المؤلِّف: جيل كيبل يُمثِّل كتاب “الخروج من الفوضى: الأزمات في منطقة حوض المتوسط والشرق الأوسط”، للباحث والأكاديمي الفرنسي، جيل كيبل، محصِّلة عمل ميداني امتد لنحو خمسة عقود، قام خلالها المؤلِّف بالتنقُّل والبحث بين الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط في مسعى لالتقاط وتحليل وتفسير أهم الأحداث السياسية الكبرى التي طبعت تاريخ هذه المنطقة، وأثَّرت على مستقبل شعوبها. وتتحدَّد الفرضية الأساس التي دفع بها صاحب الكتاب وسعى إلى اختبار صدقيتها عبر الفصول الثلاثة للكتاب في أن منطقة حوض المتوسط والشرق الأوسط طوال العقود الخمس الماضية لم تستقر على حال قط، وأنها شهدت حالات متكررة من التصعيد السياسي والعسكري إلى درجة أضحت الحرب في أبعادها السياسية والعسكرية والدينية وحتى الثقافية هي العامل المهيمن في تاريخ المنطقة. أما لحظات السلم، فلم تكن سوى حيز زمني ضيق لالتقاط الأنفاس والعودة من جديد إلى حالة الحرب المألوفة. ولذا، نجد المؤلِّف يقف كثيرًا عند المحطات الحربية الكثيرة التي شهدتها الأراضي العربية خلال العقود الخمس الماضية والمتمثلة في حرب رمضان عام 1973، وحرب سلاح النفط 1974، والحرب العراقية-الإيرانية التي خلَّفت نحو مليون قتيل بين عامي (1980-1988)، وغزو الكويت في أغسطس/آب 1990، واحتلال العراق في العام 2003، وتنظيم القاعدة واستهداف برجي التجارة العالمية في العام 2001، واندلاع شرارة الربيع العربي في العام 2011، وإعلان تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” عام 2014، وانهياره السريع في العام 2017. فكل هذه الأحداث السياسية والعسكرية الكبرى من منظور جيل كيبل جعلت منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط منطقة ساخنة باستمرار. وهذا الأمر قد يبدو مستوعبًا أكثر إذا ما وقفنا على مجموع العناصر الخلافية الثابتة والتناقض القوي والصارخ في الرؤى بين الفاعلين السياسيين العسكريين في الداخل العربي، إلى جانب وجود مصالح أجنبية في هذه المنطقة تقتضي من هذه القوى الأجنبية أن تكون حاضرة وبقوة(1). انطلاقًا من المرتكز النظري الذي أَسَّس له علماء سابقون(2) وتبنَّاه صاحب الكتاب، يمكن القول بأن الوضع الذي تعرفه هذه المنطقة اليوم يمكن اختزاله -حسب التوصيف الذي قدَّمه جيل كيبل نفسه- ) الفوضى) الناجمة عن تداعيات جملة من الأحداث والمواقف التي اختزلها فيما يلي: هشاشة الدولة العربية في مقابل تنامي حركات الإسلام السياسي. الانقلاب على الإرادة الديمقراطية التي اختارتها شعوب المنطقة خلال انتخابات ما بعد الربيع العربي. الحضور الدائم والمتكرر لتمظهرات الجهاد السلامي القائم على وجود أفراد يتبنون فكرة التغيير بالقوة ويعمدون إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة كأداة لتحقيق ذات الهدف. التدخل الأمني المتكرر ودوره في انهيار تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. تنامي معدلات موجات المهاجرين غير النظاميين جرَّاء الحرب والمواجهات العسكرية بين الأنظمة الاستبدادية وبين المطالب الديمقراطية للشعوب. اعتماد قادة دول الغرب، خاصة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سياسات مزدوجة تجاه الأنظمة والشعوب مما زاد من معدل اللجوء إلى الدول الغربية التي أضحت تعرف هي الأخرى حالات من الفوضى. ومن الواضح أن هذه العناصر مجتمعة دفعت بقادة العالم وجميع الباحثين إلى طرح السؤال الإشكالي: لماذا تُمثِّل منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط مصدرًا للقلاقل بالنسبة للأنظمة السياسية الديمقراطية؟ وما العمل المطلوب لإخراج هذه الدول من حالة الفوضى وتجنيب باقي دول العالم المجاور خاصة أوروبا تبعات هذه الفوضى؟ من هذا المنظور جاء الكتاب موضوع المراجعة ليُقدِّم منظورًا تفسيريًّا لهذه الإشكالية؛ اتخذ طابع قراءة جينيالوجية تاريخية في حالة الفوضى التي طبعت هذه المنطقة على مدى حوالي خمسة عقود كاملة (1973-2018).. مع العلم بأن القارئ الأول المفترض للكتاب قد يكون هو رجل السياسة الفرنسي أو الغربي عمومًا أو لنقل المسؤول عن صناعة القرار في الدول الغربية، أو الدول التي لها مصالح في المنطقة العربية. وقد جاء الكتاب متضمنًا للكثير من التفاصيل المرتبطة بجملة الأحداث التاريخية والمواقف السياسية التي تحضر في سياقها التسلسلي، مع التركيز الدائم على العامل الثابت في كل هذه الأحداث والمتمثل في عامل الإسلام السياسي، أو سؤال أَسْلَمَة السياسة في التاريخ السياسي العربي الحديث، وخاصة العقود الثلاثة الأخيرة المرتبطة بظهور التنظيمات الجهادية والتكفيرية التي تدعو وتعمل على تحقيق فعل التغيير الديني والسياسي عبر الوسائل العنفية. جدلية القرآن وبرميل النفط )) عبر الفصول الثلاثة للكتاب لا يجد المؤلِّف أدنى حرج يُذْكَر في التأكيد على أنه خلال الفترة التاريخية التي امتدت لنحو خمسة عقود تقريبًا، شكَّل مفهوم “الإسلام السياسي” مقولة ثابتة في فهم وتفسير جميع الأحداث السياسية العربية، وأن هذا المفهوم كان الإطار العام الناظم لجميع أسئلة الفعل السياسي العربي سواء تعلَّق الأمر بأَسْلَمَة المجتمع أو أَسْلَمَة الدولة في مرحلة لاحقة. وهي ذات الفكرة التي عبَّر عنها صاحب الكتاب من خلال حديثه عن جدلية القرآن والنفط باعتبارهما مقولتين ثابتتين في تأطير مجموع الأحداث التي شهدتها دول حوض المتوسط والشرق الأوسط طول هذه العقود الخمسة. وتُمثِّل هذه الفكرة من منظور صاحب الكتاب ردَّة فعل موضوعية ضد هزيمة 1967، ونهاية الدولة الوطنية العربية التي ارتبطت بالنظام الناصري القومي ومشروعه العروبي. وبصرف النظر عن النصر الجزئي المسجل في حرب رمضان 1973، فإن تأثيرها كان واضحًا على الخريطة السياسية العربية وعلى التركيبة الذهنية لشعوب المنطقة حيزًا طويلًا من الزمن. وهذا ما جعل جيل كيبل يؤكد أن حرب رمضان 1973 شكَّلت في وقتها إعادة إحياء لفكرة أَسْلَمَة المجتمع التي بدأت ملامحها الأولى في عشرينات القرن الماضي مع الزعيم الروحي لجماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا. والحال أن التأكيد على تسمية حرب رمضان وحمولتها الدينية سواء من قبل النظام المصري نفسه -ممثلًا في شخص الرئيس أنور السادات- أو من قِبَل النظام الرسمي العربي شكَّل تأكيدًا إضافيًّا على دور أَسْلَمَة العمل العسكري العربي ضد إسرائيل واعتبارها مكونًا حاسمًا في المقاومة. وبذلك، أخذ هذا المفهوم حضورًا كاسحًا في السياق السياسي العربي طوال عقد السبعينات وحتى منتصف الثمانينات. إن عودة فكرة أَسْلَمَة المجتمع التي يعتبرها المؤلِّف نقطة بداية وإعادة تشكيل لتيار سياسي ديني يقوم على أَسْلَمَة الفعل السياسي العربي، ونشر هذا التيار في أغلب الدول العربية، شكَّلت محصِّلة طبيعة للحظة صراع سياسي امتدَّ طوال الفترة الزمنية الفاصلة بين هزيمة 1967 وانتصار حرب رمضان 1973، والذي انتهى بانحسار الأطروحات