https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

اسم المؤلف: سلمان بونعمان

-1-

شغلت مسألة “فشل العرب في نهضتهم ونجاح آخرين” عددًا من الكتّاب والباحثين والمفكرين، ما حدا بهم نحو تناول مسألة النهضة بعيون وزوايا مختلفة، فتطرق بعضهم إلى التنظير في أسس النهضة الذاتية الخاصة بمقومات الأمة العربية، بينما تناول بعض آخر التجارب النهضوية لأمم أخرى، في سبيل المقاربة حينًا، والمقارنة أحيانًا أخرى. حيث استخلصت دروس مستفادة، وحددت اتجاهات حتمية موصلة إلى الغاية المرجوة وهي نهضة العرب. من الكتب المهمة والمفيدة في هذا الإطار، كتاب “التجربة التاريخية الفيتنامية” لياسين الحافظ، وكتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي. استقطبت التجربة النهضوية اليابانية عددًا من النقاد والكتّاب العرب، لما لها من أهمية كبيرة في معرفة أسس نهضة ومفعولات أمة وعت ذاتها، وامتلكت مشروعها الحلم، وقد حققته خير تحقيق. ومن الكتب المهمة التي تناولت ذاتية التجربة النهضوية اليابانية، كتاب لمسعود ضاهر بعنوان “النهضة العربية والنهضة اليابانية” وأيضًا الكتاب الذي بين أيدينا “التجربة اليابانية، دراسة في أسس النموذج النهضوي” للكاتب سلمان بو نعمان.

تأتي أهمية هذا الكتاب من المعلومات المقدمة عن التجربة النهضوية اليابانية، ومن تأكيد أهمية “الحداثة” بوصفها مخرجًا أوليًا لتيه التأخر، ومقدمات أولية في طريق النهضة. أما المسألة الأكثر أهمية التي يقدمها الكاتب ويؤكدها في كل فرصة تسنح له بذلك، هي العلاقة ما بين الحداثة والأصالة، الحداثة والهوية الذاتية لأمة ما من الأمم.

مدخل

يتناول الكاتب في مدخل كتابه مسألة “استئثار التجربة اليابانية باهتمام واسع في الخطاب النهضوي المعاصر، في محاولة للمقارنة بين النهضتين اليابانية والعربية” ويورد الكاتب دراسة لـ “شارل عيساوي” (لماذا اليابان؟) مثالًا على ذلك. ويعدّه بمنزلة “أول جهد علمي وفكري محكم في فهم ميزات اليابان وتحليل أسباب نهضتها، لماذا اليابان من دون بلدان أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية التي فعلتها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟ ولماذا ليس العرب؟ لينتقل “بونعمان” إلى تناول السؤال الذي طرح في الخطاب النهضوي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات: لماذا نجح اليابانيون وفشل العرب؟ ويضيف: خطابات النهضة العربية المقارنة بالنهضة اليابانية أنتجت تصورًا منهجيًا ومعرفيًا وتاريخيًا عميقًا بطبيعة الفارق في السياق التاريخي والحضاري بين المنظومتين” مشيدًا “بالتحليل المستفيض والعميق الذي قدمه المؤرخ محمد أعفيف في هذا الإطار بكتابه “أصول التحديث في اليابان 1568-1868” الذي يقول فيه: إننا لا نجد نعتًا آخر نصف به هذا الاطمئنان إلى المقارنة الممكنة بل والأكيدة عند ثلة من مؤرخينا ومفكرينا العرب، بين النهضة العربية والنهضة اليابانية سوى نعت المقارنة الساذجة”، إذ يبين المؤلف “أن المعجزة اليابانية لم تبدأ مع عصر “ميجي” في القرن التاسع عشر، وإنما استندت إلى مرجعية فكرية عميقة وطويلة بدأت منذ القرن 16 (…) فقد توافرت لدى اليابان مقدمات تاريخية باهرة، تشكلت على مهل طوال أربعة قرون سابقة على عصر “الميجي” ومعها حركة فكرية وسياسية عميقة، تدعو إلى الإصلاح والتغيير، وهكذا لم تشكل إصلاحات “الميجي” طفرة أو تطورًا تاريخيًا مفاجئًا سمّاه بعضهم معجزة منقطعة الصلة عما سبقها.

