الكتاب: الحبيب بورقيبة.. الأهم والمهم
تأليف: الباجي قائد السبسي
يروي رئيس الحكومة التونسية المؤقتة الباجي قائد السبسي في هذا الكتاب أجزاء من مذكراته الشخصية، إضافة إلى شهادته على مراحل مهمة من تاريخ تونس الحديث استطاع الزعيم الوطني والرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة أن يضع عليها بصمته الخاصة لمدة 39 عاما من الكفاح التحريري و30 عاما من القيادة الفعلية للدولة.
ويشدد المؤلف على أن الحبيب بورقيبة غدا في ذمة التاريخ وليس غير أفعاله تشهد له أو عليه، ونحن نعتقد أن الأجيال القادمة سوف تعترف بمناقبه بشكل أفضل من أبناء جيله أو الجيل الذي عايش شيخوخته المتأخرة ونهايته، أما الأمة فإنها ستضعه حتما في المكانة التي هو بها جدير في التاريخ، وذلك لأن دوره لم يتوقف عند المساهمة في بناء الدولة الحديثة فقط، بل تجاوزه إلى رفع مكانة تونس إلى مصاف الدول التي تحظى بالاحترام وتتمتع بالمصداقية.
إن بورقيبة لم يكن سوى إنسان، لقد كانت له أهواؤه وقد عانى المتاعب وحمل أوزار السنين، وهو يبقى مع ذلك مثالاً رائعاً لرجل السياسة، لأنه لم يتردد أبداً، خلال النضال، في التضحية بحريته، كما انه لم يسع قط، خلال ممارسة السلطة لكسب ثورة شخصية، ولم يتوقف طوال حياته عن النضال من أجل الكرامة.
تحيي تونس حاليا الذكرى الحادية عشرة لوفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة (1903 ـــ 2000) في أجواء مختلفة عن الأعوام السابقة، حيث تعهدت الحكومة المؤقتة بإعادة الاعتبار للرجل الذي لم يبن لنفسه وهو على سدة الحكم إلا ضريحاً في قلب مسقط رأسه مدينة المنستير، احتوى على قبري والديه، وعلى قبره الذي اعده في أواخر السبعينات من القرن العشرين، وكتب على شاهده: هذا ضريح الحبيب بورقيبة صانع مجد تونس ومحرر المرأة.
في العام 1987 توّلى زين العابدين بن علي حكم تونس عبر انقلاب صريح، ومنذ الأيام الأولى عمل على طمس تاريخ بورقيبة بإزالة تمثاله من قلب العاصمة ومنع الحديث عنه في وسائل الإعلام وتهميش دوره التاريخي والاستيلاء على مشروعه الحضاري إضافة إلى وضع الزعيم أو «المجاهد الأكبر»، كما كان يحب أن يسمى قيد الإقامة الجبرية في بيت المحافظ بمدينة المنستير إلى ان توفي يوم 6 أبريل 2000، وتم دفنه في موكب رسمي يحرسه القناصة ومنع الأمن الرئاسي المواطنين العاديين من حضوره.
وأصدر بن علي قراراً للتلفزيون بحظر بثه مباشرة، وقد عمل نظام بن علي على مسح آثار بورقيبة، ولكن أثراً واحداً أرقه ولم يستطع المساس به إلا إهمالاً، وهو ضريح آل بورقيبة الذي تحول إلى مزار للتونسيين، يستذكرون فيه صفحات من تاريخ بلادهم.
اليوم، وبعد ثورة 14 يناير، عاد الحبيب بورقيبة إلى واجهة الصورة، سواء من خلال سيرته وفكره ومشروعه الذي يرى فيه جانب كبير من التونسيين حصانة للحداثة والتنوير وحرية المرأة وسدّا في وجه التعصب والرجعية الحضارية، أو من خلال الاعتماد في قيادة المرحلة الانتقالية على بعض رجالات مرحلته وتلاميذ مدرسته السياسية وفي مقدمتهم الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة ومحمد المصمودي الذي كان ابرز المناضلين الذين التفوا حوله.
المهم والأهم
يتحول المؤلف إلى مدينة المنستير لإحياء ذكرى وفاة الحبيب بورقيبة التي تنتظم تحت إشراف فؤاد المبزع رئيس الجمهورية المؤقت، وبحضور عدد كبير من أعضاء الحكومة والنخب السياسية والثقافية والمواطنين والمناضلين من مختلف جهات البلاد، ويقول قائد السبسي الذي يعتمد في تجربته السياسية على شعار «الصدق في القول والإخلاص في العمل» الذي كان شعار بورقيبة والحزب الحر الدستوري الجديد، يقول إن بورقيبة كان زعيما خالدا وتاريخيا ويستحق منا إنصافه وتكريمه بما يليق بدوره الكبير في خدمة البلاد تحريراً وتنويراً وبناء وتحديثاً.