الناصرية وتنويعاتها البورقيبية في تونس والتراجع الجزئي للمدِّ البعثي في سوريا والعراق، وحتى تراجع شعبية منظمة التحرير الفلسطينية أمام التطلعات الإسلامية لجيل جديد من الفلسطينيين. وبذلك، فإن مآلات الصراع انتهت لصالح فكرة أَسْلَمَة المجتمع، وحينها اضطلع الأزهر بدور جديد ومغاير تصاعد معه دور جماعة الإخوان المسلمين التي عانت من التحجيم وتلقي الضربات في العهد الناصري. لكن بالرغم من ذلك، فإن تبادل الخدمات بين الرئيس أنور السادات وجماعة الإخوان المسلمين لم يستمر طويلًا، حيث غلبت النزوعات الليبرالية للدولة المصرية وخوف قياداتها السياسية والعسكرية من أن تتقوَّى شَوْكَة الإخوان وتهيمن على المشهد. وبذلك تم التنكيل بقيادات الإخوان والزَّج بعضهم في السجون ودفع آخرين للهروب إلى منطقة الخليج. وبموازاة مع ما يقع في مصر، سعت المملكة العربية السعودية بدورها إلى تأسيس أيديولوجيتها الدينية الخاصة والمتمثلة في “الحركة الوهابية” التي تمثِّل خلاصة أفكار واجتهادات الشيخ محمد بن عبد الوهاب لحظة تحالفه مع آل سعود للسيطرة على أرض نجد وبعدها باقي بلاد الحرمين. وهي ذات الأيديولوجيا التي اعتمدها أبناء آل سعود لاحقًا للتصدي للقومية الناصرية الساعية حينذاك للقضاء على كل الأنظمة الملكية وحتى العربية التي لا تؤمن بالمشروع القومي الناصري وتوجهاته الاشتراكية. وبالرغم من استغلال الأطروحة الناصرية للأزهر كمؤسسة دينية لتحقيق التعايش بين الإسلام والاشتراكية، والاستفادة من عنفوان الحرب الباردة، فإن هزيمة 1967 ووفاة عبد الناصر شكَّلتا عنصرًا حاسمًا في تحجيم الفكرة الإخوانية وانتشار نظيرتها الوهابية خارج الحدود الجغرافية للمنطقة، خاصة في القارة الأوروبية. والهدف دائمًا كان هو أَسْلَمَة المجتمعات كخطوة أولى لتحقيق أَسْلَمَة الدولة أو النظم السياسية الحاكمة، والأهم هو خلق نموذج وهَّابي قابل للتصدير للخارج يعتمد أساسًا على المال السعودي لتسويق مقولة: “خادم الحرمين الشريفين”. ومن جهة أخرى، نشر الإسلام السني كمقابل موضوعي لخصم قديم جديد هو الإسلام الشيعي. وفي قلب الصراع المتواصل بين الإخوانية المصرية والوهابية السعودية، وخلال العام 1979، برزت مقولة: الإسلام الجهادي، أو الجهاد الأفغاني، ضد الوجود السوفيتي، والذي تميَّز بمشاركة كل الدول الخليجية خاصة المملكة العربية السعودية التي أسهمت بتمويل هذا النمط الجهادي، وعملت على استقطاب “الأفراد المجاهدين” من جميع الدول العربية والإسلامية. لكن كل ذلك تم تحت أعين أجهزة المخابرات الأميركية التي كانت تسعى لتحجيم النفود الروسي في المنطقة الشرقية لحوض المتوسط. ولذلك، قامت باستغلال علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية التي قامت هي الأخرى بتبرير هذه الحرب تحت لافتة “الجهاد الإسلامي ضد الكافر الملحد الروسي”. وكان لها ما أرادت عقب خروج الروس من أفغانستان في العام 1989. في حين أن كُلْفَة الحرب من الجانب الأميركي تجاوزت 4 مليارات دولار. ومن الواضح أن الانتصارات التي حققها المجاهدون الأفغان بدعم من المجاهدين العرب، ولَّدت نوعًا من السعي لتعميم هذه الفكرة خارج التراب الأفغاني ونشرها داخل الحدود الجغرافية للدول العربية والإسلامية نفسها، وذلك من خلال منح تفسيرات جديدة وواسعة لمفهوم الجهاد. ويميل صاحب الكتاب إلى الفكرة الجهادية في الداخل العربي والإسلامي باعتبارها امتدادًا وتطويرًا للجهاد الأفغاني مرَّت عبر تسلسل تاريخي بثلاث مراحل كبرى أو ثلاثة أجيال، هي: أولًا: جيل الانكسار الجهادي (1980-1997) ورغم أن هذا الجيل يُمثِّل الاستثمار الأول للفكرة الجهادية التي سعت المملكة العربية السعودية إلى توجيهها ضد إيران، فإن صعود الحركات الجهادية التي ارتضاها الجهاديون العرب الذين عادوا للتو من الأراضي الأفغانية وتعلموا أصول القتال أرادوا لها أن تُؤَسِّس مسارها الخاص باستقلال عن كل المؤسسات الرسمية في الدولة العربية. ومن ذلك مثلًا التنظيمات الإسلامية الفلسطينية، خاصة تنظيم “الجهاد الإسلامي” بزعامة فتحي الشقاقي الذي أرادسلمة أَسْلَمَة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ضدًّا من حالة الانحسار والفساد والانحراف الذي ميز قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. دون أن ننسى الصعود القوي للإسلاميين في الجزائر؛ فبعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات عام 1991، في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وانقلاب الجيش على الإرادة الشعبية ونتائج الانتخابات، دخلت البلاد عقدًا كاملًا عبارة عن “عشرية دامية” من النزاع المسلح بين الجيش النظامي و”المجاهدين الجزائريين” (الجماعات الإسلامية المسلحة). ورغم أن هذه الفترة التاريخية شهدت حالات من المواجهة بين “الجهاديين العرب” والنظم السياسية الحاكمة في البلدان العربية، فقد كان لغزو الكويت في الثاني من أغسطس/آب 1990 و”التدخل الأجنبي في الأراضي المقدسة” (وجود قواعد عسكرية أجنبية في بلاد الحرمين) أثر واضح في إذكاء العمليات الجهادية في الكثير من دول العالم العربي، خاصة منطقة الخليج التي عرفت هي الأخرى دعوات واتهامات طالت الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود و”مسؤوليته في تدنيس الحرمين الشريفين” بعد السماح للقوات الأميركية والأجنبية بالدخول إلى الأراضي المقدسة وبناء قواعد عسكرية. كما أن هذه الحرب أسهمت أيضًا في انفراط العقد السُّنِّي بين عراق صدام ومن ناصره في غزو الكويت، وبين الكويت والمملكة العربية السعودية ومن دعمهما من دول. لكن تبقى الخاصية الأساس التي طبعت هذه المرحلة هي أن حالات القمع التي جوبه بها “الجهاديون العرب” في بلدانهم بعدما سعوا إلى الانخراط في العمليات السياسية وفق آليات ديمقراطية وفوزهم في الانتخابات اضطرت أغلبهم للهروب إلى العواصم الأوروبية كملاذ آمن ضد قمع الأنظمة والاستعداد لمرحلة جديدة. ثانيًا: جيل القاعدة واستهداف العدو البعيد (1998- 2005) تُمثِّل القاعدة الوجه الجديد للجهاد السلفي الإسلامي، ويعتبر أسامة بن لادن أحسن من يمثِّل الجيل المؤسس للسلفية الجهادية كمقابل لما يصفه صاحب الكتاب بـ”سلفية الشيوخ” أو “دولة الشيوخ” التي اعتمدتها الدولة السعودية وسعت لنشرها. وقد نجح ابن لادن -وجيله- في تجربته الجهادية، بحسب المؤلِّف، منذ بدايتها الأولى سواء في الأراضي الأفغانية أو خلال وجوده المؤقت بالسودان أو حتى بعد عودته للجهاد في الأراضي الأفغانية ضمن تحالف مع حركة طالبان، في أن يُقدِّم مشروعه كبديل لكل ما تقدمه المملكة العربية السعودية. ولذلك، من خلال عملية استقطاب الأعضاء السابقين في التنظيمات الجهادية الموزعين سواء في الغرب أو حتى في الداخل العربي وعبر أمواله الذاتية تمكن من تأسيس تنظيم دولي يعمل وفق مخطط عملي مدروس، يرى في الولايات المتحدة الأميركية العدو الأكبر. وهنا، تندرج عمليات استهداف المصالح الأميركية في الخارج من خلال تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من كينيا وتنزانيا عام 1998، التي لم تكن حينها سوى مرحلة إعدادية للضربة الكبرى التي تحققت ضمن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. إن عملية استهداف برجي التجارة العالمي ووزارة الدفاع الأميركية شكَّلت منعطفًا حاسمًا في مسيرة الفكرة الجهادية في الداخل الإسلامي وخارجه. وهي تُمثِّل تتويجًا وتنفيذًا لمقتضيات دستور القاعدة الذي قام على فكرة طرد اليهود والنصارى من الأرض المقدسة أولًا واستهدافهم في مواقعهم الخلفية ثانيًا. بل إن صاحب الكتاب يرى أن ضرْب برجي التجارة ووزارة الدفاع في الأراضي الأميركية شكَّل في واقع الأمر محاولة لإضعاف أميركا من الداخل بما يساعد على زعزعة نفوذها في الداخل العربي والإسلامي، ومن ثم سهولة السيطرة على أنظمة الحكم العربية وأَسْلَمَة الأنظمة السياسية. لكن من الواضح أن ردَّة الفعل الأميركية جاءت قوية. فقد عمل فريق المحافظين الجدد، الذي كان يتحكَّم حينذاك في دواليب السياسة الأميركية والدولية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، على فتح أبواب الحرب ضد جميع التنظيمات الجهادية خاصة القاعدة. وتحت مقولة: الحرب “ضد الإرهاب” لم يكن هناك من تمييز بين “الإسلام الجهادي والإسلام المعتدل”. ومن المعلوم أن هذه الأطروحة السياسية الأميركية في ذلك الوقت، وجدت صداها في كتاب فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) حول “نهاية التاريخ” الذي ذهب فيه إلى أن الديمقراطية الليبرالية الغربية وجدت التتويج الهيغيلي وتمظهراته العملية في الديمقراطية الشعبية السوفيتية وأوروبا الوسطى والشرقية التي انضمت إلى السوق الحرة والفلسفة الليبرالية بعد سقوط جدار برلين(3)، وهو ذات المنظور الذي عبَّر عنه صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) في كتابه “صراع الحضارات” وتأكيده على بقاء الحضارة الأوروبية الليبرالية في وجه الحضارات الشرقية التي تنتمي إليها دول حوض المتوسط والشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس، تم تعميم فكرة فوكوياما وهينتنغتون، والتي تقوم على “استغلال مفهوم الحرب ضد الإرهاب والعمل على تغيير العالم العربي والإسلامي ولو اقتضى الأمر أن تتم عملية التغيير بالقوة”(4). وعلى هذا الأساس، تم وضع عدد كبير من الدول العربية والإسلامية في خانة الدول المُمَوِّلة للإرهاب بما في ذلك المملكة العربية السعودية التي اعتُبِرَت مناهجها الدراسية مُحَرِّضَة على الإرهاب، وأن ذات المناهج التعليمية هي التي تقف وراء بناء وتشكيل قناعة الانتحاريين السعوديين الذين شاركوا في تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول. ثالثًا: جيل الشبكات واختراق الحدود (2005-2017) يُمثِّل هذا الجيل المحطة الثالثة من تطور الفكرة الجهادية في الداخل العربي والإسلامي، وهي تؤشر للحظة ما بعد انحسار النموذج الجهادي وتفكيك القاعدة ومطاردة قادتها في الداخل والخارج. فبعد نجاح القوات الأميركية في استهداف كل من الزرقاوي وأسامة بن لادن وتشتت باقي القيادين، برز جيل جديد من الجهاديين يسعى لتنفيذ النموذج الأفقي لعمل القاعدة. ويقوم هذا الاختيار الجهادي على أنه في ظل غياب قيادة واحدة للتنظيم، ومع انتشار “المجاهدين” في ربوع دول العالم تم الشروع في عدد من “العمليات الجهادية الأفقية” التي يقوم بها أفراد إما لهم تجارب سابقة بالتنظيمات الجهادية أو تأثروا بالفكر الجهادي عبر الشبكة العنكبوتية. وقد تميزت هذه الفترة بانتشار ظاهرة “الذئاب المنفردة” التي اعتمدت على الاستقطاب الإلكتروني، وتنفيذ عمليات انتحارية يقوم بها أفراد عاديون بعدما يسجلون على الشبكة العنكبوتية اعترافهم بالولاء لتنظيم القاعدة. وهذا ما تم تأكيده في الأعمال الإرهابية التي شهدتها العاصمة الإسبانية، مدريد، 2004، بدعوى استعادة أرض الإسلام المسلوبة، أو تفجيرات لندن، في العام 2005، والتي كانت الأدبيات الجهادية تتحدث عنها باعتبارها أرضًا جديدة للإسلام/لندنستان. من خلال هذا العرض التحليلي لمجموعة كبيرة من المعطيات والمعلومات التي تضمنها الكتاب عن بداية فكرة الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط وتطور الفكرة الجهادية في الداخل والخارج، نخلص إلى أن العالم العربي طوال أربعة عقود (1973-2011) عرف جملة من التطورات المتسارعة والحاسمة التي يمكن اختزالها فيما يلي: إن هذه اللحظة التاريخية ظلت محكومة عمومًا بجدلية القرآن والنفط، أي الصراع بين السلطة الدينية وكيفية تفسير النص الديني وبين السلطة الاقتصادية ممثَّلة في النفط والسلطة السياسية ممثَّلة في النظم السياسية. عاشت منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط على إيقاع صراع محموم بين أيديولوجيتين متعارضتين، هما: “الإخوانية المصرية: و”الوهابية السعودية”، وأن هذا الصراع المذهبي كانت تُوجِّهه نزوعات سياسية واضحة تداخلت فيها المصالح الشخصية والاختيارات الإقليمية وحتى المصالح الدولية. رغم أن هذه اللحظة التاريخية انتهت مرحليًّا بانحسار الفكرة الإخوانية داخل نطاق ضيق موزع بين مصر ودول عربية أخرى، فقد شهدت المنظومة الأيديولوجية للحركة الوهابية انتشارًا كاسحًا مستفيدة من عائدات النفط كعامل جديد قديم وحاسم في السياسة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده. الفوضى التي ميزت أغلب الدول في حوض المتوسط والشرق الأوسط في هذه المرحلة كانت ناجمة عن تباين القراءات والتفسيرات المعتمدة للدين ودوره في تغيير المجتمع. حالة الفوضى نجمت عن المعايير المزدوجة للنظم السياسية العربية في تعاملها مع تنظيمات الإسلام السياسي بين الاحتضان الظرفي والعداء الممنهج، وذلك تبعًا لمتطلبات كل مرحلة على حدة وحسب السياسة الخاصة لكل دولة. إن الفكرة الجهادية في الفضاء السياسي العربي والإسلامي والتي كانت مُوَجَّهة في الأساس للخارج وتحرير الأراضي الإسلامية من الكافر (أفغانستان) كانت مستخدمة بل ومخترقة من قبل الاستخبارات الأميركية مما يطرح أكثر من سؤال حول أهداف الدولة أو الدول الراعية للجهاد في ذات الفترة. تطورت الفكرة الجهادية بتطور الأجيال الحاملين لها، ومع جيل ابن لادن خرجت من تحت الإسار السعودي، واستهدفت الكثير من مصالحه. والأهم من ذلك أنها أخذت لبوسًا مختلفًا خلال الفترة الزمنية الممتدة ما بين (1980-1997) حيث أصبحنا أمام عمليات جهادية تستهدف الداخل والخارج وكأن الأمر يتعلق بتجربة سياسية تريد الانفكاك من سلطة النظم السياسية الحاكمة وتريد الانتقام من الدول الغربية الأجنبية. تحوَّلت الفكرة الجهادية تحت وطأة القمع في الداخل إلى مشاريع فردية موزعة بين دول العالم؛ فهي لم تعد مقصورة على الدول العربية والإسلامية بل اتخذت من دول الغرب ملاذًا للبقاء والانتشار. 2. من انتكاسات الربيع العربي إلى دولة الخلافة الجهادية يُمثِّل عقد أو بشكل أدق الفارق الزمني الممتد بين 2011 و2018 برأي صاحب الكتاب، فترة الصراعات والتناقضات الكبرى والفوضى العارمة في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط. ففي العام 2011، شهدت دول العالم العربي ثورات الربيع العربي، التي شكَّلت حدثًا استثنائيًّا في السيرورة العامة للفعل السياسي العربي. ورغم أن جيل كيبل يغمط هذا الحدث حقه الطبيعي من الطابع الشعبي والثوري والمطالبة بالديمقراطية، حينما يقدِّمه في شكل وعود حماسية لم تعمر طويلًا في الدول العربية التي مرَّ منها، أو أنه مجرد ربيع تحوَّل بسرعة إلى خريف. لذلك نجده يتحدث فقط عن الثورات الست التي وقعت في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وكأن الأمر يتعلق بثورات معزولة عن سياق عربي وإقليمي يجد الكثير من تفسيراته في نظرية الدومينو. ورغم أن هذا الخيار المعرفي لا يخلو من نزوعات أيديولوجية واضحة، فإنه يكشف أيضًا عن قصور في فهم واستيعاب وظيفة الحركات السياسية الثورية السابقة في العالم ودورها في التغيير المجتمعي(5). إن التقييم الموضوعي لثورات الربيع العربي في السياق العربي العام يتحدد من حيث إنها محصِّلة تراكم ضد فشل الدولة العربية في تقديم الأجوبة الملائمة للمطالب الاجتماعية الملحَّة. وهي أيضًا صرخة شعبية جماعية لا تعترف بالحدود الجغرافية ضد نظام الاستبداد. وهي ثالثًا بحث عن أفق ديمقراطي يطالب بالتغيير عبر الأدوات السلمية بما يجعل منها منظومة مستقلة لا تتقاطع مع التجارب الجهادية التي تعتمد العنف. وبالتالي، فإن مجموع الأحداث التي طرأت بعد الربيع العربي هي التي أتت بالفوضى التي تحدث عنها صاحب الكتاب وهذا ما يمكن تلمسه من خلال عرض سريع لأهم الأحداث التي تلت 2011 من خلال ثلاث تجارب ثورية عربية: – التجربة التونسية: بالاعتماد على نظرية الدومينو في التحليل السياسي، يمكن التأكيد بأن هذه التجربة كانت رائدة وسبَّاقة لوضع لَبِنة التغيير العربي من خلال نجاح التجربة الدستورية التي عرفتها البلاد في العام 2015، إلى الحد الذي جعل بعض الدراسات التحليلية تتحدث عن الاستثناء التونسي خاصة بعدما وصل حزب النهضة ذو “التوجهات الإخوانية” إلى السلطة. لكنها لاحقًا اصطدمت بالانكسارات الاجتماعية وتنامي معدلات الخطر الجهادي بعد الهجوم على متحف باردو واستهداف السياح الأجانب في تونس العاصمة. وبذلك عاشت تونس حالة من الانتقال الديمقراطي المعطَّل الناجم عن دخول أو تدخل عوامل سياسية جديدة عملت على تحوير شعارات الربيع العربي وأدخلت البلاد في فوضى سياسية هيأت التربة لإعادة انتعاش الفكر والممارسة الجهادية. لكن اللافت في التجربة التونسية هو أن بعض الدول العربية التي ناصبت الثورات العربية العداء من البداية اعتمدت جميع الوسائل لإضعاف حزب النهضة الإسلامي الذي كانت ترى في وصوله للحكم بداية هيمنة على المشهد التونسي وعودة جديدة للفكر الإخواني وقطف ثمار الربيع العربي وانتشار قاعدته عربيًّا. ومن هنا، كان التصدي لأي صعود متوقع للإسلاميين جزءًا من عملية الفوضى. – التجربة المصرية: رغم الزخم السياسي الذي ميَّز هذه التجربة عقب انتخاب الرئيس محمد مرسي، في العام 2012، رئيسًا لمصر، في أول تجربة انتخابية رئاسية شهدت لها جميع دول الغرب بالنزاهة، فإن ما وقع في العام 2013 من انقلاب على إرادة الشعب وعودة نموذج الحكم العسكري الذي أرساه الضباط الأحرار خلال التجربة الناصرية، جعل مصر تدخل حالة من الفوضى