيا وعزل “فلاديمير بوتين”، ولكن يبدو أن اتجاه العلاقات مع روسيا إنما يرتبط بالمصلحة الذاتية الحذرة للصين، التي تسعى إلى استغلال الحرب في أوكرانيا لتسريع ما تعتبره انحدار الولايات المتحدة الحتمي؛ حيث ينصب تركيز النظام في الصين على حلمه الخاص بتأسيس نظام بديل للنظام العالمي الليبرالي الغربي الحالي.
2– التطلع إلى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ: تتفق رؤية كل من الرئيس الصيني “شي جين بينج” ونظيره الروسي “بوتين” حول تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ يهيمن عليها عدد محدود من القوى الكبرى، بحيث تُدير الصين شرق آسيا، ويكون لروسيا حق النقض على أي ترتيبات مرتبطة بالأمن الأوروبي، وعلى أن يقتصر مجال نفوذ الولايات المتحدة على نطاقها الخاص. ولا يهتم النظام العالمي البديل بالقيم العالمية أو حقوق الإنسان، التي يعتبرها كل من “بينج” و”بوتين” خدعة لتبرير التدخلات الغربية وتهديد نظامَيْهما الخاصَّيْن، مع اعتقادهما أن مثل هذه الأفكار ستصبح، قريباً، من بقايا نظام ليبرالي عنصري وغير مستقر، وسيحل محله تسلسل هرمي يعرف فيه كل بلد مكانه في ميزان القوى الدولي.
3– إفشال عقوبات الغرب لإثبات عجزه: تسعى بكين إلى توظيف التدخل الروسي في أوكرانيا للتدليل على عجز الغرب، وخصوصاً أنه إذا فشلت العقوبات المفروضة على النظام المالي الروسي وصناعة التكنولوجيا بها، فلن تخشى حينها الصين تبعات مثل هذه العقوبات إذا اتخذت هي الأخرى قراراً بغزو تايوان. أما إذا فقَد “بوتين” السلطة بسبب سوء تقديره لمسار الحرب في أوكرانيا، فإن ذلك لن يُحقق أهداف ورؤى الرئيس الصيني، الذي قد يُنظر إليه على أنه أخطأ هو الآخر في حساباته بشأن الموقف من الحرب في أوكرانيا بتحالفه مع “بوتين”.
محدودية الاستفادة
أشارت التقارير إلى أنه رغم وجود بعض المؤشرات على التقارب المصلحي الصيني الروسي، فإن هناك مؤشرات أخرى تدفع بمحدودية الاستفادة المتبادلة من هذا التقارب، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي:
1– صعوبة تعويض الصين مبيعات الطاقة الروسية المفقودة: يهيمن النفط والغاز على العلاقات التجارية بين روسيا والصين؛ حيث تعد روسيا ثالث أكبر مُورِّد للغاز إلى الصين. لكن صفقات الطاقة الأخيرة بين البلدين لن تكون حلاً سريعاً للوضع الاقتصادي الروسي المتردي؛ فقد استوردت الصين 10 مليارات متر مكعب فقط من الغاز الطبيعي من روسيا في عام 2021 عبر خط الأنابيب الوحيد الذي يربط البلدين “قوة سيبريا”، وهو أقل بكثير من 175 مليار متر مكعب استوردتها أوروبا. وحتى إذا كانت الصين لديها شهية لصادرات الوقود الأحفوري التي ألغتها أوروبا، فإن الحقول ذات الصلة ليست مرتبطة بالصين عن طريق خط أنابيب.
2– رهان محدود على الصين لتعويض وقف التكنولوجيا الغربية: فيما تجعل العقوبات الغربية من الصعب على روسيا شراء التكنولوجيا الغربية، فإن من المشكوك فيه أن تعمل الصين لتعويض هذا النقص. فعلى سبيل المثال، تعد روسيا في حاجة ماسة إلى المعدات للحفاظ على عملها في قطاع الطيران. وقد باعت الولايات المتحدة وحدها لروسيا ما قيمته أكثر من 880 مليون دولار من الطائرات والمحركات وقطع الغيار في عام 2021، لكن تبددت آمال موسكو في أن تتدخل الصين، في 10 مارس الجاري، عندما أخبر مسؤول طيران روسي وسائل الإعلام المحلية أن الشركات الصينية ترفض الآن بيع أجزاء الطائرات إلى البلاد.
3– احتمالية ضغط الصين على روسيا بشأن مبيعات الأسلحة: تظل مبيعات الأسلحة هي المنتجات الروسية الوحيدة التي تتمتع بجاذبية قوية في الصين. وقد نجحت بكين في استغلال أزمة روسيا السابقة مع الغرب في عام 2014 عند احتلالها شبه جزيرة القرم لدفع موسكو نحو الموافقة على بيع معدات عالية الجودة للصين. وهذا الموقف قد يتكرر في الوقت الراهن في حال مطالبة الصين بنقل أسرع للمعدات الروسية المتقدمة، بل قد تستغل الصين محنة روسيا الاقتصادية للضغط على الكرملين لحجب مثل هذه الأسلحة عن الهند وفيتنام المتنافستين مع الصين.
4– توقعات بدعم روسي محدود لتحديث ترسانة بكين النووية: تخشى الولايات المتحدة وحلفاؤها من أن تساعد روسيا الصين في تحديث وتوسيع ترسانتها النووية؛ فالأسلحة النووية هي أحد المجالات التي تعتقد الصين أن روسيا لا تزال تمتلك فيها قدرات فائقة، وخبرة تشغيلية وتدريبية أكثر ثراءً، ولكن مع ذلك فإن أنظمتهما التسليحية غير متوافقة إلى حد بعيد، كما تشكل الاختلافات اللغوية عقبة أيضاً في سبيل تعزيز التعاون التقني بين البلدين.
وختاماً، شددت التقارير على أن موقف الصين ومحاولتها استغلال تبعات الحرب في أوكرانيا لتغيير موازين النظام الدولي؛ يدفع القوى الغربية نحو زيادة تماسكها البيني، وتعزيز دفاعها عن القيم الديمقراطية. ونوهت التقارير بأنه يمكن للولايات المتحدة العمل مع حلفائها في آسيا من أجل تحسين الدفاعات والتخطيط لحالات الطوارئ التي يشمل الكثير منها مواجهة الخطر الذي قد تمثله الصين.
المصادر:
The friendship between China and Russia has boundaries, The Economist, March 19, 2022, Accessible at: https://www.economist.com/china/chinas–friendship–with–russia–has–boundaries–despite–what–their–leaders–say/21808197
The war in Ukraine will determine how China sees the world, The Economist, March 19, 2022, Accessible at: https://www.economist.com/leaders/2022/03/19/the–war–in–ukraine–will–determine–how–china–sees–the–world
Alessio Patalano, China can use Russia to build a new international order, NIKKEI ASIA, March 19, 2022, Accessible a