في معدة الحوت، غالباً لن تتوقع شيئاً سوى النهاية. لكن الأقسى من الموت هو الاحتضار الطويل، أو اتساع الفجوات الزمنية قبل الوصول للنهاية. وهذا ليس أفضل ما يقال عن مأساة الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء. لكنه قد يوضح العلاقة بين «سرعة» النهاية المأساوية للركاب وما قد ينتج عنها من «استطالة» اللحظة الحالية في مصر. وهي لحظة مربكة للمنتصرين في معركة التخلص من «الإخوان»، بداية من الرئيس السيسي، المنتصر الكبير الذي جاءته المأساة الروسية بينما يحاول الإفلات من أزمة اقتصادية، أوصلت احتياطي الدولار في مصر إلى السالب، لأول مرة منذ 23 عاماً، وهبطت بالجنية إلى معدلات لم يتوقعها جمهور السيسي بعد وعود «الرخاء» في مشروعات كبرى (كانت وراء استهلاك الاحتياطي، كما يقول خبراء في الاقتصاد). الطائرة سقطت بينما السيسي يحاول إعادة بناء علاقته مع العالم، تحضيراً للموافقة على قرض الـ3 مليارات دولار من البنك الدولي، والذي يأمل منه رفع الاحتياطي للهروب من تخفيض التقييم الائتماني، وهو ما يهدّد بالدخول في المتاهة اليونانية. وبدلاً من «الاقتراب» في رحلة لندن، والتضامن معه عبر اتفاقات لمواجهة الإرهاب، خاصة أنه كما صرّح أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني، فإن حجم الاستثمارات البريطانية في مصر يصل إلى 20 مليار دولار والتبادل التجاري إلى 2.7 مليار دولار.. وبدلاً من ذلك انقلب الوضع وتلقى السيسي هجوماً بسبب أخطاء الأمن في مطار شرم الشيخ، وهو ما أشعل حرباً إعلامية عبثية استعادت فيها صحف القاهرة أجواء «العدوان الثلاثي». ــــ 2 ــــ الطائرة الروسية نقطة فاصلة، في علاقة الغرب بالسيسي. أوروبا قرّرت إعادة النظر في حصار نظام «جنرال القاهرة»، استجابة لما اعتبرته «أمراً واقعاً»، وذلك بحثاً عن دور مصري في وقف طوفان «الهجرة غير الشرعية» إلى أوروبا، وفتحاً لتعاون ينقذ أوروبا من ركود مصانعها (خاصة الحربية). وهنا كان ثلاثي (فرنسا وإيطاليا وألمانيا بدولها المنفردة لا بوصفها جزءاً من كيان الاتحاد الأوروبي) هي ممر السيسي للخروج من الحصار. أما أميركا، فمنذ شباط (فبراير) الماضي فقد بدأت خطة إنقاذ السيسي من «العتمة المالية» بعد انهيار أسعار البترول. وفي المقابل، العودة إلى «وضع مبارك»، حيث الشد والجذب.. أي المساعدات مقابل تخفيف القبضة الأمنية. والانتقال من الحصار إلى التمرير، توازى مع محاولة السيسي إلى إظهار العلاقة مع بوتين وروسيا، في وضع «التحالف»، وهو ما كان يروّج له شعبياً على أنه عكس ما حدث بعد عبد الناصر، من انتقال الحليف الاستراتيجي من موسكو إلى واشنطن. حركة السيسي الخارجية اعتمدت بالكامل على عنوان «الحرب على الإرهاب» والتي وصلت إلى أقصاها بالإلحاح على فكرة مفادها: «سيناء هي الأرض النموذجية لهزيمة داعش». قيلت الفكرة وتكرّرت في حوارات مغلقة وندوات عامة، آخرها كان في واشنطن (أقامه مركز دراسات الشرق الأوسط في أيلول (سبتمبر) الماضي) حيث أعربت مصادر مصرية عن ضيقها من رفض الإدارة الأميركية منح مصر طائرات من دون طيار، لترفع من كفاءة قدراتها القتالية ضد «داعش» وتخفض الضحايا من سكان سيناء. ردت الإدارة الأميركية بأن رفع الكفاءة لا يتعلق بمزيد من الأسلحة المتطورة، ولكن برفع كفاءة المنظومة كلها. وأشارت إلى أنه إذا أردتم أن تكون الحرب على الإرهاب لها صبغة عالمية، فلا بد من تقليل حساسية مبالغ فيها أمام كل طلب لرفع كفاءة المنظومة القتالية…». أي أن مفهوم السيادة (بمعناه القديم) تصادم مع الرغبة في العودة إلى العالم. وهذا تقريباً سر تحوّل الطائرة الروسية إلى «ضربة في مقتل». ــــ 3 ــــ سياسة الصفقات انتهت. لم يعد متاحاً هذه المرة، وكما تدور في أروقة الديبلوماسية المهتمة بكارثة الطائرة، عقد صفقات غير معلنة مع السيسي. كما لن يتكرّر «خطأ» باترسون (سفيرة واشنطن في القاهرة أيام حكم الإخوان) حين أعلنت بكل ما لديها من قوة «تأييدها نظام مرسي…» وسارت في طريقة مساندته إلى ما يقرّبها من خسارة مصالحها في مصر. هذا أكبر من مأزق بالنسبة للسيسي الذي لم يعد أمامه للإفلات من «المتاهة اليونانية» إلا المزيد من «الدعم والثقة»، خاصة بعدما شنت الأجهزة الأمنية غارات جديدة ضد صحف وصحافيين ومراكز حقوقية. الجديد فيها هذه المرة، أنها تطال رجل أعمال ومؤسسات كانت حليفة للسيسي في «30 يونيو»، وهو ما يوصف داخل أجواء تحالف إسقاط حكم الإخوان بأنه «مذبحة قلعة» جديدة. هل سينقذ السيسي نظامه بالثورة عليه (كما قال هيكل وتلامذته من ناصحي الرئيس)؟ أم أنه سيختصر الدولة في الجيش، رداً على انهيارات الجهاز البيروقراطي للدولة وشعوراً بالأمان؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل الهجوم على الصحافة ورجال الأعمال وترويع كتّاب ومحققين تناولوا موضوعات تخص المؤسسة العسكرية؟ هذه بعض أسئلة المستقبل المجهول والغامض في معدة الحوت. |