يقول الكاتب: اختلفت أحوال اليابان عن أحوال البلدان العربية التي أخذت ترزح تباعًا تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة منذ أواسط القرن التاسع عشر، وكانت اليابان قد دخلت قبلها دورة كمون وعزلة حضارية وبخاصة منذ مطلع القرن السادس عشر، وهي اللحظة نفسها التي شهدت دخولها في دورة ممتدة للتطوير الحضاري”.  ويضيف “بونعمان”: عن التجربة اليابانية تطرح أسئلة دالة تتعلق بفلسفة النهوض، وعلاقة الهوية والثقافة بالنهضة والتغيير (…) إن دراسة معمقة لمسار النهضة اليابانية في مختلف مظاهرها، تظهر بالملموس مدى فائدة دروس تجارب التحديث الآسيوية لإطلاق نهضة عربية جديدة”.

يشير الكاتب إلى أن الأبحاث العربية عن اليابان تفتقر –في أغلبها- إلى الحد الأدنى من “التدقيق العلمي، ويطغى عليها الخطاب الانطباعي الانبهاري، في ظل غياب واضح للموضوعية الاجتهادية المركبة” ويرى الكاتب أن “أغلب الدراسات المنجزة طغت عليها مقاربتان: مقاربة انبهارية ومقاربة تبسيطية اختزالية”.

الفصل الأول: إرهاصات النهضة اليابانية

ينطلق الكاتب هنا من قاعدة مفادها: “نجاح التجربة اليابانية هو حصيلة مركبة ومعقدة من التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والحضارية التي عرفتها اليابان منذ القرن السابع عشر على الأقل” ويضيف: “فمرحلة الأسرة اليابانية توكوغاوا حكمت اليابان فترة 1603-1867، وهي المركزية في إقلاع باليابان”. وعن المتغير الحاسم لهذه المرحلة في التأسيس لنهضة اليابان يقول: “شهدت اليابان في هذه المرحلة تطورًا في المجال الاقتصادي، لا يقل أهمية عمّا شهده الغرب في المرحلة نفسها، وبلغت الثقافة اليابانية ذروة تألقها (…) وأهم ما تحقق في هذه المرحلة هو الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي، فبعد حرب أهلية دامت قرنًا من الزمن؛ نعمت اليابان بفترة استثنائية من السلم، استمرت قرنين ونصف القرن (…) شهدت نموًا ديموغرافيًا غير مسبوق، وتوسعًا في المعرفة وبالقراءة والكتابة، وازدهار دور النشر والمسارح (…) كما تم إنشاء مدن جديدة، الأمر الذي يؤكد بروز ملامح حضرية ذات أنماط اجتماعية واقتصادية وثقافية متطورة، يسودها الترابط العائلي والعمل الجماعي (…) وكثرة المؤسسات التعليمية ونشاطها (…) وقد انبثق عن هذه التجمعات الحضرية الكبرى، فئة متميزة من التجار والصناع، عرفت في التاريخ الياباني بمصطلح “تشونين” وهو قريب من مصطلح البورجوازية، حيث رعوا نشأة عدد من الفنون وأنتجوا صنوفًا من الأدب، وعجّت الأحياء بالمسارح (…) وفي أواخر القرن الثامن عشر، عاش أدباء ورسامون كانوا طليعة تيار ثقافي جديد”. ويستطرد الكاتب قائلًا: “هناك أسباب كثيرة تفسر الازدهار الثقافي وتوجهه الشعبي، في مقدمتها التوسع الحضاري وتنامي سكان الحضر، وتمتع فئة التجار وسكان المدن بقدر من الثروة وارتفاع نسبة القراءة والكتابة، بالإضافة إلى تحسين المواصلات وسيادة الأمن والاستقرار السياسي”. ويضيف: عدّت أسرة توكوغارا أن التعليم أداة فاعلة لنشر التعاليم الكونفوشيوسية (…) وهدفت السياسة التعليمية إلى التركيز على الجانب القيمي والأخلاقي وترسيخ مبادئ الفلسفة الكونفوشيوسية (…) وبرز في منتصف القرن الثامن عشر تيار قومي يركز على الثقافة المحلية والقومية اليابانية، ويدعو إلى إعطائهما الأولوية في مجال التدريس (…) وبلغت دور النشر في آخر عصر توكوغارا زهاء 3000 دار، وتحررت المطبوعات من هيمنة الموضوعات الدينية (…) وإن متوسط ماكان يطبع من العناوين يراوح بين 400 و600 عنوانًا سنويًا (…) وشكلت المكتبات ومحلات الإعارة الخاصة عنصرًا آخر ساهم بشكل كبير في رواج الكتاب وتداوله”.

