https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

نعوم تشومسكي

إن الدور البارز الذي تقوم به وسائل الإعلام في شئون السياسة المعاصرة، يدفعنا إلى طرح تساؤلات حول ماهية هذا العالم الذي نعيش فيه، وعما إذا كانت الأمور تبدو في الحقيقة كما نراها، أم أننا فقط نرى الصورة التي صنعها لنا الإعلام. وفي هذا الكتاب اتَّخذ (نعوم تشومسكي ) الولايات المتحدة كمثال، يُظهِر من خلاله مدى التحكم والسلطة التي قد تصل إليها وسائل الإعلام؛ فتحول أراء الشعب من النقيض إلى النقيض، وتصنع رأيًا عامًا يتناسب مع هوى السلطة، حتى لو كان مختلفًا مع قناعات الناس.

1- ما هي بداية نشأة الحملات الإعلامية الممنهجة؛ لتوجيه وصناعة الرأي العام؟

حدثت أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث أثناء إدارة الرئيس (وودرو ويلسون ) الذي اُنتُخِبَ رئيسًا للـ (الولايات المتحدة الأمريكية ) عام 1916م، وفق برنامج انتخابي بعنوان “سلام بدون نصر ” ، وقد لاقى هذا البرنامج هوىً لدى المواطنين الأمريكيين؛ لأنهم كانوا مسالمين لأقصى الدرجات، ولم يروا سببًا يدفعهم للانخراط، والتورط في الحرب العالمية الأولى، التي هي حرب أوروبية بالأساس، ولكن كان على إدارة (ويلسون ) التزامات تجاه الحرب؛ لذلك كان عليها فعل شيء ما؛ لدفع المواطنين المترددين إلى الموافقة على قرار الحرب؛ فقامت بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية، أُطلِقَ عليها اسم “لجنة كريل ” ، وقد نجحت تلك اللجنة – خلال ستة أشهر – في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين متحفزين تتملكهم الهستيريا، والتعطش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وقد حققت ذلك عن طريق بث الذعر داخل الناس، وإثارة المشاعر القومية المتطرفة فيهم، ونشر أخبار وقصص تحمل قدرًا كبيرًا من الفبركة والتزييف للمذابح التي ارتكبها الألمان، كالحكايات التي قيلت عن قيامهم بتمزيق أذرع الأطفال البلجيكيين، وغير ذلك من الفظاعات التي تحفل بها كتب التاريخ، والتي كانت في معظمها من اختراع “وزارة الدعاية البريطانية ” التي كانت مهمتها آنذاك هي “توجيه فكر معظم العالم ” ، وخاصةً (الولايات المتحدة الأمريكية ). وهكذا تم تحويل البلد المسالم إلى بلد تحكمه هستيريا الحرب، وكان هذا بمثابة إنجازٍ هائل جعل من أسلوب “لجنة كريل ” منهجًا سارت عليه كافة المجموعات التي كُلّفت بتوجيه وصناعة وقيادة الرأي العام في أمريكا والعالم.

2- وجهة نظر مناصري القيام بحملات دعائية ممنهجة لصناعة الرأي العام

يرى (والتر ليبمان ) عميد الصحفيين الأمريكيين، وأحد أهم محللي السياسة الأمريكية، أن الحملات الدعائية يمكن تطويعها لـ “تصنيع الإجماع ” ؛ أي جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس، عن طريق وسائل الإعلام، وأن هذا أمر ضروري نظرًا لعجز الرأي العام عن إدراك مصالحه الحقيقية؛ لذا فلا بد أن تقوم النخبة بإدارة شئون الدولة، وتقرير الوسائل المناسبة لتحقيق مصالحها، ثم إقناع الشعب بذلك عن طريق وسائل الإعلام. ويرى (ليبمان ) أنه في أي مناخ ديمقراطي سليم، لا بد من تقسيم المواطنين إلى طبقات؛ فهناك طبقة النخبة التي تمثل نسبة ضئيلة من الشعب، والتي تتمتع بدرجة عالية من الذكاء تتيح لها فهم وإدراك الأمور، وهناك الغالبية العظمى من الشعب الذين يصفهم (ليبمان ) بالـ “القطيع الحائر أو الضال ” ، الذي يتحتَّم على الدولة أن تحمي نفسها من أفكاره وتصرفاته.

أما (رينهولد نايبهور ) عميد المفكرين السياسيين الذي اعتمدت عليه السلطات الحاكمة الأمريكية لسنوات طويلة؛ فيرى أن المنطق مهارة ضيقة النطاق، يتمتع بها عدد قليل من الناس؛ فأغلب الناس ينساقون وراء عواطفهم؛ لذا فيجب على من يملكون المنطق – يقصد النخبة – أن يصنعوا أوهامًا ضرورية، وتبسيطات عاطفية؛ لإبقاء الأغبياء السذّج – يقصد الشعب – على ما هم فيه، ولقد أصبح هذا المنطق جزءًا أساسيًا من العلوم السياسية المعاصرة، واتَّفق معه الكثير من المفكرين السياسيين المرموقين، وهكذا نرى أن النظم الديمقراطية مشابهة للنظم الشمولية في سيطرتها على الرأي العام، ولكنها تختلف عنها في الوسائل التي تستخدمها لذلك؛ فالنظم الشمولية تستخدم القمع والعنف، بينما النظم الديمقراطية تستخدم وسائل الإعلام وغسيل العقول، ولكن النتيجة واحدة؛ ففي النهاية، كلاهما يتحكم في الجماهير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر − اثنان =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube