https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

 يعد المفكر الروسي الكسندر دوغين ، احد الشخصيات المؤثرة على نهج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين . ولاتاحة المجال للتعرف على اراء دوغين ، ننشر اليوم مادتين ، الاولى هي عرض  لافكار دوغين اعده نافذ أبو حسنة  الباحث في مركز الدراسات السياسية الجزائري ،والثانية هي تلخيص لمضمون  مقابلتين اجرتهما مع دوغين قناة  الجزيرة ، حيث يعرض دوغين  نفسه الافكار التي يروج لها وتأثيرها على الرئيس بوتين .

 -1-

ألكسندر دوغين والنظرية الرابعة

مع انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية مطلع تسعينيات القرن الماضي، سقطت الثنائية التي قسمت العالم إلى قسمين على أساس النظرية السياسية والاقتصادية، حيث سادت لعقود ثنائية الرأسمالية/ الاشتراكية الشيوعية. ورغم محاولات عدة لاختراق هذه الثنائية باسم “النظرية الثالثة” على غرار “هواسات” الزعيم الليبي “معمر القذافي” في أطروحات “الكتاب الأخضر”، وعلى غرار التنويعات على النظريتين مثل القول بالاشتراكية الديمقراطية وغير ذلك من الطروحات، فقد ظلت الهيمنة قائمة لتلك الثنائية، مع أن هناك من يحتسب النظريات “القومية” والقومية المتطرفة مثل: الفاشية والنازية، بوصفها “نظرية ثالثة”.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه النظرية الاشتراكية الشيوعية، كان هناك من قرر الاحتفال في الغرب معتبراً ذلك السقوط انتصاراً نهائياً للرأسمالية (أو اللبرالية) فوضع المفكر الأمريكي من أصل ياباني “فرانسيس فوكوياما” كتابه الشهير: “نهاية التاريخ”. ورأى مفكر أمريكي آخر هو “صامويل هانتغتون” أن سقوط الشيوعية لا يعني انتهاء الصراع، وبشر تالياً بما أسماه “صدام الحضارات”، وباستمرار الصراع على أساس التصادم بين الشرق والغرب.

واقع الحال أن الرأسمالية المنتصرة كانت تواظب على تعيين عدو جديد، وهي تنفرد بقيادة العالم وفق ما عرف بـ “النظام العالمي الجديد” الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي في حينه “جورج بوش الأب”. وذهب العديد من مفكريها إلى اعتبار “الإسلام عدواً”، في حين رأى آخرون أن الأخطار قادمة من الصين، وأن الخطر الروسي لم يقوض تماماً.

بالمقابل ثمة من رأى أن من المبكر الاحتفال بالانتصار الحاسم للرأسمالية واللبرالية. كما أن فكرة القطبية الأحادية لن تنجح في قيادة العالم، ولن تجلب أمناً ولا استقراراً، بل ستقوي النزعة العدوانية، وتزيد من المخاطر على الأمم الصغيرة.

لكنه ومع النقد الحاد للرأسمالية في نسختها “النيوليبرالية” ولسياسات العولمة، وللقطبية الأحادية أيضاً، لم يجر إنتاج مكافئ نظري يمتلك القوة الكافية للتعميم، ولأن يصبح نداً يعيد العالم إلى الثنائية التقليدية. ويبدو أن إيجاد هذا المكافئ النظري، هو ما يحاوله المفكر الروسي “ألكسندر دوغين” في طرحه لـ “النظرية السياسية الرابعة”.

من هو ألكسندر دوغين؟

 هو سياسي و فيلسوف وباحث سياسي واجتماعي روسي، ومؤسس للمذهب الأوراسي الجديد. ويتجه نشاطه السياسي نحو استحداث إقامة دولة روسية عظمى عن طريق التكامل مع الجمهوريات السوفيتية السابقة، وبالدرجة الأولى الأقاليم التي ينطق أهاليها اللغة الروسية مثل القرم وأوكرانيا الشرقية.

