بقيت أشهر قليلة فقط قبل أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رسميا. وإلى حد الساعة؛ تناول النقاش بشكل أساسي الجانب الاقتصادي لهذا الانسحاب. إذ في حال مغادرة بريطانيا المجموعة دون اتفاق متبادل، من المحتمل أن يكونالضرر كبيرا. وكما يبدو عليه الأمر؛ فإن هذه الاتفاقية أبعد من أن تكونمؤكدة. إن الانسحاب “الصارم” لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعني أنه في يوم 29مارس/آذار 2019 (على تمام الساعة 11 ليلا بتوقيت غرينيتش)، ستُنهي بريطانياعضويتها في جميع المعاهدات -مثل الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة- والاتفاقيات التجارية الدولية التي عقدها الاتحاد الأوروبي. ستصبح بريطانيا طرفا ثالثا فقط، مما سيكون له انعكاسات بعيدة المدى علىالاتحاد الأوروبي، خاصة في حال حدوث فوضى على الحدود البريطانية. لكن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي ستكون له انعكاسات سياسية بعيدةالمدى أيضا. إذ يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي -بشكل كبير- على أنه سوق مشتركةواتحاد جمركي فيما يتعلق بقضاياه اليومية. لكنه -في الجوهر- مشروع سياسيمبني على فكرة خاصة بشأن النظام الأوروبي ودوله. وهذه الفكرة -وليس الجانب الاقتصادي للقضية- هي المعنى الحقيقي للبريكست (انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). وهي الفكرة التي تفسر لماذا سيكونلخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيتأثير عميق على النظام الأوروبي خلالالقرن الواحد والعشرين، سواء تم ذلك الخروج بموجب اتفاق أم لا. ” إن الأغلبية القليلة من البريطانيين -الذين “صوتوا” خلال استفتاء 2016- لم يعيروا اهتماما للرفاه الاقتصادي، بل ما كان يهمهم هو المطالبةبالسيادة السياسية الكاملة. فهم لا يرون السيادة من ناحية الوقائعالموضوعية المتعلقة بحاضر بريطانيا ومستقبله، بل يربطونها بماضي بريطانياكقوة عالمية خلال القرن التاسع عشر. ولذلك فإنهم لا يأبهون لما إن كانت بريطانيا اليوم قوة أوروبية متوسطةالحجم، ولديها حظوظ قليلة إلى منعدمة في أن تلعب دورها من جديد على المستوىالعالمي، سواء أكان ذلك داخل الاتحاد الأوروبي أم خارجه. وإذا كان ولا بد لباقي دول العالم أن تتبع النموذج البريطاني وأن تختارالقرن التاسع عشر بدل القرن العشرين؛ فإن الاتحاد الأوروبي سينهار. إذسيضطر كل بلد إلى العودة للنظام المعقد للدول ذات السيادة، التي تسعى إلىالهيمنة وتراقب بشكل مستمر طموح بعضها البعض. وفي ظل مثل هذه الظروف؛ ستفتقر الدول الأوروبية إلى السلطة الحقيقية أياكانت، وبالتالي فإنها ستنسحب من الساحة الدولية بشكل نهائي. وستحتار أوروبابين انتمائها عبر الأطلسي والأوروآسيوي، مما سيجعلها فريسة سهلة للقوىالكبرى للقرن الواحد والعشرين الخارجة عن الاتحاد الأوروبي. وفي أسوأ السيناريوهات؛ قد تكون أوروبا حلبة صراع للقوى الكبرى. ولن يصبحبوسع الأوروبيين اتخاذ قرارات بشأن مستقبلهم؛ بل سيقَرَّر مصيرُهُم في مكانآخر. إن النظام الأوروبي القديم والمتدهور للقرن التاسع عشر كان في الأصل نتيجةللحرب التي دامت ثلاثين سنة (1618 – 1648). وكان نظام القرون الوسطى -الذيسبقه وكان مبنيا على الكنيسة والإمبراطورية العالميتيْن- قد اندثر خلالحركة الإصلاح الديني. وبعد سلسلة من الحروب الدينية وبعد بناء قوى إقليميةقوية؛ حل مكانه “النظام الويستفالي” للدول ذات السيادة. وخلال القرون القليلة التي تلت هذا النظام؛ سيطرت أوروبا على العالم، وكانتبريطانيا بنفسها القوة الأوروبية المهيمنة. إلا أن النظام الويستفاليانهار بسبب الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، واللتينكانتا -في حقيقة الأمر- حربين أوروبيتين من أجل الهيمنة العالمية. وعندما توقف إطلاق النار (في الحرب العالمية الثانية) عام 1945؛ فقدالأوروبيون -حتى من حقق النصر منهم- سيادتهم بشكل فعلي. وحل النظام الثنائيالقطب للحرب الباردة محل النظام الويستفالي، حيث بقيت السيادة في أيديالقوتين النوويتين غير الأوروبيتين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحادالسوفياتي. لقد كان يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي كمحاولة لاسترداد السيادة الأوروبيةبشكل سلمي، عبر توحيد المصالح الوطنية للدول الأوروبية. وكانت هذه الجهودتهدف دائما لمنع الرجوع إلى النظام القديم، المبني على المنافسة على السلطةوالتحالف المتبادل وتوجيه الضربات القوية. والحل الناجح يتجلى في تأسيسنظام قاري مبني على الاندماج الاقتصادي والسياسي والقانوني. وأظهر انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بوضوح الانعكاسات المادية لهذاالمستوى من الاندماج. إذ أثناء مفاوضات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، عادمشكل قديم إلى الواجهة: إنها القضية الإيرلندية. إذ فور انضمام الجمهورية الإيرلندية وبريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، تلاشىالحماس من أجل لَمِّ شمل إيرلندا، ومكّن هذا من وقف الحرب الأهلية بينالكاثوليك والبروتستانت التي دامت عقودا عدة. وكان الاندماج الأوروبي يعني أنه لم يعد مهمًّا تحديد البلد الذي تنتميإليه إيرلندا الشمالية. لكن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قلَبالتاريخ، مما يهدد بعودة أشباح الماضي. يجب على الأوروبيين النظر في القضية الإيرلندية عن قرب، لأن هناك احتمالالرجوع مثل هذه الصراعات إلى القارة. إن نظاما جديدا بدأ يظهر، وسيرتكز حولالمحيط الهادئ وليس المحيط الأطلسي. إن لدى أوروبا فرصة واحدة -فقط واحدة- لإدارة هذا التحول التاريخي. ولنتستطيع الدول القومية الأوروبية القديمة أن تواكب المنافسة الجديدة إلا إنتوحَّدت. وحتى إن حصل هذا؛ فإن تحقيق السيادة الأوروبية أمر سيحتاج إلى بذلجهود مكثفة ومركزة للإرادة والإبداع السياسييْن. إن الحنين إلى الماضي المجيد هو آخر شيء سيساعد الأوروبيين على مواجهةالتحديات التي تقف في طريقهم. لقد انتهى الماضي.. وهذا أمر طبيعي. يجب علىأوروبا أن تنظر إلى مستقبلها، سواء كان ذلك مع بريطانيا أو بدونها.
الحياة