المؤلف : فولفجانج هيرن أول ما نطالع في كتاب «التحدي الصيني» هو أن الصين ليست في طريقها لتكون قوة اقتصادية عالمية فقط، ولكن أيضًا تريد أن تصبح قوة سياسية وعسكرية عظمى، وما يلفت النظر فعليًّا هو أن نمو الاقتصاد الصيني يواصل الصعود بشكل مستمر. التحدي الصيني الذي ألّفه فولفجانج هيرن وترجمه محمد رمضان حسين، وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يُعدّ من أكثر الكتب مبيعًا آن ظهوره، ويقع في اثني عشر فصلاً يتحدث فيها المؤلف عن ظهور قوة عالمية جديدة، عن الرأسماليين الموهوبين، عن بناء في الشرق وانهيار في الغرب، عن العملاق الجائع وعن الغزو السلمي. بداية يورد هيرن مقولة لبول كيندي تقول إن من بين كل الحضارات المتقدمة في وقتنا الحالي لا نشعر بميل نحوها، كما نشعر به تجاه الحضارة الصينية. في كتابه هذا يأخذنا هيرن في رحلة ممتعة نرى فيها الفرق بين الصين قديمًا وما وصلت إليه الآن، مصيبًا إيانا بحسرة كبيرة على واقعنا العربي، إذ يرى أن سرعة التغير في الصين قد أصبحت تسبق الأنفاس، ولا يستطيع أحد ملاحقتها، ولم يحدث من قبل أمر مماثل لما يجري في تلك الأمة العظيمة عبر التاريخ، من سرعة تقدم وصعود في الاقتصاد العالمي. الصين التي أصبحت بالفعل مصنع العالم يزداد معدل النمو السنوي لاقتصادها، ويعد من أهم أسباب هذا النمو السريع والمتزايد عودة عشرات الآلاف من الصينيين الذين درسوا في كبرى الجامعات الأمريكية، وأسسوا العديد من المشاريع الناجحة في وادي السيلكون، ثم عودتهم إلى أوطانهم. قوة عظمى من وراء كتابه هذا يريد فولفجانج هيرن أن يفيق القارئ الأوروبي والأمريكي، مشجعًا إياهما على إلقاء نظرة من قرب على الصين، تلك القوة العظمى الناشئة من أجل فهم أفضل لهما في النهاية، حيث إن الواقع لم يعد يحتمل مزيدًا من الجهل تجاه الصين. لقد ظهرت الصين، على حد قول المؤلف، منذ بضعة قرون سبقت القرن التاسع عشر، ثم صعدت بعد ذلك كواحدة من أكبر القوى الشيوعية مع ماو تسي تونغ في منتصف القرن العشرين، ثم تقدمت الصين مع فترة الحرب الباردة في ظل الحكم الثوري، حتى صار الغرب ينظر إليها على أنها تُشكّل تهديدًا كبيرًا عليه. ولأن الصينيين لا يفهمون غير لغتهم القديمة ولا يطّلعون إلا على تاريخهم وثقافتهم فقد أدى ذلك إلى أن ينظر الغرب إليهم نظرة كلها جهل وإعجاب وغطرسة وقلق. أما سبب النزعة القومية المفرطة في الصين فهو أنها كانت بلادًا لها حضارة عظيمة في الماضي، واستمر تقدمها عكس مصر واليونان اللتين تهمش دورهما وتقلص حجمهما بعد أكثر من خمسة آلاف عام من الحضارة. كذلك يرى بعض العلماء أن الإنسان بحاجة إلى دراسة تاريخ الصين وحضارتها حتى يفهم سبب النزعة القومية التي ما زالت تسيطر على هذا الشعب حتى الآن. هنا نعرف أيضًا أن قوى الغرب واليابان قد اجتمعت ضد الصين على مدى قرن كامل، وهذا ما يفسر العديد من سياسات الصين الخارجية غير المفهومة. كذلك على الجميع أن يدركوا أن الصين كانت من البلاد الأكثر تقدمًا في العلوم والتكنولوجيا منذ عدة قرون مضت، وأن لديها اليوم الإرادة والكفاءات البشرية ما يُمكّنها من العودة إلى سابق عهدها مرة أخرى. لقد وصلت الصين إلى أن تمتلك مجموعة من الباحثين يصل عددهم إلى الخمسين ألف عالِم في مجال صناعة التكنولوجيا الحيوية، ينضم إليهم أكثر من أربعة آلاف كل عام. نضج تكنولوجي في «التحدي الصيني» يتتبع هيرن تاريخ الصين منذ بدايتها وحتى الآن متحدثًا عن التقدم العلمي الصيني منذ وقت مبكر، حتى إن المؤرخ بول كيندي يقول إن الصين كان لديها نضج تكنولوجي واكتشافات عظيمة أحدثت ثورة كبرى في شتى المجالات، والتي لم يتمكن الغرب من التوصل إليها إلا في القرنين الأخيرين فقط. في بدايات القرن التاسع عشر سعى الإنكليز أن يهدموا الصين حين حاولوا شراء الشاي الصيني مقابل تجارة الأفيون، التي ازدهرت في المستعمرات البريطانية في الهند كمقابل للبضائع الصينية، ما أدى إلى انتشار إدمانها بسرعة فائقة بين سكان الشرق الأقصى، وقد وصل عدد المدمنين في الصين وحدها إلى ستة ملايين مدمن مع بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر. هنا يقارن بين استمرار النمو الصيني بمعدل سريع للغاية واستمرار حالة الركود والانخفاض المتزايد لمعدلات النمو لدى الأوروبيين واليابانيين والأمريكيين، مؤكدًا أن مسألة التفوق الصيني على الجميع مجرد مسألة وقت لا أكثر. كما يرى أن الحضارة الصينية التي تعرضت للإذلال على أيدي الأجانب، وكانت لا تلعب سوى دور ثانوي على هامش تاريخ العالم على مدار ما يقرب من ستة قرون، تعيش الآن نقطة تحول تاريخية لأن أعظم أمة على وجه الأرض ستعود من جديد كقوة عالمية عظمى. هنا يخبرنا هيرن أن الصين كانت أمة التعلم والجوع وأن كونفوشيوس كان يلقنهم في تعاليمه أن التعلم هو أفضل الأمور، وبعد سنوات من الفوضى والثورات الثقافية التي كان يُنكّل فيها بالمثقفين بلا رحمة، بدأ الإصلاح الثقافي بعدها كمشهد للتحرر الفكري. أيضًا نعرف أن الصين جمهورية شعبية يحكمها النظام الشيوعي مثلما يقر دستورها بذلك، غير أن نظامها المالي يتجه بنحو متزايد نحو النظام الرأسمالي، وأن الصين أصبحت مدرسة اقتصادية كبرى للمستثمرين الصينيين الذين صاروا أقرب لبلدهم من أي وقت مضى، وهناك مشاريع اقتصادية ناجحة أعطى الصينيون من خلالها درسًا في الاقتصاد للعالم. كذلك نقرأ عن الصراعات القديمة التي كانت على مدار عقود مضت بين الصين والهند، فيما كان المنهج الاقتصادي مختلفًا تمامًا في البلدين. المؤلف يرى أيضًا وفي ظل هذه الثورة الصناعية الجديدة، في هذا القرن يبدو أن الوضع سينعكس، حيث تتجه الصين والهند نحو استعادة مكانتيهما وسيكون الخاسر هو الغرب، أوروبا وأمريكا، بعد هيمنة دامت لأكثر من مئة وخمسين عامًا ويبدو أنها توشك الآن على النهاية. المستهلك الأكبر لقد وصلت الصين إلى أن تمتلك مجموعة من الباحثين يصل عددهم إلى الخمسين ألف عالِم في مجال صناعة التكنولوجيا الحيوية، ينضم إليهم أكثر من أربعة آلاف كل عام. ولا توجد دولة لديها دراسة ومعرفة أفضل من الصين في مجال تطوير وإنتاج الأغذية المعدلة وراثيًا. هيرن يورد ما يقوله جاك ويلش المدير السابق لجنرال إلكتريك وهو أن الصين فيها العديد من الشركات والمؤسسات التي ربما لم يسمع عنها أحد من قبل، ولكنها ستوجد بقوة على خريطة المنافسة العالمية في خلال العقد المقبل، إلى درجة أنها قد تشكل تهديدًا قويًّا لبعض الكيانات العالمية الضخمة. وفي ما يتعلق بالريادة في مجال التكنولوجيا الحيوية يقول هيرن، بينما لا يزال الاتحاد الأوروبي يخوض نقاشات كبرى بشأن الآثار الصحية والأخلاقية المترتبة على استخدام التكنولوجيا الحيوية، قامت الصين في البدء بتطبيقها بشكل علني، ذاكرًا أنه لا توجد دولة باستثناء الولايات المتحدة تضع الكثير من استثماراتها في مجال التكنولوجيا الحيوية، باعتباره واحدًا من أهم قطاعات الدولة. وأخيرًا لقد نشر فولفجانج هيرن كتابه هذا الذي يضم عددًا من القصص التي تحمل نماذج بشرية نجحت اقتصاديًّا، وقد بدأت من لا شيء، منذ أحد عشر عامًا، فكم تُرى حققت الصين من تقدم على كل المستويات في هذه الفترة؟ وما هو حجم التقدم الذي ينتظره الصينيون في الأعوام المقبلة؟ في ظل مواصلة بلداننا العربية سُباتها العميق في كهوف التخلف، قانعة بتوليها وظيفة المستهلك الأكبر لكل صناعات العالم..