https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

وسام سعادة

“دلهي شالو”! على وقع هذه الصرخة يستمر تدفق الجموع الفلاحية الغاضبة لمحاصرة مداخل العاصمة الهندية منذ أسبوعين. والبلاد تعيش أكبر إضراب عام لم تشذ عنه أي من الاتحادات العمالية الكبرى، باستثناء ذاك التابع للحزب القومي الديني الحاكم. اضراب يطيب للمتحمسين له تسجيله كأكبر اضراب في العالم، بما أنه يعني ربع مليار مضرب من عمال وفلاحين.

هو إضراب عمالي ـ فلاحي متواصل في بلد أظهرت أشهر الاقفال المريرة، جراء تفشي جائحة كورونا، هشاشة سردية وثبته الاقتصادية في العقدين الماضيين، وعاد فيه التخوف من احتمالات وقوع مناطق وشرائح من أبنائه في براثن المجاعة، في وقت كان يقال فيه في السنوات الماضية أن المجاعة باتت ذكرى وعبرة من الماضي، وأن المشكلة باتت تنحصر في معالجة سوء التغذية، التي من عوارضها «سُمنة الفقراء» ولم يعد مطروحاً على نطاق أي ولاية واقليم خطر النقصان الحاد للغذاء بحد ذاته.

«دلهي شالو !». هيا بنا إلى دلهي، و«شالو» تفيد ضمناً عدم الصبر. الى دلهي.. لكن أيضاً «على دلهي». لأجل ذلك، قرار السلطات «المركزية» في الدولة الإتحادية حاسم: الحؤول دون تمكن الجموع الفلاحية الغاضبة من دخول العاصمة. ينفذ القرار بمعونة المسيرات / الدرونز في السماء، وخراطيم المياه، والغازات المسيلة للدموع، والهراوات. وكان لانتشار صورة رجل من الشرطة يهوي بعصاه على مزارع بنجابي من السيخ الأثر الكهربائي الذي وسّع من حدة الغضب، لا سيما في ولاية البنجاب التي لا تبعد كثيراً من العاصمة وبخاصة في طائفة السيخ، ناهيك عن ان البنجابيين يعتبرون ان موطنهم هذا كان يشمل دلهي في وقت تاريخي سابق، ولم ينسوا يوماً كيف ارتكبت المجازر بالآلاف منهم في دلهي نفسها عام 1984 يوم شيوع نبأ مصرع رئيسة الوزراء أنديرا غاندي على يد حارسها الشخصي، من سيخ البنجاب، الذي أراد الثأر من ضحايا عملية الفض الدامي لتمرد سيخي انفصالي في حرم المعبد الذهبي بأمريتسار، قدس أقداس الديانة السيخية، المنبثقة من استلهام الهندوسية والإسلام معا وتجاوزهما، وذات التاريخ القتالي الطويل.

على دلهي! لأن الهند قامت على معادلة: دولة فدرالية بمركز قوي. على هذا استقرّ الرأي بعد فترة المخاض العسير لولادة الدستور الهندي نهاية الأربعينيات، مع كل النقاشات الثرية والمستفيضة التي دامت ثلاث سنوات بين أقطاب الحركة الوطنية والآباء المؤسسين الذين صاغوا أطول نص دستوري في العالم وأكثره تفريعاً وحواش. فدرالية بمركز قوي، أو قل فدرالية تحت وصاية مركز القرار البيروقراطي الضخم في نيودلهي.

لقد تقصّد الآباء المؤسسون اقتباس البرلمانية من التجربة البريطانية والفدرالية من التجربة الأمريكية، لكن الحصيلة الإجمالية اختلفت. ليست نيودلهي عاصمة اقتصادية تجارية توازي مومباي على بحر العرب، ومن المتسع رؤية الهند على أنها شبه قارة بعدد من العواصم، دلهي، مومباي، كولكاتا، شاناي. مع هذا، هي من الناحية السياسية قادرة عملياً على دوزنة الفدرالية كما يحلو لآلة الدولة القائمة فيها. اهتم الآباء المؤسسون للتجربة الدستورية الهندية بالاقتباس من النموذج الأمريكي من الفدرالية، لكنهم عدلوه تعديلاً جوهريا: فواشنطن دي سي مركز ضعيف في النسق الفدرالي الأمريكي، بعكس نيودلهي. بخلاف المهاتما غاندي الذي كان يأمل في ان تكون الهند جمهورية قرى تشكل كل قرية فيها جمهورية قائمة بذاتها، وبالتالي الذهاب بعيداً في كل ما هو نزع للمركزية، استطاع بالنتيجة جواهرلال نهرو أن يفرض التصور المخالف تماماً لهذا: دولة اتحادية بمرجعية مركزية. هذا قبل أن يعاد تنظيم الولايات عام 1956، في ظل رئاسته للوزراء، ويعتمد لتقسيمها المعيار اللغوي.

    رقم 250 مليون مشارك في الإضراب الحالي ينبغي أن يقارب بنوع من الحذر. لا يزال سهل الغانج يمد القوميين الدينيين بقوة شعبية كبيرة إلى جانبهم، ولن تنقلب الحال تماما هنا نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية والمعاشية لوحدها

تبدلت أشياء كثيرة من زمن نهرو الى فترة حكم اليمين القومي الديني في أيامنا. انتهج نهرو قومية مفتوحة، علمانية وجمهورية، تتحاشى التمييز على أساس الدين أو الطبقة الموروثة المقفلة، الكاست. في نفس الوقت، كان نهرو ابن عائلة سياسية، فوالده موتيلال لعب دورا قياديا في حزب المؤتمر، ومتحدرا من الكاست ذات الحظوة، البراهمن. ومع تشكل حكم سلالي من بعده، وتولي ابنته انديرا، ثم ابنها راجيف، ثم تزعم حزب المؤتمر من صونيا غاندي، الأرملة الايطالية لراجيف، ثم انتقال الزعامة الى ابن راجيف، راهول وشقيقته بريانكا، ظهر كم ان هذا النموذج تناقضي بامتياز: فدرالي بمرجعية مركزية، وجمهوري بعائلة مالكة، وبما ان نهرو من البراهمن يمكن للهرمية التقليدية في المجتمع الهندوسي ان تتعرف «خلسة» في هذا النموذج على نفسها.

الا ان اصرار حزب المؤتمر على استمرار خضوعه لحكم سلالة نهرو – غاندي (وانديرا اكتسبت لقب غاندي من زواجها من البارسي، الزرادشتي، فيروز غاندي، ولا علاقة لذلك اذا مع المهاتما غاندي) ساهم بالنتيجة في شحوبه. ارتفعت أسهم اليمين القومي الديني، المنطلق من عقيدة الهندوتفا، اي ان الهند هي وطن للهندوس، وان الهندوس أمة قومية ودينية في نفس الوقت، وان الاقليات اما هي مطابقة للهندوس مشاركة معهم في العناصر الاساسية المحددة لهذه الحضارة ولهذا الوطن، واما ان ولاءها لأرض مقدسة موجودة في مكان آخر، وبالتالي ثمة مشكلة فعلية مع هذه الاقليات، ولو بلغ تعدادهم مئتي مليون نسمة، كالمسلمين في الهند اليوم. الهند جغرافيا تتكفل بتشكيل سكانها كأمة في عرف نهرو، لكنها جغرافيا مقدسة بالنسبة للقوميين الدينين: ليس كل سكانها من أبنائها، الا اذا كانوا يشعرون بها هي وحدها كأرض مقدسة سرمدية.

وجه القوميون الدينيون سهامهم ضد ما نددوا به من حكم الداينستي. ضد غربة هذه العائلة عن الثقافة الشعبية والروحية للأكثرية، وضد ما تفشى في ظلها من فساد. لكن القوميين ابقوا على معادلة نهرو الاساسية: دولة اتحادية انما بمرجعية مركزية، بمركز قرار قوي. فهم مركزيون بامتياز: بالنسبة لهم الهند ينبغي أن تستقر على هيمنة ثلاثية، هندي (اللغة التوسع انتشارا، والتي يشدد القوميون انها الأقرب للسنسكريتية القديمة، لغة النصوص المقدسة) هندو (الانتماء الاثني الديني) هندوستان (مركزية دلهي).

في المقابل، حاول القوميون الدينيون أن يظهروا أنهم المصداقية في مقابل رياء آل نهرو غاندي. فنهرو من طبقة الكهانة، البراهمة، الاولى في المجتمع الهندوسي، في حين ان نارندره مودي مثلا من أصول متواضعة في سلّم الطبقات الوراثية الكاست. وبالتالي، هم يمين، سلبي تجاه غير الهندوس، وبالأخص المسلمين والمسيحيين، لكنهم يمين يريد أن يعدل بين الهندوس أنفسهم، ويخفف من وطأة هرمية واستبعادية نظام الكاست. هنا بالتحديد يأتي تصاعد الموجة الإضرابية ليظهر حدود واقعية ذلك. لم تتقدم العدالة الاجتماعية «بين الهندوس» بخلاف مزاعم الحزب الحاكم. اذا كان مودي لا ينتمي الى البراهمن، لكن البراهمن يمسكون بمفاصل الحزب الحاكم ومنظمات المتطوعين شبه العسكرية التي يشكل الحزب الحاكم (البهاراتيا جناتا) امتدادا لها. حكم اليمين الديني هو حكم تضافري بين رجال أعمال كبار من أصول طبقية كاستية مختلفة، انما خصوصا من «الطبقة الثالثة» مع الطبقة الاولى، الكهانة الوراثية.

بيد ان رقم 250 مليون مشارك في الإضراب الحالي ينبغي أن يقارب بنوع من الحذر. لا يزال سهل الغانج يمد القوميين الدينيين بقوة شعبية كبيرة الى جانبهم، ولن تنقلب الحال تماما هنا نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية والمعاشية لوحدها. فكما نبه المؤرخ والفكر رامشندره غوها مؤخرا، طالما آل نهرو غاندي يمسكون بحزب المؤتمر، ستظل جماهير شعبية كثيرة ترى نفسها أقرب إلى سيرة مودي وآميت شاه وقادة هذا اليمين الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم. كما أن قيادات اليمين عقائدية مكافحة، في حين يتذبذب راهول غاندي ما بين نوبة الدفاع عن إرث علمانية جده لأمه تارة، وما بين محاكاة النعرة الهندوسية تارة أخرى.

يأتي المشهد الحالي ليظهر حيوية القضية الفلاحية. تريد سلطة دلهي فرض لبرلة اقتصادية لسوق تصريف الانتاج الزراعي، بعد ان كان سوق بيع المحصول تشرف عليه الدولة. التخوف هنا من استغلال أكبر من طرف الشركات التي تريد أن تشتري المحاصيل مباشرة من المزارعين، وان تلجأ للمضاربات المدمرة. التخوف من ان يتحول الفلاحون الى أقنان للشركات الصناعية الكبرى. هناك تحالف عمالي فلاحي يتداخل مع زراعة تريد أن تحمي نفسها من الكارتيل الصناعي. بالتشابك، تتعذر متابعة المشهد الإضرابي الحالي من دون رصد حضور التناقض فيه، بين أن تكون الهند فدرالية، وبين أن تكون بآلة دولة مركزية قوية تتكثف في عاصمتها السياسية، ويظهر هذا خصوصية التوتر بين البنجاب وبخاصة طائفة السيخ فيه، وبين المركز. هو أكبر اضراب في تاريخ البشرية صحيح، لكن هذه الأقلية الدينية الجغرافية تلعب فيه دورا يمكن تمييزه عن سواها، لأنها الأقلية التي عندها مشكلة مزمنة في تاريخ الهند مع هذا التناقض بين فدرالية الدولة ومركزية عاصمتها، كما أنه تناقض بين البنجاب المنحسر جغرافيا لكن الذي يمد الهند كلها بالحبوب، وبين استتباع هذه الزراعة لانماط اقتصادية تهمش المزارعين حكماً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 1 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube