هناك شبه إجماع لدى الباحثين في شأن الإستراتيجية الأمريكية في منطقةالشرق الأوسط أنها تنكمش يوما بعد يوما بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي باراكاوباما في عام 2009 عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان،وإطلاق ” إستراتيجية إعادة التوازن” في أسيا والمحيط الهادئ. وتتضح الصورةأكثر منذ اندلاع “الربيع العربي” في عام 2011، وقيادة أمريكا لسلسلة سلوكيةجديدة خلف الستار، وخاصة الإجراءات الجديدة التي اتخذتها تجاه الأزمةالسورية والقضية النووية الإيرانية عام 2013،مما يثبت دخول الشرق الأوسطعصر ما بعد الولايات المتحدة. يتجه مسار الفكرة الأساسية للسياسة الخارجية لإدارة أوباما نحو استعادةالقوة الاقتصادية لأميركا والهيمنة العالمية،والتركيز على نقل إستراتيجيتهاالخارجية من الشرق الأوسط إلى آسيا،وتحقيق إستراتيجية ” الخروج من الشرقالأوسط ، والدخول إلى أسيا والمحيط الهادئ”.عسكريا ، اقترح اوباما إنهاءالحربين وعدم المشاركة في أي حرب في العالم الإسلامي. اقتصاديا، تخفيضالمساعدات الأمريكية، تراجع في مبادرة الاستثمار والشراكة مع الشرق الأوسطلدعم الديمقراطية.والدبلوماسية لم تكن أكثر حظا أيضا.وقد بلغ عدد الزياراتالخارجية لاوباما 29 مرة منذ بداية عام 2009 حتى نهاية يوليو عام 2013،منها 3 مرات إلى منطقة الشرق الأوسط. في حين زار جورج بوش الرئيس الأمريكيالسابق في خلال الولايتين الرئاسيتين 11 مرة و12 دولة في منطقة الشرقالأوسط. وفي نفس الوقت تقلص إلى حد كبير رغبة وقدرة أمريكا في استعادةدورها القيادي والتدخل العسكري في الشرق الأوسط. ويمكن وصف الحل سياسيللأزمة السورية وتدمير الأسلحة الكيمائية في سوريا والوصول إلى الاتفاقالنووي الإيراني مشهدان مهمان يبرزان تلاشي الدور الأمريكي في الشرقالأوسط. بدأ ظهور أمريكا علي مسرح الأحداث في الشرق الأوسط قبل الحرب العالميةالثانية و على أربع مراحل:ـ بدأ التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط منذ الحربالعالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية،لكن كانت بريطانيا وفرنساتقودان شؤون الشرق الأوسط ومكانة أمريكا أقل من الاتحاد السوفيتي.وخلالالحرب الباردة، تنافست أمريكا والاتحاد السوفيتي على الهيمنة على الشرقالأوسط ،بينما تراجعت الهيمنة البريطانية والفرنسية تدريجيا.وبعد الحربالباردة والى الآن، لا تزال أمريكا تهيمن وحدها على منطقة الشرق الأوسط. ولكن إعلان إدارة اوباما عن التراجع من الشرق الأوسط منذ عام 2009، والفوضىالتي خلفها ” الربيع العربي” في المنطقة عجل من انسحاب أمريكا من الشرقالأوسط. كما أن هناك دلائل تلوح في الأفق تشير إلى أن الشرق الأوسط دخل عصرما بعد أمريكا. وتبرز الميزة الرئيسية في بداية زعزعة الهيمنة الأمريكيةالتي تنعكس أساسا في انحطاط قيادة وسيطرة وتوجيه أمريكا في شؤون الشرقالأوسط،والضعف في دعم التنمية الإقليمية وتحقيق الأمن والاستقرار فيالمنطقة مما ترتب عنه تراجع في النفوذ والسيطرة الأمريكية في المنطقة. إن انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط اليوم سوف يجلب جولة جديدة من التعديلاتفي خريطة الجيوسياسية للمنطقة، ويتسبب في فراغ في السلطة،وكسر القوةالإقليمية القائمة والتوازن الجيوسياسي.وأشار يوشكا فيشر وزير الخارجيةالألماني السابق إلى أن نظام الاستعمار البريطاني والفرنسي للشرق الأوسطوصلت إلى نهايتها مع خروج أمريكا من المنطقة.ولكن ينبغي التأكيد على أنملامح نهاية العصر لن تظهر فورا، ومهما كان الانكماش أو التراجعالاستراتيجي فإن نهاية الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط سوف تكون عمليةتدريجية. مما يعني أن فقدان أمريكا هيمنتها على الشرق الأوسط لن يكونمفاجئا. ولكن بالمقارنة مع الماضي، فإن أرادت أمريكا الحفاظ على هيمنتها فيالشرق الأوسط تضطر إلى دفع أكثر مما سبق. ومن وجهة نظر الجيوسياسية، سوف يتنافس ما تبقى من النفوذ الأمريكية فيالشرق الأوسط على حقبة الأمراء لملء الفراغ خلال الفترة القليلةالمقبلة.ويجب على دول المنطقة التي كانت تعتمد على أمريكا في المجالالسياسي والأمني أن تعدد على أنفسها للعثور على شركاء جدد. في حين سوف تكونفرصة تاريخية لأعداء أمريكا للبحث عن مساحة جديدة لهم .على سبيل المثال،تدهور الوضع الأمني في العراق وآخرها عودة الفلوجة إلى أيدي المتطرفين. كماسوف تتغير العلاقات بين القوى الكبرى وأمريكا في الشرق الأوسط وتواجهالعلاقات المنافسة والتعاون تعديلات جديدة. واقترح بعض الساسة اليابانيينأن تساعد اليابان أمريكا لاحتواء الصين في الشرق الأوسط. من وجهة نظر الأمن الإقليمي، قد يواجه العالم شرق أوسط أكثر تقلبا، وهذا هوما يمكن أن نراه من الدخان الذي ينبعث من الشرق الأوسط منذ بداية ما يسمى ” الربيع العربي”. وقد كانت أمريكا الدولة الرائدة في الشرق الأوسط بعدانتهاء الحرب الباردة،على الرغم من أنها جلبت الكثير من الآثار السلبيةللمنطقة، إلا أنه كان لديها مساهمة معينة في تحقيق الأمن والاستقرار هناك. وبعد دخول الشرق الأوسط العصر بعد أمريكا، تزايد انتشار الإرهاب ،ويعبثتنظيم ” القاعدة” فسادا في العراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية وغيرها منالأماكن الأخرى،والمنافسة بين الدول في المنطقة،وسباق تسلح أكثركثافة،والصراعات المقيدة سابقا في المنطقة باتت مفتوحة على نمومتزايد،والصراعات الإقليمية غير الأمريكية تزيد من خطر الحرب،وخروج الشرقالأوسط من عصر العناء الأمريكي. ونرى من نموذج التنمية في الشرق الأوسط عدم وجود أي جهود أمريكية لتوجيههأو تشكيله، والطريق الذي دفعته أمريكا لتغريب دول الشرق الأوسط على المدىالطويل قد يتعرض للتراجع، ويصبح اتجاه التنمية في الدول العربية أكثروضوحا.
صحيفة الشعب