ولد “دوغين” في عائلة عسكرية في يناير 1962، وكان والده ضابطاً كبيراً في “الاستخبارات العسكرية السوفياتية” في هيئة الأركان العامة. ودرس في معهد موسكو للطيران. لكنه لم يكمل دراسته فيه لأسباب سياسية. ودافع فيما بعد عن أطروحة الفلسفة ليحوز على درجة الدكتوراه في الفلسفة ، كما دافع فيما بعد عن أطروحة العلوم السياسية لينال درجة دكتوراه الدولة في العلوم السياسية. وعمل دوغين بتوصية من والده في قسم الوثائق الروسية في “الكي جي بي” ونتيجة لاطلاعه ودراسته لهذه الوثائق التي لم يعلم بوجودها سوى قلة قليلة من الناس، استطاع البحث والتحقيق في الفاشية والأوراسية والنظريات المختلفة، ويكوّن آراءً بشأنها.

وكان يمارس في ثمانينات القرن الماضي نشاطاً معارضاً للسلطة السوفيتية. وانخرط في بعض التنظيمات ذات الطابع القومي بما فيها جبهة ” باميات” (الذاكرة) التي ترأسها الناشط القومي دميتري “فاسيليف”.

إلا أن انهيار الاتحاد السوفيتي غيّر موقفه من النظام السوفيتي والشيوعية، بشكل جذري وبدأ يصف هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، بأنها انتصار لحضارة البحرعلى حضارة اليابسة من وجهة النظر الجيوسياسية، وعاد الى فلسفة البلشفة الوطنية والميتافيزيقية الشيوعية والمذهب الاوراسي.

وشارك دوغين في اكتوبر/تشرين الاول عام 1993 في الانتفاضة الشعبية ضد نظام الرئيس الروسي “بوريس يلتسين” واصفاً هزيمة البرلمان بأنها مأساة شخصية له، الأمر الذي حمله على تولي مبادرة تأسيس “الحزب البلشفي القومي” المعارض لـ “يلتسين” الذي كان يمارس آنذاك سياسة الموالاة لأمريكا واتباع القيم الليبيرالية. وحينذاك أيده “إدوارد ليمونوف” الكاتب الطليعي والمنشق والسياسي المعارض المعروف. وشارك “دوغين” في نشر عدّة منشورات، وواصل نشاطاته السياسية عن طريق ذلك. وكان واحداً من الذين ساهموا في كتابة النظام الأساسي للحزب الشيوعي في الاتحاد الروسي، الذي دبّت فيه روح جديدة تحت قيادة السياسي الشيوعي “غينادي زوغانوف”. وكان نتاج هذا النظام الأساسي ذا لهجة قومية أكثر منها ماركسية. حيث اتصفت المقالات التي كتبها بالروح الشاعرية والميتافيزيقية القوية. كما واصل اهتمامه بالمذهب الأرثوذكسي القديم إلى الاقتناع بحقيقة التوحيد وضرورة النهوض بالتقاليد الأرثوذكسية القديمة، في إطار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المعاصرة.

وفي عام 1998 انسحب “دوغين” من الحزب البلشفي لأسباب أيديولوجية، وأصبح مستشاراً لرئيس مجلس الدوما الروسي آنذاك “غينادي سيليزنيوف”، وتولى رئاسة “مركز التجربة الجيوسياسية ومجلس الأمن القومي” لدى رئيس مجلس الدوما. وبدأ “دوغين” في الوقت نفسه بإلقاء محاضرات في الموضوع الجيوسياسي في هيئة الأركان العامة الروسية.

بعد تولي فلاديمير بوتين السلطة في روسيا بدأت مرحلة جديدة في نشاط “دوغين” السياسي حين انتقل من معسكر المعارضة الراديكالية إلى معسكر الموالاة للسلطة. وفي مطلع الألفية كان دوغين يدافع عن أفكار “النزعة الأوراسية المحافظة” التي عرضها على السلطة بصفتها قاعدة أيديولوجية للسلطة الروسية الجديدة. وتولى إدارة مذهب جديد، وهو مذهب الأوراسية الجديدة، وألف كتاباً تحت عنوان ” الطريق الأوراسي كفكر وطني”. ومع استقرار الوضع في روسيا عاد “دوغين” إلى الممارسة العلمية، حيث ألقى محاضرات في جامعة موسكو الحكومية تحت عنوان ” مذاهب ما بعد الفلسفة” صدرت فيما بعد في كتاب . وانتقد فيها المفاهيم الفلسفية الرئيسية في إطار 3 تشكيلات تاريخية وهي: تشكيلة ما قبل الحداثة وتشكيلة الحداثة، وتشكيلة ما بعد الحداثة. ولدى حديثه عن مرحلة ما قبل الحداثة، أشار إلى أن فكر الحداثة الذي ولد في أوروبا الغربية، لم يستطع الاستقرار على الأرضية الروسية، حتى في أوساط النخب السياسية والاقتصادية والثقافية. فيما يعيش المجتمع الروسي بجملته مرحلة ما قبل الحداثة.

وألقى دوغين في ديسمبر/كانون الأول عام 2007 محاضرة في موضوع “النظرية السياسية الرابعة” عارض فيها 3 نظريات رئيسية للقرن العشرين: وهي النظرية الليبيرالية والنظرية الشيوعية والنظرية الفاشية، وقال إن روسيا تسير وفقاً للنظرية الرابعة.

يتولى ألكسندر “دوغين” إدارة القسم الدراسي الخاص بالعلوم الاجتماعية الدولية في جامعة موسكو الحكومية، وهو بروفيسور ودكتور في العلوم السياسية. ويجيد 8 لغات أجنبية.

تجري الإشارة غالباً إلى أن “دوغين” هو العقل المدبر لـ “بوتين” على مستوى التفكير السياسي الإستراتيجي حول دور روسيا. وثمة إشارات إلى أن “دوغين” يتولى صوغ أفكار الرئيس. وربما التقى الإثنان في الرؤية حول مجد بلادهما. ولكن ما نريد التأكيد عليه هنا هو أن “نظرية دوغين” تمثل رد فعل على الانهيار السوفياتي، وتراجع الدور الروسي، والذي عاد بقوة الآن، خاصة بعد “حرب القرم” والتدخل الروسي في سوريا.

“النظرية السياسية الرابعة”.

تشكل “الأوراسية الجديدة” مرتكز “نظرية دوغين” الذي يعتبر أن القرن العشرين هو قرن الأيديولوجيات التي فشلت. و “يرى دوغين أنه منذ هزيمة الفاشية والشيوعية وذهابهما فى التاريخ، فان الليبرالية تصول وتجول فى الساحة دون منازع، بل حتى تتظاهر بأنها ليست أيديولوجيه إلى جانب الإيديولوجيات الأخرى، بل هى واحده من مكونات الحياة الانسانيه الطبيعية.. ويعتبر دوغين أنه مع ” فشل المشروع الحداثي الغربي والمصير المأساوي الذي أنتجته أيديولوجياته الثلاث الرئيسية: الليبرالية والشيوعية والفاشية. ولم تستطع حماية الشعوب، أو أن تضمن لها الرفاهية والسلام، فقد أفلست الليبرالية (النظرية الأولى) حين دفعت الإنسان العقلاني إلى الاغتراب والفناء والوهم بعدما فككت مرجعياته. تقود الولايات المتحدة الأمريكية المشروع الليبرالي بنمطه الاحتكاري وتسعى إلى عولمته وفرض معاييره. فهما يلتقيان، حيث يتفق ما تقوم الليبرالية عليه من الفردانية وأن الإنسان معيار كل شيء، مع سيطرة أمريكا باعتبارها مرجعاً للنظام العالمي. ولكن يثبت الوعي النقدي أن قيم الليبرالية زائفة، فالفرد المقدس والحر غدا مع المجتمع الاستهلاكي، عبداً للسوق والسلع، والديمقراطية أصبحت تنتج اللامساواة والاستبداد، لتتحطم بذلك السرديات الكبرى حول العقلانية والتقدم والمساواة”.

لا يقل نقد “دوغين” للنظريتين الأخريين حدة عن نقده لليبرالية، ” ففلسفة اليسار (النظرية الثانية) تشهد تحولات وأزمة في مشروعها ومنطوقاتها الدوغمائية. وينقسم اليساريون عموماً إلى اتجاهات ثلاثة: اليسار القديم، الشيوعية القومية، اليسار الجديد، النيو يسارية، ما بعد الحداثي، وكلها تعاني فقدان مشروع ثوري للمستقبل واكتفت بمطالب لا تختلف عن مطالب الليبراليين: تمثيل أكبر، حرية، حقوق الإنسان، مساواة. أما نسخة اليسار المتطرفة الفاشية (النظرية الثالثة) التي مورست على يد موسوليني ومشروع الاشتركية القومية لهتلر، فهي لم تكن بالفعل نزعة دولاتية، بل كانت اشتراكية بمعنى أنها عملت على تعبئة المكونات الاجتماعية – أحياناً بمنهجية قسرية- لخدمة جهاز الدولة”.

هذه الرؤية النقدية التي تحكم على النظريات الثلاث بالفشل، وبعدم صلاحيتها لروسيا التي مرت من وجهة نظر دوغين” بمرحلتي الشيوعية والليبيرالية . ويتوجب عليها الآن الدخول في مرحلة جديدة تعتمد على رؤية سامية تعم الفضاء الأوراسي الواسع، من شأنها تطبيق فكرة ميتافيزيائية مستحيلة تكمن في تحويل العالم على أسس أخلاقية جديدة وليس على قيم مادية استهلاكية برجوازية”.

وعليه يبدو التأسيس النظري منطلقاً من خصوصية روسيا إلى حد بعيد، وهي التي تمتد أراضيها ما بين القارتين الآسيوية والأوروبية، وتناسبها تماماً فكرة “الفضاء الأوراسي” بما أنها (روسيا) وبحسب “دوغين” “تنتمي إلى الشرق ثقافياً، ويجب أن تقف كزعيم في وجه العالم الأحادي القطب “الغربي – الأمريكي”. وكان قصده مما يسميه أوراسيا، روسيا الكبيرة التي لديها حلفاء بينها إيران وتركيا والصين والهند وبعض الدول في أوروبا الشرقية. ويقول في تعريف الأوراسيا بأنها فلسفة سياسية مع ثلاثة مستويات (خارجية ووسطى وداخلية). فعلى المستوى الخارجي، تشتمل هذه النظرية على عالم متعدد الأقطاب، أي هناك أكثر من مركز دولي لصنع القرار، أحدها الأوراسيا التي تضم روسيا ودول الإتحاد السوفيتي السابق. ويتابع “دوغين”: “الأوراسية على المستوى المتوسط، تقول بالتقاء دول الاتحاد السوفيتي، إلى جانب نموذج عابر للحدود، أي تشكيل دول مستقلة. أمّا على مستوى السياسة الداخلية، فهي تعني تحديد الهيكل السياسي للمجتمع وفقاً للحقوق المدنية، وعلى أساس أقسام من نموذج الليبرالية والقومية”.

هذه المستويات الثلاثة في فلسفة الأوراسية هي التي يتشكل على أساسها نوع واحد من السياسة الخارجية فقط، وهي سياسة مستقلة عن العولمة، والعالم الأحادي القطب والقومية والإمبريالية والليبرالية. ولهذا تعدّ الأوراسية بشكل عام نموذجاً فريداً للسياسة الخارجية.

في القراءة التي قدمها “د سماعين جلة” لكتاب “دوغين” “النظرية السياسية الرابعة” يرى أن المفكر الروسي “يطمح لصياغة فلسفة متعالية هي بمثابة نظرية رابعة تؤمن بعالم متعدد وأخلاقي، عالم يعترف بالشعوب الأخرى وبحريتها بعيداً من قيم المركزية الغربية المفروضة. هو عالم ممكن إذا استطاعت روسيا إنتاج إيديولوجية خاصة بها، وتجسدت السيادة الجيوسياسية لقوى القارة الأوراسية، قوى البر، التي تشكلها كل من روسيا، الصين، إيران، الهند، ضد قوى الأطلسية. ووحدها أيديولوجية بديلة ذات نزعة محافظة ثورية قادرة على قول لا معارضة لخط الزمن التاريخي ومنطقه بعقلانية ومنهجية. وتنطلق من تعزيز ماضي الشعوب لكبح مشروع الحداثة، وإعادة الفرد المستلب إلى الله، وإلى الجماعة وإلى الروح”.

يعارض “دوغين” بحدة نظام العولمة القائم اليوم. ويراها أداة في يد الولايات المتحدة تتيح لها قيادة العالم. ويشدد على قطبية متعددة، مشيراً على نحو دائم إلى المحتوى الإنساني العميق لأوراسيا، والتي يراها نظاما مفتوحاً عولمياً، ولكنه قائم على التعدد، وصيانة الهويات في الوقت عينه.

النظرية السياسية الرابعة في التقييم:

وفق المقاييس النظرية البحته لمفهوم النظرية السياسية، يمكن اعتبار طروحات “دوغين” بمثابة “نظرية سياسية”. ومثلها مثل كل نظرية سياسية، فلها من يؤيدها ولها من يعارضها. ووفق “يفغيني دياكونوف” “ينتقد البعض دوغين ويتهمه باتباع مذهب فاشي . إلا أنه يرفض ذلك قائلاً: إن النظريات الشيوعية والفاشية والليبرالية قد فات أوانها في القرن العشرين. وروسيا تواجه الآن تحديات مرحلة جديدة، أو بالاحرى مرحلة الثورة الروسية الوطنية المحافظة التي تتصف بالجمع بين الأصالة والوفاء للتقاليد والأخلاق الوطنية من جهة، والبرناج الاقتصادي اليساري الذي يقضي بالعدالة الاجتماعية والحد من فوضى السوق والتخلص من عبودية الفوائد وحظر المضاربة في البورصة والاحتكارات، وانتصار العمل النزيه على السعي إلى كسب المال”.

وغير خاف أن تطابق الرؤى بين الرئيس الروسي والمفكر “دوغين” قد جلب مؤيدين كثر للنظرية التي يرى فيها البعض مذهباً سياسياً رسمياً لروسيا. حيث “يحظى الفكر الأيديولوجي الذي يتبعه ألكسندر دوغين بدعم بعض المسؤولين الحكوميين والإعلاميين، وبينهم إيفان ديميدوف المسؤول في الديوان الرئاسي، وميخائيل شيفتشينكو وميخائيل ليونتيف مقدما البرامج في القناتين الأولى والثانية للتلفزيون الحكومي وألكسندر سولونين عميد كلية الفلسفة في جامعة بطرسبورغ الحكومية، إلى جانب ألكسندر بروخانوف رئيس هيئة تحرير صحيفة “زافترا” الذي يصف دوغين بأنه منظر روسي واعد، ونجم صاعد في فلك الفلسفة الروسية يجمع بين التقاليد الروسية ورؤى الحداثة الطليعية، نظراً لأن النزعة الأوراسية ستجند مستقبلاً ألوفاً وألوفاً من الأنصار الحاشدة. اما ألكسندر دوغين فهو برأيه منظر بارز لهذه النزعة المستقبلية”. كما تنال طروحات “دوغين” تأييداً كبيراً من القوى التي تناهض الهيمنة الأمريكية، وتلك التي تطمح إلى عالم متعدد الأقطاب.

ولكن هناك من يوجه نقداً لطروحات المفكر الروسي. “يرى دوغين أن النخبة السياسية هي بنية غير متجانسة تقودها شبكات التجسس الغربية التي تقاطع المبادرات السياسية للقيادة السياسية العليا . وهو يصف الليبيراليين الغربيين والقوميين الراديكاليين بأنهم خصوم رئيسيون له وللدولة الروسية عموماً”.

يسجل د سماعين جلة ملاحظة لافتة على نصوص دوغين أيضاً. ” قبل تحديد موقع روسيا الإستراتيجي، وجب الإشارة إلى أنها يجب أن تعالج تحديات داخلية تخص تمثيل الأصول الاجتماعية والإثنيات المتباينة، والاختيار بين أيديولوجية ليبيرالية أو محافظة، ومعالجة الآثار السلبية للتحديث في هوية المجتمع. من بين التحديات الرئيسية أن جهاز الدولة (اللفياثان) الذي يقوم على التخويف والإخضاع، فقد هيبته وأصبح مجرد شبح، وهو يشتغل من طريق النهب والفساد. عليه، فالحل الأوراسي وفق النظرية السياسية الرابعة يكمن في تشكيل نظام البوليس السري والقمع. نظام جديد هو الذي عرفته روسيا في القرن السادس عشر، وكان له الفضل في تأكيد قوة الحضارة الروسية”. كما يقرر دوغين صاحب النزوع الإمبراطوري “أن صيغة الديمقراطية لا تتوافق مع الإمبراطورية”.

يمكن إجمال جملة من الملاحظات التي وردت في قراءة “د سماعين جلة” لنظرية “دوغين”، وهي المتصلة بأصالة النظرية:

تقوم الأوراسية الجديدة على نظام للقيم، وتجمع حضاري خاص لروسيا. عناصرها: الشعب، الأرض، الأبدية. وفلسفة دوغين حول روسيا والإنسان الروسي تجد جذوراً لها في الثيولوجيا الأرثوذكسية، وترتكز على مفهوم الدزاين كما وضعه هايدغر في مؤلفه الأساسي “الكينونة والزمان”.(..) وبذا تكون النظرية الرابعة وعياً بالوجود الجغرافي والأوراسية معها، التي تعتبر الإنسان الروسي كائناً أنطولوجياً يأخذ كينونته من ذاته، وليس من المرجعية الخارجية الغربية. وعن مفهوم دوغين للأرض يمكن تلمس وفائه للمدرسة العضوية في علم الجيوبوليتيكا حيث يعتبر الفضاء نمطاً للعيش، ويدعو إلى الدفاع عن الحدود الحيوية للأوراسيا.

أما من حيث العنصر الثالث، فهو لا يفهم الأوراسية كجسد منته في الزمن والواقع، بل هي روح أبدية مقدسة، خارجة عنا. إنها، إذا ما استعملنا تعبير السهروردي، جغرافية الذات، وهي قادرة على منح الحرية لهذه الذات.

يدافع دوغين عن تأسيس إمبراطورية تستعيد تأثيرها في المجال ما بعد السوفياتي، وتتطلع إلى إدماج الشعوب القريبة عبر رواية حضارية، وتمتلك روسيا في ذلك الخبرة التاريخية والدبلوماسية من أجل التنسيق بين الإمبراطوريات الجديدة. وهي رؤية تقترب من مواقف اليسارية الجديدة التي تستلهم كتاب الباحثين، أنطونيو نيغري، وميشال هاردت: “الإمبراطورية”.

إن النظرية السياسية الرابعة بوصفها صياغة فلسفية ورؤية جيوسياسية، لن تتجسد على الواقع إلا بتجسيد مشروع الأوراسية الجديدة. يستلهم المؤلف في ذلك أفكار الفيلسوف والحقوقي “كارل شميت” الذي افترض منذ عهد سابق وجود فضاء أمريكي كبير تجب مواجهته بخلق فضاءات كبرى أخرى تسعى إلى تأكيد استقلالها.

على أن ثمة استنتاجات جوهرية، يسجلها “د جلة”، وينقل في بدايتها عن المفكر الفرنسي “آلان سورال” الذي قدم الطبعة الفرنسية لكتاب “دوغين” قوله: ” إن قراءة أفكار دوغين ومشروعه النظري تعد ضرورية، فهي طريقة تشكيل جبهة حلفاء ضد قوى الأطلسية، ومشروع التنمية الذي يشرف عليه الغرب، هي دفاع عن الهامش ضد المركز. وعلى الرغم من أن قراءة المشروع النظري تبدو مركبة ومعقدة، وخلفية منطوقاتها ما بعد حداثية، فبساطتها تأتي من تجسيد فكرة واحدة: مواجهة الهيمنة الأمريكية جيوبوليتيكياً، وقيم الغرب حضارياً. إن تبسيط الخطاب الأوراسي على هذا النحو، يجعله يتجلى ويستوعب في الحياة اليومية كممارسة”.

النظرية (وفق د جلة) ” تبحث حضورية الإنسان الروسي، وهم الوجود في جغرافية الأوراسيا والعالم، فيصبح بذلك بحثاً في الوجود. هنا ما إن صح أن أسميه جيوبوليتيكيا وجودية”.

خلاصة:

تتطلب قراءة نظرية “دوغين” إحاطة بالظروف التي أنتجتها، وعلى نحو يفوق أهمية تلك الإحاطة حين يتعلق الأمر بنظريات سياسية أخرى. ذلك أن طروحات “دوغين” تمثل في جوهرها اعتراضاً على محاولات تهميش روسيا، ورد فعل نظري حاد على النيوليبيرالية، أو ما بات يوصف بالليبرالية المتوحشة، والتي أعلنت انتصارها التام والمطلق، منذ أكثر من عقدين من الزمن. وطبيعي أن من يشكون الهيمنة الغربية، وهم كثر، سيجدون فيها مخرجاً من هيمنة أخذت طابعاً متوحشاً ولم تعد تقيم أي اعتبار لكرامة أمم وشعوب بأكملها.