يقول الكاتب: “تبلور الفهم العلمي وحب المعرفة وانتشارها المجتمعي، في تواصل أعداد مهمة من العلماء والباحثين اليابانيين مع الألمان في جلسات علمية، وتعلموا اللغة الألمانية، وترجموا إلى اليابانية عددًا من مستجدات البحوث العلمية (…) ما سمح بتطور بارز في عدد من التخصصات العلمية والانفتاح على حقول معرفية وتقنية متنوعة (…) ومن أهم المشروعات التي أقدمت عليها سلكات توكوغاوا في التعرف على ثقافة الغرب، هو خطوة مأسسة مشروع الترجمة عام 1811م”. ويستشهد الكاتب بما أورده الباحث محمد أعفيف بقوله: إن جهد الرعيل الأول من دعاة الأخذ بثقافة الغرب قد أثمرت، وكان من نتائجها إنشاء معاهد خاصة بالدراسات الهولندية (…) وكان تأثيرها بالغًا، ففيها تخرج كثير من رواد الإصلاح وزعماء حركة “الميجي” (…) فهذه المعاهد اتسمت بحرية البحث والانفتاح على الآخر وثقافته، وكان اليابانيون بفضلها في نهاية القرن الثامن عشر أكثر الشعوب القريبة من أوروبا اطلاعًا على الثقافة الغربية

أولًا: جدلية الانفتاح والانغلاق في الثقافة اليابانية

يقول الكاتب: إن تفاعل البيئة والإنسان والمجال، أكسب اليابانيين تفردًا وارتباطًا قويًا بالمجال، وصل إلى حد التقديس، وخلق ملامح الشحصية اليابانية (…) وساهم التجانس الثقافي والعرقي -بوساطة لغة متفردة ومعتقد ديني يقدس الإمبراطور ويسترضي الطبيعة- في استنبات ثقافة قومية ذات ملامح قوية يصعب محوها، فهي ثقافة تنفتح على الآخر، غير أنها تنتقي وتستوعب ما تراه ملائمًا لها من أصالتها (…) فمن الصين أخذوا البوذية وتعاليم الكونفوشيوسية ورموز الكتابة ونظم الإدارة والحكم وفنون الشعر والعمارة والرسم (…) وإن حدود تعاملها معها كان في حدود الاستفادة العملية (…) ولم يكن اليابانيون مقلدين أو مستهلكين، بل أعادوا إنتاج ما أخذوه ومنحوه صبغة محلية متميزة تكاد تتفوق على الأصل (…) وبرهنت الثقافة اليابانية في القرن الثامن عشر على حيويتها؛ إذ كانت الأساس لتيار قومي يدعو إلى التخلي عن الثقافة الصينية وإحياء القيم الأصلية التي شكلت جوهر إصلاحات الميجي.

“لقد شكل الانفتاح الياباني على الثقافة الصينية في فترة مبكرة، وانفتاحهم على الثقافة الغربية في فترة قريبة، تجربتين في تاريخ اليابان، ففي أواخر القرن السادس عشر، تطلع اليابانيون إلى الصين ونهلوا من معارفها ومعتقداتها وفلسفتها لينسجوا على منوالها حضارة تكاد تضاهي الأصل. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تطلعوا إلى الغرب واستفادوا من خبراته التقنية والعلمية والعسكرية”.

ثانيًا: دور العزلة الطوعية في نهضة اليابان

يزعم الكاتب أن خصوصية التجربة اليابانية تكمن في إحساس اليابانيين المبكر بخطر التدخل الخارجي، بعد أن نصّر مبشرون مسيحيون ما يزيد على 300 ألف ياباني، وهي نسبة مهمة قياسًا بسكان اليابان قليلي العدد في مطلع القرن السابع عشر “اتخذت اليابان قرارًا بتصفية الركائز المحلية التي بناها الغرب في اليابان طوال ما يقارب قرنًا من الزمن 1543-1637م والدخول في عزلة طوعية لحماية اليابان من مخاطر غزو خارجي (…) ومُنعت الإرساليات الأجنبية عن العمل في اليابان ومنع تصدير الأسلحة اليابانية إلى الخارج (…) ومنعت الديانة المسيحية نهائيًا في اليابان (…) ومنعت اللغات الأجنبية وعدم ترجمة نصوص منها إلى اليابانية (…) وشهدت مرحلة العزلة الطوعية عن العالم الخارجي 1637-1853 ولادة تطور الوحدة السياسية والإدارية القومية في اليابان (…) وسمحت لها تلك العزلة بتطوير قواها الذاتية وتصليب وحدتها القومية وتنمية ثقافتها الخاصة.

يضيف الكاتب: شهدت مرحلة توكوغارا تحولات مهمة على مختلف الصعد، تبلور خلالها كثير من الإيجابيات بصورتها الجنينية التي ستصبح القاعدة الأساسية للفكر السياسي الياباني في مرحلة النهضة الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ تخلى أغلب حكام المقاطعات عن نزعتهم الانفصالية وخضعوا طوعًا للسلطة المركزية.

يشير الكاتب إلى خاصية “نقص الموارد الطبيعية في اليابان” وكيف كان لها الفضل الأكبر في توجه الإدارة إلى الاستثمار في الإنسان بوصفه القاعدة الصلبة لكل إصلاح وتغيير إيجابي يهدف إلى تدارك الفجوة الحضارية مع الغرب. ويؤكد أن هذا الخيار “ساعد في تجانس المجتمع الياباني وتلاحمه اجتماعيًا، وخلوه إلى حد بعيد من عناصر التوتر الداخلي التي تقطع الطريق على التغيير الدائم بوتيرة متصاعدة

مراجعة: فادي كحلوس

-2-

الفصل الثاني: أسس النهضة اليابانية، ثورة الإصلاحات في عهد الميجي

“وجه الكومندور الأميركي “بيري” إنذارًا إلى اليابانيين عام 1853 قضى بفتح الموانئ اليابانية أمام الملاحة الدولية، وشكلت هذه الاتفاقية مع اتفاقيات أخرى مع كل من هولندا وروسيا وبريطانيا وفرنسا انتقاصًا من السيادة اليابانية، وأجبرتها على التخلي عن سياسة العزلة، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن الضغوط والشروط التي أملاها المفاوضون الغربيون سلبية في نتائجها على مستقبل اليابان؛ فقد حركت المفكرين اليابانيين، ودعتهم إلى التفكير ببديل ممكن، يجنب اليابان الاستسلام للقوى الغربية (…) فعملوا على تصليب الجبهة الداخلية وتماسكها بحيث تعجز القوى الأجنبية عن اختراقها، وكانت أولى الخطوات العملية، إنهاء حكم أسرة توكوغاوا سلميًا (…) والالتفاف حول الإمبراطور الميجي، والاشتغال الجدي لبناء مجتمع عصري قادر على المجابهة على جميع الصعد: العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية.