أول صدمة تلقاها الباجي قائد السبسي في حياته النضالية كانت يوم 6 أبريل 1938، حيث يقول: كنت آنذاك تلميذاً صغيراً ادرس بفرع المعهد الصادقي، وأقيم خلال السنة الدراسية مع شقيقي بمنزل الأسرة في تونس تحت رعاية أحد الأقارب، وفي ذلك اليوم كنت شاهدا على المواجهات الدامية، حيث وبينما كان المتظاهرون التونسيون يهتفون بصوت واحد: برلمان تونسي، دوّى أزيز الرصاص، وسقط الجرحى، وسالت الدماء، لم افهم الكثير عن حالة الجنون التي سادت يوم 6 أبريل، ووجدت نفسي بعد توقف الدراسة بالمعهد الصادقي في ضاحية حمام الأنف جنوب العاصمة مع أمي وبقية أفراد الأسرة.
من هناك استرجعت ذاكرة الباجي صورا من قلب الأحداث: مجموعة عساكر فرنسيين تخرب مقر شعبة الحزب الدستوري الجديد، وأمين السوق يصرخ تحت تهديد مسؤول فرنسي: يسقط الدستور، ولكن أمه حاولت أن تشرح له حقيقة ما يجري على طريقتها، ثم قالت له: لا تنس ما رأيت.
أول مسؤولية
يوم 24 ابريل 1956 وبعد شهر من الاستقلال دُعي الباجي من قبل بورقيبة لتولي مهمة مستشار لديه، يقول « قلت له سيدي الرئيس، ماذا يمكنني أن افعل في ديوانك فأنا بلا تجربة » فصاح متعجبا: نحن جميعا بلا تجربة وليس هذا سببا كي نترك للآخرين مسؤولية حكم البلاد» ومن هناك بدأت رحلة قائد السبسي مع المسؤوليات السياسية في تونس حيث تولى وزارات عدة منها الدفاع والخارجية إلى جانب الوظائف الدبلوماسية والحزبية.
يقول عن بورقيبة: لقد اكتسب ثقافة مزدوجة عربية وفرنسية وامتلكها في توازن طبيعي تماما، مع طاقة فكرية متوقدة في السياق الاجتماعي والسياسي لعصره من شأنها أن تتيح له سهولة ومرونة مذهلة في التفكير، كما أسهمت خبرته الطويلة في العمل الصحافي النضالي ومخاطبة الشعب في امتلاكه القدرة على بناء الأفكار والميل إلى إصدار الأحكام الجوهرية وأهمية العرض الواضح المدعم بالحجة والبرهان، لقد كان الحبيب بورقيبة زعيما شعبيا حقيقيا وكان خطابه محكم البناء ومركّزا.
استخفاف بالمال
و يؤكد قائد السبسي في كتابه أن بورقيبة كان واثقا بذكائه وفي نفسه، وكانت له مبادئ وقناعات ليست متجذرة في وعيه فحسب وإنما معقلنة ومسوغة في خطاب عقلاني، كما كان شجاعا، ويتمتع بكاريزما وفرت له إشعاعاً أسهم في تسهيل إبلاغ رسالته، فبورقيبة لم يواجه مشكلات في مجال الاتصال التي أصبحت اليوم تتطلب مستشارين ومختصين وتقنيات دقيقة وسينوغرافيا متطورة في خدمة رجال السياسة، كان يمتلك موهبة التواصل والتحديق في عيني مخاطبه، وكان يمر بالسهولة نفسها في الإذاعة والتلفزيون، وقد اسهم في صياغة لغة وسطى وأسلوب خطابة على الساحتين التونسية والعربية يصلان إلى المستمعين على مختلف ثقافاتهم.
ويرى قائد السبسي أن بورقيبة كان يتميز باستخفافه بالمال واحتقر مكتزية.
الإنصاف
في حديثه عن جنازة الحبيب بورقيبة يوم 8 أبريل 2000 يقول الباجي قائد السبسي: عند الإعلان عن وفاته نُقل جثمانه من المنستير إلى تونس في العنبر المخصص للسلع في طائرة تحمل تسمية 7 نوفمبر التي تذكر بيوم الإطاحة به، لكي يُسجّى بمقر التجمع الدستوري الديمقراطي حيث توافد المناضلون لتوديعه الوداع الأخير ولقراءة الفاتحة، قبل أن يسلك النعش في اليوم الموالي طريق العودة إلى المنستير، حيث نظمت جنازة للحبيب بورقيبة يوم 8 أبريل بحضور شخصيات تونسية زين العابدين بن علي وعدد من رؤساء الدول والحكومات الصديقة الذين أبوا إلا أن يؤدوا له الوداع الأخير، أما الشعب التونسي فلم يتسنّ له حضور الجنازة أو متابعتها مباشرة على شاشة التلفزة الوطنية.
وفي الأخير يقول قائد السبسي: عندما يفعل الزمن فعله، وعندما ينقّى البرّ من الزؤان ويفرز الغث من السمين، ويحل التاريخ محل راهن الأحداث، سوف يخرج الحبيب بورقيبة من جحيمه، ويعود تمثال الفارس التونسي الأكثر مجدا ليتبوّأ مكانه في تونس في شارع الحبيب بورقيبة قبالة عبدالرحمن ابن خلدون عالم الاجتماع التونسي الألمع عبر العصور.