-2-

 خلاصة مقابلات دوغين مع الجزير

يستعرض المفكر الروسي -الذي يوصف بعقل بوتين- أفكاره ورؤيته للمسار الذي يجب على بلاده أن تنتهجه لمواجهة النفوذ الأميركي على العالم، ويقول إن تصوراته تلتقي مع تصورات رئيسه بوتين خاصة حول القضايا الجيوسياسية، فهو “ينظّر وبوتين يطبق” على أرض الواقع، وإن أفكاره انتشرت بين أوساط القوة في منتصف التسعينيات، وخاصة في الأوساط العسكرية وجهاز الاستخبارات.

وبينما يشيد بالرئيس بوتين، ويقول إن نظامه هو أفضل الأنظمة التي تعاقبت على حكم روسيا، لأنه -وفق المتحدث- يقوم على قيم تقليدية ومجتمع محافظ، يؤكد أن في روسيا اليوم هناك بوتين وهناك دوغين وهناك الشعب.

وتطرق لنشأته وانطلاقته الفلسفية والعلمية التي قال إنه بدأها من خلال تعرفه على حيدر جمال، وهو عالم إسلامي وفيلسوف معروف من أصل أذربيجاني، فضلا عن ميوله السياسية والأيديولوجية، حيث تحول من معارض شرس لنظام بوريس يلتسين إلى مقرب ومدافع عن نظام بوتين.

ومن جهة أخرى، تحدث الضيف عن الهوية الروسية وعن التغيير الجذري الذي قال إنه أصابها على مدى قرن واحد، حيث كانت البلاد إمبراطورية بعقيدتها وتصورها، وبعد قيام الثورة البلشفية تغير التصورات تغيرا شديدا، وفي عام 1991 تغيرت الهوية الروسية مرة أخرى وأصبحت روسيا جزءا من العالم الغربي، ثم جاء بوتين فتغيرت الهوية مجددا وأصبحت روسيا دولة قوية تدافع عن القيم المحافظة الخاصة بها، بحسب ما يقول الفيلسوف الروسي.

وحول الهوية الروسية يقول “عقل بوتين” إن بلاده تغير موقفها و”نحن قيد البحث الروحي عن أنفسنا”، ولديها حساسية تجاه المتغيرات.

غير أن دوغين يؤكد أن النزعة الغربية ما زالت موجودة بشكل كبير داخل روسيا، وهناك نخبة ليبرالية ومقاومة شديدة لإصلاحات الرئيس بوتين من طرف المثقفين الليبراليين، وأن هذه النزعة الغربية تعرقل التوجه الخاص لروسيا.

كما يرى أنه حق الحضارات الأخرى أن تعتمد التعاليم السياسية الخاصة بها والقائمة على قيمها هي لا على القيم الغربية.

وأشار في سياق استعراضه لرؤيته المتطابقة مع رؤية رئيسه عن القضية الشيشانية التي قال إن بوتين وجد لها حلا، وكذلك بالنسبة لجورجيا وأوكرانيا وعن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014.

وتطرق المفكر الروسي أيضا لتدخل بلاده في سوريا، مبرزا في هذا السياق أن الشؤون الجيوسياسية لا تتضمن تعريفا محددا للدكتاتور أو الإرهابي أو من الذي يخترق حقوق الإنسان، ومن وجهة نظره فإن الصراع في سوريا كان بين دعاة سوريا ذات سيادة ويمثلها الرئيس بشار الأسد، وقوى معارضة مدعومة من الغرب، وخلص إلى أنه ما دام خصوم الأسد يدعمهم الغرب فمن المنطقي أن تدعم بلاده الأسد.

وبنظر المفكر الروسي، فإن حل المشكلة السورية يجب أن يكون داخل سوريا نفسها، بالتعاون مع روسيا وإيران وقطر والإمارات والسعودية، أي أن ما سماه الأيديولوجية الليبرالية لا ينبغي أن تكون حاضرة في الملف السوري.

وركز المفكر الروسي ألكسندر دوغين على النظرية السياسية الرابعة التي قال إنها نزعة معادية للرأسمالية، وتحدث عن رؤيته للإرهاب وعن علاقاته بإيران وتركيا.

وصف دوغين النظرية السياسية الرابعة بأنها نظرية الثورة وتصفية الاستعمار بالنسبة للمجتمع الروسي، وهي تدافع عن أصالة الحضارة الروسية وعن حقوق الإنسان، ولكن ليس وفقا للقيم الغربية التي قال إنها ليست شمولية وهي غير مقبولة لا في روسيا ولا في العالم الإسلامي ولا في الصين.

وبينما أعلن رفضه لهيمنة القيم الليبرالية، قال دوغين إن هناك انتفاضة عالمية على القيم الغربية، مشددا على ضرورة أن تبحث كل دولة عن طرق وآليات لبناء نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقا من مبادئها الحضارية.

وبرأي المفكر الروسي، فلا توجد نظرية واحدة لحقوق الإنسان في العالم، وأن العالم الإسلامي يفسر حقوق الإنسان انطلاقا من الشريعة الإسلامية والقرآن الكريم، وكذلك تفسر الصين حقوق الإنسان انطلاقا من معاييرها وقيمها، داعيا الدول إلى البحث عن طرق وآليات لبناء نظمها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية انطلاقا من مبادئها وحضارتها هي، مع حرص كل دولة على التحديث والتطوير، لأن الحداثة والانفتاح ليستا حكرا على الدول الغربية، كما يضيف دوغين.

وخلص دوغين – إلى أن الشيء الرئيسي في أفكاره التي تتضمنها النظرية السياسية الرابعة تقضي بمعاداة الرأسمالية وتأييد العدالة الاجتماعية، وهي النزعة التي قال إن أوساطا متنفذة داخل المحافظين الأميركيين ومن أنصار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، كانوا يهتمون بها من خلال بحثهم عن مقاربة سياسية جديدة، لأن الليبرالية الغربية لم تعد مقبولة لديهم.

ومن جهة أخرى، تطرق المفكر الروسي إلى موضوع الإرهاب، وقال إنه لا تعريف واضحا للإرهابيين ولا وجود لمعايير واضحة لمصطلح الإرهاب وهو مختلف من جهة لأخرى، فأميركا أنشأت تنظيم القاعدة واعتبرت حينها عناصره مناضلين، ولكن بعد سقوط الشيوعية أصبحوا في نظرها إرهابيين. وكذلك حركة طالبان الأفغانية هي محظورة في روسيا ومصنفة إرهابية، ولن تصبح كذلك مع مرور الوقت بعد أن تجري موسكو علاقات معها.

وربط دوغين سألة تعريف الإرهاب بمصالح الدول، وأعطى مثالا برئيس روسيا فلاديمير بوتين الذي قال إنه دعم موقف واشنطن بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكان ينتظر في المقابل أن تصنف الإدارة الأميركية حينها أن من أسماهم بالانفصاليين الشيشانيين في خانة الإرهابيين وهو ما لم يحصل، ويقول المفكر الروسي إن بوتين فهم حينها معنى الاعتبارات الجيوسياسية.

وفي سياق آخر، رأى دوغين -وهو من أبرز المنظرين السياسيين في روسيا- أن إيران هي حليف لروسيا وهي من خصوم العولمة والزعامة الأميركية، وأن الإسلام السني الراديكالي في العالم العربي كان قد أيد الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، لكن الجيل الجديد من الزعماء -يواصل المتحدث- في السعودية وقطر ومصر يبحث عن مقاربة جديدة للإسلام السني العربي وهو يرى أن البقاء في فلك السياسة الأميركية أمر سيئ بالنسبة للعالم الإسلامي. وتحدث أيضا عن أفكاره، وقال إنه من أنصار القيم التقليدية الإسلامية في إيران، ولكن مع ذلك تجمعه علاقات قوية مع تركيا، مشيرا في تطرقه لمستقبل روسيا بأن روسيا هي بوتين وهو من يحدد كل شيء في السياسة، ليختم حديثه بالقول إن في بلاده “القانون لا شيء والحاكم كل شيء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 + 2 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube