مجموعة مؤلفين
عرض : مازن النجار
يتناول هذا الكتاب العلاقات العراقية – الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، ويركز على العراق محورا رئيسيا للبحث بدلا من التركيز على سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة. ويستكشف بعمق وتدقيق عواقب السياسة الخارجية الأميركية على العراقيين وغيرهم في الشرق الأوسط. كتاب هادئ في طرحه، لكنه مشتعل بالغضب إزاء الثمن الذي اضطر العراقيون إلى دفعه على مر السنين، من أجل التوافق مع وجهات النظر الأميركية حول الشكل الذي ينبغي أن يبدو عليه الشرق الأوسط. ومن خلال التركيز على هذين الجانبين من العلاقة غير المتكافئة بين الولايات المتحدة والعراق، تمكن المؤلفون من تصوير أثر السياسات الأميركية على العراق وشعبه تصويرا دقيقا.
يقدم الكتاب نقدا لاذعا للسياسة الخارجية والعسكرية الأميركية في الشرق الأوسط منذ حرب الخليج (1990-1991)، ويفضح زيف السرديات الأميركية حول دعم الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، ويعرض لمظاهر عدم الاستقرار الإقليمي الذي خلفته واشنطن وراءها. إلى جانب ذلك، يوثق الكتاب شهادات المنظمات الدولية حول تأثير السياسة الخارجية الأميركية على العراق، فيكشف عن جزء من فسيفساء البؤس والخراب الذي أنزلته السياسات والحروب الأميركية بالعراق، لكنه يفتقد أحيانا السياق الذي يتيح فهم سبب حدوث ذلك. فالتعليقات السياسية في أغلبها تتميز بعدم وجود سياق ناظم، وتتجاهل النمط المتكرر لمظلومية العراقيين، بغض النظر عن الحزب السياسي الذي يسيطر على البيت الأبيض. يتخذ هذا الكتاب منظورًا أوسع، للكشف عن النمط الدائم الذي يربط بين أحداث معينة.
مؤلفو الكتاب
شارك في تأليف الكتاب ثلاثة باحثين خبراء بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. فالمؤلفة الأولى، جاكلين إسماعيل (1942-2023) التي تُوفيت قبل صدوره، وكالغاري -رئيسة تحرير “المجلة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة”.
“ثالث المؤلفين، ليزلي مكدونالد، الذي عمل خبيراً بمجلس بحوث العلوم الاجتماعية والإنسانيات في كندا.
فصول الكتاب
الفصل الأول – السلام الأميركي وتفكك الدول العربية، يعرض عدة مسائل منها: آفات السلام الأميركي، وحرب الخليج (1991) باعتبارها بداية لعصر جديد، وتغير السياسة الأميركية من “الاحتواء المزدوج” إلى “تغيير النظام”، واحتلال العراق والنظام الجديد، والسلام الأميركي في الشرق الأوسط منذ عام 1990.
الفصل الثاني – العراق يحترق، يغطي موضوعات كثيرة من قبيل: إنهاء “الدول الراعية للإرهاب”، و”العراق الجديد” من منظور أيديولوجية حركة المحافظين الجدد، وأشكال إنهاء الدولة في العراق من النظرية إلى التطبيق، وفرق الموت كأداة للسياسة الخارجية، ومحورية النفط في السياسة الأميركية، وتدمير الدولة والفوضى في فلسطين من خلال النموذج الإسرائيلي، والتطهير الثقافي من خلال هندسة الفوضى، والفوضى المخطط لها في العراق وسوريا، والعواقب الاجتماعية لإنهاء الدولة في العراق.
الفصل الثالث – كردستان والدولة العراقية، يتناول الفشل في تأمين دولة ديمقراطية لما بعد حزب البعث، والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، والترويج لفصائل إسلامية ذات توجهات طائفية، والمعارضة في المنفى، والفرص الضائعة لبناء عراق فيدرالي، والفشل التاريخي للأكراد في بناء دولتهم.
الفصل الرابع – وجهان للسلام الأميركي، يبدأ باستعراض عوامل صعود السلام الأميركي، ثم يتناول ما يسميها إمبراطورية الأكاذيب والفوضى، وينتهي بالحديث عن انحدار السلام الأميركي.
الفصل الخامس والختامي، ينطلق من رصد مظاهر الطائفية والجمود السياسي في العراق، ثم يتطرق إلى السلام الأميركي من خلال حروب توسيع حلف الناتو، والضباب الذي يلف مستقبل الإمبراطورية الأميركية، ويخلص إلى التحدي الذي تمثله مجموعة “البريكس” و”محور المقاومة” للسياسة الأميركية.
لقد دارت أغلب المناقشات بشأن غزو العراق واحتلاله بقيادة الولايات المتحدة حول فكرة الجرائم والأخطاء، وتوصيف الأحداث المحددة. ورغم عدم وجود نقص في الجرائم والأخطاء، واستخدام التوصيف الأخير كذريعة لتجنب الإدانة بسببها، فإن حروب العراق التي بدأت في عام 1990 يمكن فهمها بشكل أفضل باعتبارها جزءاً من مشروع إمبراطوري “للسلام الأميركي” من أجل تحصين الشرق الأوسط ضد التهديد المحتمل لأي تحدٍّ إقليمي للقوة الأميركية. وقد تضمنت إقامة “السلام الأميركي” العنف والخداع، والأساليب العلنية والسرية، والقوة المباشرة، وغير المباشرة من خلال وكلاء، طوعاً في بعض الأحيان وتلاعباً في أحيان أخرى. والواقع أن تعقيد شبكة الأسباب والنتائج هذه، مع مرور الوقت، يؤدي حتماً إلى خداع الذات، وهو ما يفرض تكاليف باهظة على المشروع الإمبراطوري، ويهدد بقاءه واستمراره.
الصدمة والترويع
في تقديمه للكتاب، يُذكّر البروفيسور ريتشارد فولك، بفشل حكومة الولايات المتحدة في استخدام دبلوماسيتها لإنهاء حرب أوكرانيا، واستمرار مشروعها لتحقيق نصر جيوسياسي على روسيا على حساب الشعبين الأوكراني والروسي. ويذكّر أيضا باستمرار التواطؤ الأميركي النشط مع الإبادة الإسرائيلية لشعب فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية.
هذا الكتاب تذكير قاتم بسابقة حرب أميركا على العراق، إذ تبنت الولايات المتحدة مساراً إجرامياً في غزوها واحتلالها الطويل للعراق، بدءًا من حرب “الصدمة والترويع” العدوانية غير المبررة، مرورا بمشروع “بناء الدولة” الذي أنتج بدوره تنظيم “داعش” في المنطقة. إنه فشل جيوسياسي هائل على مدى أكثر من عقد من الاحتلال جرى تصويره ببراعة وبكثير من التبصر والمعرفة والحكمة. ورغم نجاح الكتاب في تقديم القصة المعقدة لدور أميركا في العراق، يبقى السؤال المعرفي البسيط يطرح نفسه مرة بعد أخرى: لماذا ترفض أميركا أن تتعلم من الإخفاقات المأساوية الماضية؟
رؤية إمبريالية
يلاحَظ أن الإشارات إلى حرب أميركا على العراق (2003) في الغرب تأتي غالبا من جهات سياسية يسارية أو مناهضة للحرب بشكل عام. وتحرص تلك الجهات على التذكير بأن غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 كان متوقعا بناء على سابقة الغزو الأميركي البريطاني للعراق وما أعقبه من احتلال طويل مثير للجدل. أما التيار الرئيسي في الغرب فيحاول محو هذه التجربة الأميركية من الذاكرة الجماعية. ويقدم الذين يستشهدون بالعراق كسابقة ذات صلة بأوكرانيا؛ نقدا مبررًا للطبيعة الإمبريالية للسياسة الخارجية الأميركية التي لا تعبأ بالقانون الدولي وبمواثيق الأمم المتحدة، وتُسخِّرها فقط لحشد المعارضة الدولية لروسيا، في حين تُعبّئ الدعم العالمي للعقوبات وشحنات الأسلحة والتبرعات الضخمة والمساعدات الاقتصادية لكييف.
إن تبني مثل هذه الرؤية الإمبريالية المجرّدة وغير التاريخية والمتمركزة حول الذات أوروبيًّا، مهما كانت مفيدة، يأتي بثمن باهظ، فالعراق يفقد حقيقته الأساسية كدولة يسكنها أناس تحملوا محن الطغيان والحرب والتدخل الأجنبي والاحتلال المُطوّل. إن رفض الولايات المتحدة ممارسة ما تُبشر به عندما تتعامل مع الجنوب العالمي، وخاصة في بلدان الشرق الأوسط، والذي تأكد بوضوح من خلال تواطئها في حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، يظل سابقة مهمة تتعلق بالنقاش السياسي حول أوكرانيا، لكنه بعيد كل البعد عن سرد القصة الكاملة لمحنة العراق وتاريخه الحديث المحزن على مدى ثمانية عقود. من هذه الزاوية، يقدم الكتاب نقدًا للدور الأميركي المدمر في العراق خلال 20 عامًا من العدوان سيئ التخطيط، لكنه يفعل أكثر من ذلك بكثير، فهو يقوم بتشريح شامل ودقيق للمظلومية التي تعرض لها الشعب العراقي منذ غزو بلاده عام 2003.
إن وضع الحرب في سياقها التاريخي، ورفض محو تأثيرها الرهيب على واقع السكان ووعيهم السياسي وعلى الحياة المدنية في العراق، هو ما يجعل من هذا العمل لائحة اتهام قوية للسياسة الخارجية الأميركية. فالفهم الذي يقدمه هذا التحليل أعمق من التقييمات السطحية التي تستند إلى نموذج بسيط من “الغزو والاحتلال”. ذلك أن هذا العمل يدمج بشكل قيّم بين الاهتمامات السياسية والاقتصادية، والاهتمام الجاد بالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والدينية وحتى الفنية والفلسفية لتراث العراق الثقافي الاستثنائي. وهذا التراث هو الذي تحطم بسبب الغزو الأميركي في سياق تفتيت الوحدة السياسية والثقافية للشعب العراقي.
تفكك الدول العربية وعواقبه الإنسانية
في سياق معالجة السلام الأميركي وتفكك الدول العربية وعواقبه الإنسانية، يقدّم الكتاب تقييماً لثلاثة عقود من الهيمنة الأميركية على الدول العربية في منطقة الخليج والشرق الأوسط. فمنذ تدخلها العسكري المباشر في حرب الكويت عام 1990، انخرطت الولايات المتحدة بشكل متزايد لهندسة المنطقة من خلال الدفع باتجاه تبني النموذج الاقتصادي والمالي النيوليبرالي، مع دعم الأنظمة الاستبدادية على صعيد الواقع، ورفع شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على صعيد الدعائية.
ورغم أن التبرير الدبلوماسي العلني للتدخل الأميركي في العراق عامي 1990 و1991 اعتمد بالأساس على مقولة الحرب الدفاعية لحماية سلامة الأراضي الكويتية وترسيخ معايير السيادة الوطنية وحرمة الحدود، فإن السنوات التي تلت ذلك التدخل شهدت توسيعا لنشاط القوات الأميركية في العراق وسوريا واليمن وليبيا، مع انتشار مجموعة من القواعد العسكرية في جميع أنحاء دول الخليج (السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان).
ومع انخراطها هي وحلفاؤها في سياسات المنطقة طوال الحرب الباردة، عززت الولايات المتحدة حضورها بين عامي 1990 و2019 لتصبح قائدة للسياسة الإقليمية من خلال شبكة العلاقات بينها وبين الدول الإقليمية. ولكن التأثيرات الإنسانية التي أحدثتها هذه السياسة على شعوب المنطقة خلال الفترة المذكورة كانت سلبية إلى حد بعيد، فقد عانت هذه الشعوب من انحدار ملحوظ على أغلب المؤشرات، مثل الرفاه الاقتصادي والأمن والسلامة والصحة. أما أجهزة الدولة التي أنشئت بعد انسحاب الإمبرياليات الأوروبية فتعيش حالة من الخراب، سواء في العراق أو ليبيا أو سوريا أو اليمن. ومع فشل هذه الدول في توفير الحماية لمواطنيها، تواجه شعوب المنطقة مستقبلاً محفوفاً بالمخاطر، خاصة مع تنامي أدوار وتأثيرات عدد من الفاعلين من غير الدول.
البداية الحقيقية
يستعين المؤلفون بخبراتهم المتراكمة ومعرفتهم الواسعة بشؤون العراق لتقديم رؤية نقدية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وقد تمكن هذا الكتاب العميق من إلقاء الضوء على الكوارث الي حلت بالعراق بسبب السلوك المربك والاستخدام المختل للقوة الأميركية الصلبة والناعمة على مدى عقود. فالكتاب يضع التكتيكات والاستراتيجيات الجيوسياسية الأميركية في سياقها الصحيح لتفسير مجموعة من القضايا المعاصرة المثيرة للقلق في مختلف أنحاء العالم.
وقد نجح المؤلفون في توضيح العلاقة بين طموحات الهيمنة العالمية والإقليمية الأميركية وبين سلسلة الأحداث المأساوية التي أدت إلى تفكيك العراق وتدميره، وامتدت عبر حدوده لتسبب أشكالا مماثلة من التدمير في أماكن أخرى من المنطقة. وتظهر الرواية التي يقدمها الكتاب عن هذا الترابط، أن الأجندة الأميركية في العراق تتجاوز كونها مجرد عدوان يتبعه احتلال من أجل “تحريره من الاستبداد” و”بناء دولة ديمقراطية” وإطلاق “دينامية تنموية”.
يبيّن المؤلفون أن دراسة المأساة المعاصرة في العراق لا ينبغي أن تبدأ كما في أغلب التقييمات التي تركز على حربي 1991 و2003 وما ترتب عليهما من فوضى وعقوبات قاسية، بل ينبغي أن ننظر إلى دوامة الأحداث التي بدأت عام 1963. إن نقطة البداية الحقيقية، التي يتم تجاهلها أو إخفاؤها غالبا، هي الانقلاب الذي سهلته وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 1963، والذي أسقط نظام عبد الكريم قاسم وجاء بحزب البعث الذي آلت رئاسته في النهاية إلى صدام حسين.
وكالة الاستخبارات المركزية
إن التاريخ الشخصي لأحد مؤلفي الكتاب، طارق إسماعيل، في العيش بالمنفى منذ ذلك الانقلاب، والندوب التي خلفتها تلك الأحداث التي استغرقت ستة عقود، وبلغت ذروتها مع مذبحة المثقفين واعتقال ما لا يقل عن 5000 ناشط سياسي عراقي، يضفي أهمية خاصة على هذه الرواية، ويعيد إلى الواجهة تلك الأحداث التي لا يكاد يتذكرها أهل الاختصاص، ناهيك عن الرأي العام.
يُذكّرنا انقلاب البعث في العراق عام 1963 بانقلاب عام 1953 في إيران، الذي أطاح بحكومة محمد مُصدّق بمساعدة وتشجيع وتدبير سري من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. فقد سبق انقلابُ إيران انقلابَ العراق بنحو 10 سنوات، وأعيد الشاه إلى عرش الطاووس، وأعيدت معه المِلكية الأجنبية لصناعة النفط الإيرانية، حيث استفادت شركات الطاقة الأميركية الكبرى من ذلك الانقلاب. وقد تم إخفاء الطابع الحقيقي لتلك الأحداث في كلتا الدولتين المنتجتين للنفط بورقة توتٍ شفافة من المبررات التي راجت في فترة الحرب الباردة.
خلال تلك الفترة، كانت الولايات المتحدة تزعم أنها تسعى لإنقاذ دول المنطقة من السيطرة الشيوعية وإضعاف النفوذ السوفياتي الماركسي الاشتراكي، الذي كان بدوره يهدف إلى تقويض المصالح الاستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط وإقامة دول على النمط الستاليني. لقد قللت الدعاية الرسمية التي كانت تبثها وسائل الإعلام الغربية الخاضعة أيديولوجياً؛ من أهمية الدافع الاستراتيجي وراء تلك السياسات، والذي كان يتلخص في إبقاء احتياطيات الطاقة بالمنطقة تحت السيطرة الغربية (الآمنة)، مع تكليف صناعة النفط الأميركية بالمسؤولية عنها. في سياق تلك السياسات، جرى تجاهل حقوق الدول السيادية في تقرير مصيرها، وعاشت شعوب المنطقة أشكالا مختلفة من المعاناة، ووقع تصوير تلك المعاناة باعتبارها نتيجة ثورات القوى القومية ولا تعكس مناورات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وبعد سنوات من تلك الأحداث، تأكد الدور الفعّال لوكالة الاستخبارات المركزية على نطاق واسع.
إلى جانب ذلك، يلفت الكتاب الانتباه إلى الاختلافات الجوهرية بين التدخلات الأميركية الرامية إلى تغيير الأنظمة في الفترة من عام 1959 إلى عام 1990، وبين التدخلات التي جرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. فقد كانت التدخلات السابقة تهدف إلى تعطيل سياسات تقرير المصير خفية ويتم تنفيذها سرا، ومن ثَمّ عُهد بها إلى وكالة الاستخبارات المركزية والنخب المحلية المتعاونة في البلدان المستهدفة بتغيير الأنظمة.
كان الاستثناء الصريح الوحيد أثناء الحرب الباردة قد حدث في حربين وقعتا في دولتين منقسمتين، هما كوريا وفيتنام. فقد جرى اختراق خطوط الصدع الدولية من خلال سلوك “تصحيحي” انتهجته القوى القومية المتنافسة والساعية إلى إعادة توحيد الدولتين المنقسمتين. أما في أماكن أخرى، فقد حاولت الولايات المتحدة تعطيل ما عارضته، بالتصرف من خارج المسرح، والاعتماد على عناصر محلية متعاونة ومطيعة، لتشكيل الدول وفق الرؤية الأميركية.
تبرير التدخل الأميركي
بعد الحرب الباردة، باتت ديناميات التدخل في الشرق الأوسط عسكرية صريحة، مرتبطة بمبيعات الأسلحة والعولمة المفترسة. وقد سعت الولايات المتحدة إلى إضفاء الشرعية على تلك التدخلات الصريحة في الأمم المتحدة ومحاولة تبريرها بالقانون الإنساني الدولي، أو حتمية مكافحة التمرد ومواجهة تهديدات إرهابية مزعومة. ومن بين التبريرات التي طرحت في عام 2003 لانتهاك حدود العراق وسيادته؛ مزاعم امتلاكه أسلحة دمار شامل غير نووية وبرنامجا سريا لتطوير الأسلحة النووية. أما غزو أفغانستان بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، فقد وقع تبريره بكون أفغانستان أصبحت ملاذا آمنا للإرهاب الدولي. وفي ليبيا، وقع التدخل تحت ذريعة “إنسانية” ملحة لإنقاذ السكان الذين كانت تحاصرهم قوات القذافي في بنغازي.
وحين كانت الولايات المتحدة تفشل في الحصول على الشرعية الدولية للتدخل، كما في حالة غزو العراق (2003)، وفي حرب كوسوفو (1999)، كانت تتدخل مع حلفائها علناً، دون شعور بالحاجة إلى السرية التي اعتمدتها أثناء الحرب الباردة. وعندما رفض مجلس الأمن الدولي طلب واشنطن تفويضَها لاستخدام القوة في العراق، أعلن جورج بوش الابن أنه إذا قررت الأمم المتحدة حجب الموافقة عن خطط الحرب الأميركية، فستجد المنظمة الدولية نفسها غير ذات أهمية. والمؤسف أن بوش كان محقاً إلى حد ما، لأن حروب أميركا وتدخلاتها كانت تجد طريقها في الساحة الدولية دون عائق حقيقي.
بناء الدولة!
يستعرض الكتاب مسار إعادة بناء الدولة في العراق من قِبَل قوة أجنبية محتلة. وقد أثبت المؤلفون من خلال عرضهم لتفاصيل ذلك المسار، أن السياسات الأميركية المتبعة كان لها أثر عكسي لما زعموا أنهم يهدفون إليه، وهو “بناء الدولة”. فما حدث في الواقع هو أن الاحتلال الأميركي دمر العراق وقضى على آفاق بناء دولة موحدة ومستقرة، قادرة على حماية الأمن وحفظ الحقوق وتحقيق التنمية.
لقد أدت السياسات والممارسات المنهجية إلى تدمير ركائز الاستقرار الحكومي التي كانت قائمة في العراق قبل عام 2003. وقام الاحتلال “بتطهير” القوات المسلحة وبيروقراطية الدولة من كوادرها “السُّنية” عالية الاحتراف أثناء فترة حكم البعث السابقة، وغضّ الطرف عن نهب المتاحف والآثار، مما أسهم في تقويض أسس الهوية الثقافية والوعي الوطني. لقد أفسح هذا النهج المجال أمام تفشي مجموعة واسعة من المظالم والهويات الفرعية والتنافس المرير بين الفصائل الدينية والأقليات العرقية. وقد أوضح المؤلفون أن “بناء الدولة” في العراق كان بمثابة “نهاية الدولة”، وأن دور الاحتلال كان بارزا في إذكاء الصراع الطائفي، وانتشار التطرف، وارتفاع معدلات الفقر والجريمة، وتفشي الفساد والفوضى.
لهذه الأسباب يرى مؤلفو الكتاب أن مسار إعادة “بناء الدولة” في العراق، ينبغي أن ننظر إليه باعتباره عملية “إنهاء الدولة” أو “تفكيك الدولة”. والحجة التي يطرحونها على ذلك هي أن هذه النتيجة ليست فشلا لسياسة الاحتلال، بل كانت نجاحاً مُدبّراً متعمداً. ويعكس هذا التدبير رؤية “الدولة العميقة” في أميركا للشرق الأوسط، كما يلتقي مع المعتقدات الإسرائيلية التي ترى أن حجر الزاوية للأمن الإقليمي، إسرائيليا وأميركيا، لا يكمن في مراكمة الأسلحة، بل في إبقاء دول الإقليم ضعيفة ومنقسمة ومنشغلة بتناقضاتها وأزماتها وصراعاتها الداخلية.
نفاق جيوسياسي
في فصل عن تطلعات الأقلية الكردية، يضيف الكتاب مزيدا من التفاصيل لشرح الأساليب التي شوّه بها الاحتلال دولة العراق، فقد أظهر أن الولايات المتحدة وإسرائيل عملتا على تعزيز التطلعات الكردية للاستقلال بطرق أضعفت شعورهم بالانتماء إلى العراق، وهددت الهوية الوطنية الموحدة للشعب العراقي. وهذا الشعور يشكل أهمية حيوية لأي مشروع يهدف إلى بناء دولة ناجحة.
يتناول الكتاب النفاق الجيوسياسي الذي يكتنف الدور الأميركي في العراق من منظور حزبي يعود تاريخيا إلى دور الرئيس جون كينيدي في الترويج لانقلاب البعث ضد نظام عبد الكريم قاسم عام 1963، ويمتد إلى جهود بوش الأب وبوش الابن لشن الحرب ضد دولة العراق، الدولة العميلة لهما سابقا. إننا بحاجة إلى أن نتذكر أن العراق بقيادة صدام حسين كان قد أُقنِع عام 1980 بمهاجمة إيران في حرب ضروس استمرت ثماني سنوات، وطالت جزئياً بسبب مبيعات الأسلحة الأميركية لكلا الجانبين، والدعم السياسي الأميركي لنظام صدام والحيلولة دون هزيمته.
بالإضافة إلى ذلك، وبعد عقد من الزمن، تلقى صدام حسين إشارات غامضة من السفيرة الأميركية في بغداد، إيبريل غلاسبي، بشأن الموقف الأميركي من شن هجوم على الكويت، فقط ليصبح العراق خاضعاً لإدانات دولية من قبل الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، وجيران صدام من العرب، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، كمدخل لشرعنة هجوم “عاصفة الصحراء” عام 1991. وبعد 12 عاماً من عقوبات شاملة دمرت حياة السكان وهددت معيشتهم، غزت الولايات المتحدة العراق تحت شعار “الصدمة والترويع”، وانتصبت احتلالا مباشرا لعدة سنوات.
لقد قدّم مؤلفو “السلام الأميركي: حرب بلا نهاية على العراق” سردية مركبة ومتقنة كما لم يفعل معظم المعلقين والخبراء في الشأن العراقي، وقدموا أدلة مفزعة على أن رفاهية الشعب العراقي كان يُضحّى بها باستمرار كأثر جانبي مكتوم لهذا السعي الأميركي للهيمنة السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط ما بعد الاستعمار. إن قصة العراق نموذج للمغامرات الإمبريالية الأميركية في القرن 21 في مختلف أنحاء العالم. ومن المؤكد أن المنطقة كانت -باستمرار- عُرضة لمخططات إمبريالية على مدى سنوات عدة، أبرزها:
– الجغرافيا السياسية للنفط باعتبارها الأولوية الاستراتيجية العليا.
– الوضع المهيمن لإسرائيل إقليمياً باعتباره أولوية أميركية محلية غير مشروطة.
– التهديدات التي تشكلها الراديكالية الإسلامية وتوسع النفوذ الإسلامي بالمنطقة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وقد شكلت هذه العوامل الاهتمام الأمني الأميركي، على الأقل، حتى حرب أوكرانيا