السياسية العارمة، تمثَّلت في حالة من الصراع المفتوح بين الإخوان والمجتمع العسكري؛ حيث تبقى الموازين مختلفة ومتباينة. وما زاد من معدلات الفوضى وجود دول عربية وأخرى خليجية لا تريد للنموذج الإسلامي أن يحكم أي بلد عربي. ورغم أن نظرية المؤامرة لا تُنتج معرفة في الغالب، فإن نسبة مهمة من الدراسات ينحو أصحابها إلى أن الجيش وبعد أن أيقن من سقوط مبارك عمل على إنجاح تجربة الإخوان وإيصالهم لسدة الحكم وبعد ذلك شيطنتها أمام الرأي العام المصري وتبيان فشلها في تدبير الفعل السياسي وإسقاطها بطرق محبوكة تجد الدعم في الداخل والقبول في الخارج. – التجربة الليبية: لقد كان للغرب دور كبير في الثورة الليبية من خلال دور قوات الناتو في القضاء كليًّا على حكم القذافي. ولما بدأ المسلسل الديمقراطي في البلاد تدخلت أطراف عربية ودولية مختلفة لمواجهة تيارات الإسلام السياسي، حينها تم الإتيان بالعقيد خليفة حفتر من الولايات المتحدة الأميركية باعتباره أحد الأوجه المعارضة لنظام القذافي ودعمه بالسلاح من قبل الإمارات والسعودية للإجهاز إلى أي محاولة لأَخْوَنَة الدولة. ومن هنا تحديدًا قدمت ليبيا نموذجًا للدولة المفككة. انطلاقًا من التجارب الثلاث أعلاه التي عرض لها صاحب الكتاب بتفصيل -والأمر نفسه ينسحب على باقي التجارب الثورية العربية الأخرى- يمكن القول بأن ثورات الربيع العربي تمت وفق مسار واحد بأوجه مختلفة، أي إن هناك تشابهًا في تسلسل الأحداث وحتى من حيث النتائج. ففي البداية، كانت هناك محطة إسقاط الديكتاتور، تم تلتها محطة بدء المسلسل الديمقراطي الذي غالبًا ما ينتهي بفوز تيارات الإسلام السياسي بطرق ديمقراطية. وهنا تتدخل قوى سياسية أو عسكرية للانقلاب على الشرعية وإن تم الأمر بصورة مختلفة تبعًا للسياق العام للبلد المعني. وبذلك، نخلص إلى أن ثورات الربيع العربي لم تكن جزءًا مُسَبِّبًا للفوضى، ولكن انقضاض القوى السياسية والعسكرية داخل هذه البلدان على منجزات الربيع العربي والتدخل الخارجي لإجهاض أو إسقاط أي تجربة حكم إسلامي تُعَدُّ السبب الرئيس في إدخال البلد في موجة من الفوضى العارمة. ولأن الطبيعة تخشى الفراغ، فإن منطقة حوض المتوسط والشرق كانت في حاجة ماسَّة لحدث ضخم يزيد من خلط الأوراق والرفع من منسوب الفوضى. وهنا يمكن طرح السؤالين التاليين: – ما العلاقة بين صعود تنظيم الدولة وانكسارات الربيع العربي؟ – وكيف يمكن تفسير هذا الصعود المتسارع لتنظيم الدولة وانهياره السريع أيضًا؟ إن صعود تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” جاء نتيجة فراغ سياسي وأمني عرفته المنطقة جرَّاء الصراع المفتوح بين خيارات المجتمعات العربية ودولة الجيش وأعداء التغيير في هذه المنطقة. كما أنه يمثِّل معادلًا موضوعيًّا لانكسارات الربيع العربي والعنف الاستبدادي الذي جوبه به الشباب العربي المطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فما بين لحظة الإعلان عن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، في 29 يونيو/حزيران 2014، وطلب البيعة من جميع المسلمين في العالمين، الإسلامي والغربي، والسيطرة السريعة على العديد من الأراضي العراقية والسورية المعترف بها دوليًّا، وبين لحظة سقوطها الحر في أكتوبر/تشرين الأول 2017، بعد أن فَقَدَ التنظيم السيطرة على الرقة، عاشت منطقة حوض المتوسط والشرق الأوسط تحولات راديكالية زادت من منسوب الفوضى. وما يستوقف أكثر في التجربة �