ويعدد الكاتب ميزات مرحلة حكم الميجي أو ما عرف بإعلان مبادئ الإصلاح الخمسة في آذار/ مارس 1868:

    يجب أن تتخذ القرارات والتدابير مناقشة جماعية للدفاع عن المصلحة العامة.

    لا فرق بين أعلى وأدنى في اليابان، بل الجميع متساوون، مع المحافظة بدقة على التراتبية الاجتماعية.

    ضرورة توحد السلطتين العسكرية والمدنية في يد واحدة لحماية حقوق الطبقات كلها والمصلحة القومية العليا.

    التخلي عن التقاليد الشكلية القديمة، والعمل على بروز المساواة بين الجميع.

    السعي لاكتساب تعليم عصري من أي مكان في العالم، واستخدامه لبناء ركائز الإمبراطورية اليابانية.

    ليجري بعد ذلك إلغاء مفهوم المقاطعات، وظهور البرلمان، وعرفت البلاد الدستور القومي على غرار الدستور الذي أدخله بسمارك في ألمانيا سنة 1889، وفُرض التعليم الإجباري عام 1872، بعد صدور قانون مماثل في إنكلترا بعامين فقط، رافق ذلك إصلاحًا زراعيًا، وتشييدًا للجامعات، وقانون صحافة، وقانون تنظيم الاجتماعات والجمعيات وغيرها. أي إن اليابانيين في أثناء نهضتهم لم يعتمدوا نموذجًا سياسيًا واحدًا ومقتبسًا من دولة غربية واحدة، تلاها إصدار الإمبراطور الميجي وثيقة “أوات” الخمسة التي نصت على تأسيس مجلس تمثيلي، وضمان حرية الرأي والعمل والتجمع، وإلغاء التقاليد الطبيعية الموروثة تدريجيًا، وتنشيط العمل الثقافي، وقد عبّر الدستور الجديد عن جمعه بين التقاليد اليابانية والحداثة الغربية.

    حول المحاور الأساسية التي ركز دعاة الإصلاح اليابانيون عليها، يقول الكاتب: “بناء جيش عصري، وإحداث تغيير جذري في قوى الإنتاج وعلاقاته، والحفاظ على الهوية اليابانية”. “فالأفكار التنويرية في فترة الميجي حرصت على تطوير القاعدة الاقتصادية والتكنولوجية، وبالمقابل حصّنت الشعب من التغريب والتفكك القيمي” فكان شعار النهضة الجديد: “التكنيك غربي، أما الروح فيابانية”.

    أما عن تحصين الهوية اليابانية وضمان تلاحمها، والمحافظة على الروح القومية عند الشعب الياباني، يقول الكاتب: ظهرت “الكوكوتاي” بوصفها أيديولوجية قومية متشددة، تجلت في تماهي الأمة والعائلة والدولة. والإمبراطور هو رمز وحدة اليابانيين (…) وذم كل أشكال الدعوة إلى الطائفية أو التجزئة أو التناحر داخل المجتمع (…) وحق التعلم حق مقدس للجميع.

أولًا: المعرفة أساس النهضة والتحرر

“مثّل الرهان على الجانب المعرفي في البناء الحضاري أحد مرتكزات نهضة اليابان الأولى، وفي سبيل استمرار ذلك، يوضّح الكاتب: انطلق رواد الإصلاح من الحاجة الملحة إلى تطوير النظام التعليمي الياباني ليواكب مستجدات العصر ومناهجه، مستحضرين الخبرة الحضارية التاريخية المراكمة في مرحلة توكوغاوا، لكنهم سعوا لتجاوز منطقها المنغلق على الذات، وفي الوقت ذاته عدم إحداث قطيعة مع التراث الثقافي الياباني (…) أي التجديد الجذري في المضامين والمناهج والأشكال من دون السقوط في التقليد الغبي، أو استنساخ التجارب الفاشلة أو التغريب الاستلابي تجاه الآخر”. ويضيف: “إن توجهات السياسة التعليمية كانت تشدد على نشر الروح الوطنية والمحافظة على الهوية وترسيخ التقاليد النافعة”. ويسوق الكاتب نموذجًا متمثلًا في قطاع الحرير، لملاحظة العلاقة العضوية بين انتشار القراءة والمعرفة وحركة الإنتاج الاقتصادي، فيقول: طبعت 3000 نسخة من كتاب يتحدث عن إنتاج الحرير الخام، فازدهرت أدبيات الزراعة، والنتيجة كانت تصنيف المحصولات اليابانية من بين أغلى المحصولات في العالم.

يقول الكاتب: أيقنت القرى اليابانية أن الأخذ بأسباب التقدم، والحرص على نهضة الأمة اليابانية، أن ذلك خيار لا رجعة فيه، فازداد إقبال طبقة المزارعين الأثرياء على التعليم (…) فأصبحت الحالة الثقافية السائدة بين الجمعيات اليابانية التي كان أعضاؤها من المزارعين الأثرياء والتجار (…) وقد تحولت تلك الجمعيات إلى مراكز تطالب الحكومة بمنح الشعب حقوقه، وتعمل على قيام ثورة فكرية (…) وشمل نشاط تلك الجمعيات الاعتماد على النفس في الدراسة والتدريب على الفكر الغربي المعاصر الذي تمثّلت فيه المناقشة المتبادلة وتبادل المثقفين في المدن للأفكار في ما بينهم وندوات القراءة المنتظمة وإلقاء الخطب حول الآداب والعلوم، وعقد الاجتماعات السياسية. وقد اتخذ الناس زمام المبادرة للقيام بذلك النشاط، فلم يعتمدوا على دعم حكومي لهم. وعن ذلك يقول الباحث “فرانك” معلقًا: هزت التغييرات الثقافية كل ركن من أركان المجتمع الياباني، وكان وقع التغييرات الثقافية على اليابان يماثل وقع عصر الاكتشافات والتنوير في أوروبا.

“عندما سئل إمبراطور اليابان عن أهم أسباب تقدم دولته في هذا الوقت القصير قال: بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير”. ففي هذه المرحلة اعتمدت النهضة العلمية باليابان على ثلاثة أسس رئيسة، يفندها الكاتب على النحور الآتي:

1- الاستعانة بالعلماء والمعلمين الأوروبيين، ودعوة الخبراء الفنيين من كل الدول المتقدمة.

2- ترجمة الكتب إلى اللغة اليابانية، وإنشاء المدارس الحديثة، ومن أهم الكتب المترجمة: مؤلفات جان جاك روسو وهيوم وتولستوي وغيرهم من كبار المفكرين العالميين الذين ساعدت أفكارهم في زيادة وعي اليابانيين بأحوال العالم.

3- إرسال البعثات إلى الدول الأوروبية المتقدمة من أجل العلوم الحديثة.

ثانيُا: منهج استنبات التكنولوجيا والاستفادة من الغرب

“أدخلت اليابان العلوم والتقنية الغربية على مرحلتين:

الأولى: عن طريق البضائع التامة الصنع، لتستبدل في ما بعد كونها تورث التبعية، وانتقلت إلى الاستنبات، عن طريق إعادة إنتاجها (وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تفكيك قطار كامل، صُنع في أميركا، بعد تسلمه مباشرة، وصناعة آخر شبيهًا له.

الثانية: أسبقية التقنية الحربية على التقنيات الأخرى المختلفة في دخولها إلى اليابان (المدافع والسفن الحربية) وقد بدأت عمليات التصنيع الرئيسة في اليابان بالصناعات التقليدية.

ثالثًا: الإنسان الياباني فاعلًا في النهضة وحاملًا للمعنى

يقول الكاتب هنا: إن أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته (…) فجوهر التجربة اليابانية هو الارتكاز على الإنسان (…) واليابانيون جماعة منتجة ظلت منذ فجر تاريخها تشترط لاستمرارها وتفوقها وتقدمها أن: كل يد ينبغي أن تعمل.

الفصل الثالث: رهانات التفكير في النموذج الياباني

يقول الكاتب: قدّم باحثون يابانيون تفسيرًا لسيرورة التحديث في اليابان، ومن الأمثلة الواردة في الكتاب: “تتضح العلاقة بين التحديث من حيث هو اقتباس لعلوم الغرب العصرية، والحداثة من حيث هي استيعاب للعلوم العصرية، والمشاركة في الإبداع فيها على المستوى الكوني (…) فاليابان لم تتخل عن تراثها الثقافي التقليدي (…) واستفادت من مقولات فلسفية ونظم غربية متنوعة، لكنها لم تتبنها كما هي، بل اختارت منها ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني فقط”.

أولًا: في الوعي الحضاري بشروط النهضة

يستحضر الكاتب هنا، خلفية مالك بن نبي الفكرية والحضارية الحاملة أسئلة ثقيلة ومركبة في طرحها لسؤال النهضة، ومما ذكره في هذا الشأن:

“دعوة مالك بن نبي إلى ضرورة إرجاع المشكلات الحضارية إلى أساسها الفكري أولًا، ثم إلى محيطها الثقافي ثانيًا”.

“الفرق الشاسع بين تعامل الإنسان العربي مع الغرب، وتعامل الإنسان الياباني معه، حيث إنه ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية من دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان هويته والسقوط في التبعية”.

    “اليابان وقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، إنه استورد منها الأفكار ونحن استوردنا الأشياء”.

“إن الأفكار بوصفها خبرة حضارية جماعية قائمة على شكل بنية جماعية عقلية ونفسية، تجعل المجتمع يبني الهيكل المادي للحضارة، حتى لو تعرضت للتدمير بعد كارثة، وهذا ينطبق على المجتمع الياباني الذي خرج بعد الحرب العالمية الثانية مُدمرًا (…) فأصبح اليابان في حالة عوز هائل في الأشياء، ولكنه ظل غنيًا بالأفكار”.

“المشكل لا يكمن في طبيعة العلاقة بالثقافة الغربية بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها”.

“يمكن تفسير الاهتمام الأسمى بالنسبة إلى الفرد، على أنه علاقة عضوية تربطه بعالم الأفكار وعالم الأشياء، فإذا ما انعدمت هذه العلاقة، لم تعد للفرد سيطرة لا على الأفكار ولا على الأشياء، فهو يمر بها من دون أن يتصل بكيانها، ويتعلق بظزاهر الأشياء من دون أن يتعمقها، ويلم بالأفكار بعض إلمام من دون أن يتعرف إليها. وهذا الاتصال السطحي لا يؤدي مطلقًا إلى إثارة سؤال، ولا يخلق أبدًا مشكلة، لقد استنطق نيوتن التفاحة، لأن اهتمامه الأسمى قد تعلق بها، بينما لو حدث ذلك قبل نيوتن بألف سنة مثلًا، فمن أبسط الأشياء أن تُلتهم التفاحة، لأن الاهتمام الأسمى آنئذٍ غير موجود بالمجتمع الإنكليزي”.

“إن الثقافة في مهمتها، أسلوب حضارة، تحرك الإنسان ووسائله عبر القنوات الأربع: المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي والمنطق العملي، ومن ثم فمسيرة الحضارة تمضي بالمجتمع صعودًا وهبوطًا، تبعًا لدرجة تمحوره حول الأفكار أو الأشياء المحيطة به”.

ثانيًا: الثقافة والقيم في معركة النهوض

يقول الكاتب: لقد نهضت اليابان على أسس ثقافية تكاد تكون مخالفة للمسلمات الثقافية الغربية، فهذا المعطى يحيل على أهمية استصحاب البعد الثقافي في التفسير والتحليل داخل هذه التجربة في مستويين؛ الأول: أن هناك أنماط سلوكية عامة تؤثر في طبيعة التنمية بمفهومها الحضاري وطبيعة أهدافها النهائية، والثاني: أن إدراك شرط انسجام التنمية مع المناخ الثقافي أمر حيوي، فهذه الملاءمة هي التي تضمن النجاح على المدى البعيد. ويؤكد الكاتب: إذا لم تتأسس النهضة اليابانية بتدمير البنى التقليدية أو عبر التخلي عن القيم الثقافية الخاصة، بل على العكس، جرى توظيفها وتفعيلها في بناء أسس النهوض، فالأفراد وإنتاجيتهم، والمال وطرائق استثماره، والتقنية وفن استعمالها، والتعليم ومدى عمقه وشموله، والقانون والارتياح إليه، والقدرة على إنفاذه، هذه العوامل كلها تستنشق أثيرًا ثقافيًا يوجّه عمليتي التفكير والترابط اللتين تسمحان بالوجود المجتمعي أصلًا وترشد فعل النهضة الحضاري.

يكثّف الكاتب فكرة هذا الفصل من الكتاب بقوله: إن كل تفكير في مشكلة الإنسان، هو تفكير في مشكلة الحضارة، وكل تفكير في مشكلة الحضارة، هو في الأساس تفكير في مشكلة الثقافة، بوصف الحضارة في جوهرها مجموعة من القيم الثقافية المحققة، وإذا أردنا للنهضة أن تبرز إلى عالم الوجود، فعلينا أن نواجه مشكلة الثقافة في أصولها، فالإنسان هو العنصر الأساسي الذي يحدد مضمون المعادلة الحضارية من خلال حركيته وفاعليته، وهذه المعادلة هي خلاصة ثقافة يتشربها الإنسان في محيطه الاجتماعي الذي يكثّف وجوده.

يختم الكاتب فصل كتابه هذا بالقول: تقدم اليابان نموذجًا بالغ الدلالة بخصوص تجاوز منطق الاستهلاك التكنولوجي إلى الإبداع والإنتاج والريادة (…) وليس الغرض من التفكير في النموذج الياباني السعي إلى تعميمه ونقله، ولكنه مؤشر على دور الإدارة والقدرة الذاتية في مواكبة التقدم وبناء نموذج فريد ومبدع وفق الشروط الثقافية والحضارية الخاصة.

على سبيل الختام: آفاق التفكير في النموذج النهضوي “إن الأزمة الحضارية التي ما يزال يشهدها العالم العربي الراهن، المتجلية في التخلف الحضاري والفكري والثقافي، المنعكسة على باقي المجالات الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية، تعود في جزء منها إلى النظام المعرفي والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة، فهذا المرض الثقافي ليس وليد اليوم، بل حصيلة تراكمية عبر قرون، قد أورثت العقل العربي المعاصر مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه إعمال الوظيفة النقلية، حيث نتج من حرمان العقل من الطاقة النقدية والتحريرية، تحوله إلى حاوٍ فوضوي في تحشيد المعلومات بدلًا من تشكيل عقلية ذات نسق وتركيب معرفي، فتوقفت الوظيفة التحليلية والتركيبية والوظيفة النقدية للعقل، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي. مراجعة: فادي كحلوس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 5 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube