شادي إبراهيم
تركز إستراتيجية الهند في إفريقيا على بناء شراكة بين أنداد، مع نهج مدفوع حسب الطلب يهدف إلى تحقيق نتائج مربحة للجانبين ومنفعة متبادلة لكل من الهند والدول الإفريقية، وذلك تحت شعار (التعاون بين بلدان الجنوب) (South-South cooperation)، وهو النهج الذي اتبعته الهند مع الدول الإفريقية بعد استقلالها في عام 1947(1). عملت الهند على المشاركة في عمليات حفظ السلام في إفريقيا وتقديم المنح الدراسية والمنح الإغاثية الإنسانية، وعمل استثمارات من القطاعين العام والخاص. وقد استمر شكل التعاون والتنسيق على هذا النحو قرابة نصف قرن، بدأ هذا النهج تحديدًا خلال انعقاد مؤتمر باندونغ بإندونيسيا، في عام 1955. وهو المؤتمر الذي جمع بين دول حديثة الاستقلال في إفريقيا وآسيا(2). كان العامل المشترك من هذا التجمع هو أن لديهم تجربة في النضال ضد الاستعمار الأوروبي والغربي، وكذلك مواجهتهم لتحديات إنمائية مشابهة.
ينتشر في إفريقيا عدد كبير من الجاليات التي تنحدر أصولها من الهند، ويبلغ تعدادهم نحو ثلاثة ملايين نسمة في القارة. توجد أكبر التجمعات الهندية في إفريقيا في دولة جنوب إفريقيا بنحو 1.5 مليون نسمة بنسبة تصل لنحو 3% من إجمالي سكان جنوب إفريقيا، والذين يسكن معظمهم في مدينة ديربان الساحلية(3). وفي موريشيوس يبلغ تعدادهم نحو 855 ألف نسمة بنسبة تصل لنحو 60% من إجمالي تعداد الجزيرة، وفي ريونيون 220 ألف نسمة بنسبة تصل لنحو 31% من إجمالي سكان الجزيرة، أما كينيا وتنزانيا فيبلغ تعدادهم نحو مئة ألف نسمة في كل من الدولتين، بينما في أوغندا يصل تعدادهم نحو تسعين ألف نسمة(4). تتمسك تلك الجاليات بهويتها الهندية وتحافظ عليها، وهو ما يوفر عمق مهمًّا في إنجاح وتنفيذ سياسات الهند الاقتصادية والسياسية تجاه إفريقيا. وهو العنصر الذي تفتقده معظم القوى الدولية المتنافسة.
تتميز إفريقيا بارتفاع نسبة الشباب في سن العمل من إجمالي عدد السكان، كما ينمو حجم الطبقة الوسطى بشكل سريع، وهذه كلها مكونات وعوامل جوهرية لنمو التجارة والاستثمار(5). تتضمن إستراتيجية الهند مبادئ توجيهية ومجالات تركيز محددة يلعب القطاع الخاص دورًا رئيسيًّا فيها، لاسيما في مجالات مبادرات المهارات وبناء القدرات والرعاية الصحية، والزراعة، والثورة الرقمية، والتكنولوجيا. تستند الإستراتيجية على مجموعة من المبادئ، والتي تشمل أربع ركائز رئيسية:
أولًا: بناء القدرات والتدريب والتعاون التقني والاقتصادي الهندي (ITEC).
ثانيًا: خطوط الائتمان (LOC) أو القروض الميسرة.
ثالثًا: التجارة.
رابعًا: الاستثمار والمساعدات والمنح.
فالهند تعمل على بناء العلاقات مع الدول الإفريقية من منظور مستدام ومنتظم، بإزالة القيود التي تعوق تطور تلك العلاقات، وجذب استثمارات من القطاع الخاص في الهند. بالتركيز على قطاع الزراعة حيث تمتلك إفريقيا نحو 60% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، لكنها في المقابل تنتج نحو 10% فقط من الناتج العالمي(6)، فهناك إمكانات كبيرة في إفريقيا على أساس موارد الأرض والمياه تفتقر للتطوير واستخدام أساليب الري الحديثة. ومع ذلك، هناك تفاوتات إقليمية واسعة داخل القارة؛ فسبع دول فقط من أصل 54 دولة حصلت على استقلالها تمثل أكثر من 60% من جميع إمكانات الري في إفريقيا، وهي: (أنغولا والسودان ومصر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وموزمبيق ونيجيريا)(7)، في حين أن 18 دولة تستغل 5% فقط من مواردها(8)؛ وهو ما تراه الهند فرصة مناسبة للاستثمار في قطاع الزراعة.
المنظور الجيوسياسي الهندي لإفريقيا وتحدياتها
تمتعت الهند تاريخيًّا بعلاقة وثيقة مع إفريقيا، بالنظر إلى النضال المشترك ضد الاستعمار وحركة عدم الانحياز(9). في البداية، كان لسياسة الهند تجاه إفريقيا أولويتان: الأولى: دعم حركات التحرير المناهضة للاستعمار، والثانية: مكافحة أنظمة الفصل العنصري(10).
تعمل الهند على الانخراط في الملفات الأمنية من خلال توفير قدراتها في مكافحة “الإرهاب والتطرف”، خاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والفضاء الإلكتروني. كما تشارك الهند في بعثات الأمم المتحدة، بجانب هذا تضع الهند منطقة الساحل الشرقي من القارة الإفريقية على أولوياتها في سياساتها وتحركاتها في القارة الإفريقية؛ حيث ترى السواحل الشرقية من المحيط الهندي منطقة نفوذ لها وتسعى إلى تقويض التوسع الصيني(11) واللحاق بالصين التي تنمو تجارتها مع القارة بمعدل متسارع تفوق على كل الدول والقوى الكبرى(12).
وقد جعلت الهند الأمن البحري ركيزة أساسية في تحركاتها مع الدول الإفريقية وعلى وجه الخصوص كينيا وجنوب إفريقيا(13). وتسعى الهند إلى صناعة حضور سياسي عند الدول الإفريقية للحصول على دعمها لدخول مجلس الأمن بمقعد دائم(14). في الحقيقة هذا الاهتمام الكبير والاستثمار في القطاع الأمني يكمن في أن إفريقيا تعد المصدر الأكبر لواردات الطاقة وهو ما يقلِّل من اعتمادها على دول الشرق الأوسط(15).
تواجه الهند العديد من التهديدات الجيوسياسية من القوى المنافسة لها في القارة وعلى رأسها الصين(16)؛ حيث يمكن أن تلعب الصين دورًا سلبيًّا تجاه المصالح الهندية في إفريقيا على المدى الطويل من خلال تشويه صورة الهند، ودفع الدول الإفريقية باتجاه سلبي مع الهند، كما أن أي اضطرابات على طرق التجارة البحرية سواء مع القوى الكبرى أو القراصنة يمكن أن يكون لها تأثير سلبي كبير على مصالح الهند مع إفريقيا(17)، خاصة أمن الطاقة. ويمكن أن تؤدي هذه المنافسة إلى صناعة توترات وصراعات بين الهند والقوى الأخرى في المنطقة. مع ذلك، لا يمكن تجاهل المشاركة الواسعة من الهند في عمليات حفظ السلام، حيث تحتل الهند المركز الرابع كأكبر مشارك بالقوات في إفريقيا؛ إذ أسهمت بنحو مئتي ألف جندي كجزء من الخوذ الزرقاء منذ استقلالها. حاليًّا يخدم 4483 جنديًّا هنديًّا في بعثات حفظ السلام في خمس دول إفريقية: الكونغو، والمغرب، والسودان، وجنوب السودان، والصومال(18).
بَنَتِ الهند منشأة عسكرية بحرية في جزيرة أغاليغا الشمالية، وهي جزء من جزيرة موريشيوس، التي يقوم العمال الهنود ببنائها(19). على الرغم من إنكار كل من حكومتي موريشيوس والهند، إلا أن خرائط جوجل وشهادات عيان تشير إلى إنشاء بنية تحتية مخصصة للأنشطة العسكرية، وخاصة المراقبة(20) (انظر الخريطة 1 لموقع القاعدتين في شمال جزيرة أغاليغا).
لماذا بالتحديد شمال الجزيرة؟ الجواب هو أن شمال الجزيرة يقع بالقرب من خط الاتصال البحري بين قناة موزمبيق والهند؛ مما يجعلها موقعًا إستراتيجيًّا لمراقبة وحماية طرق التجارة البحرية للهند. لكن بلا شك، فإن استثمار الهند 250 مليون دولار في تطوير مطار وميناء ومركز اتصالات في هذه الجزيرة النائية لا يهدف إلى مساعدة موريشيوس على تطوير قدرتها في مراقبة مياهها الإقليمية(21)، لكن من أجل تعزيز تموضعها الإستراتيجي من ناحية المعلوماتية الأمنية والتكتيكية العسكرية مقابل التهديدات المتوقعة، وبالتأكيد مقابل منافستها الصين. وهو الموقع الذي اهتمت به كل من أميركا وبريطانيا في سياق الحرب الباردة في ستينات القرن الماضي لتعزيز حضورهما العسكري الإستراتيجي عالميًّا(22).
فأميركا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا والقوى الاستعمارية السابقة تتمركز في العديد من الجزر حول إفريقيا في المحيط الهندي والمحيط الأطلسي، وهو ما يجعلها متفوقة على الصعيد التكتيكي من خلال استخدام القواعد البحرية في تلك الجزر بجانب أساطيلها البحرية، وهو ما أشار له ألفريد ماهان الذي عمل في القوات البحرية الأميركية، والمطور النظري والمنهجي لمفهوم القوة البحرية الأميركية وفي مقدمته التموضع في نقاط إستراتيجية من زاوية تكتيكية سواء جزر أو موانئ، وذلك بهدف تنفيذ معارك في المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ والمحيط الهندي في نفس الوقت الأمر الذي يصنع الهيمنة عالميًّا(23).
على سبيل المثال، جزر الكناري التي تحتلها إسبانيا وتوجد قاعدة عسكرية بحرية عليها، وجزر سانت هيلينا التي تتمركز فيها قاعدة عسكرية بريطانية وأميركية، وجزيرة موريشيوس التي توجد بها قاعدة عسكرية فرنسية بجانب القاعدة الهندية، وكذلك جزيرة مايوت التي توجد بها قاعدة فرنسية، وجزر دييغو غارسيا التي تتميز بموقع إستراتيجي في منتصف المحيط الهندي يوجد عليها قاعدة عسكرية بريطانية وأخرى أميركية(24). في المقابل، تستثمر الصين في بناء واحد وعشرين ميناء في السواحل المطلة على المحيط الهندي بجانب قاعدة عسكرية في جيبوتي (انظر الخريطة 2)(25). كما تستثمر الصين في نحو ستة وأربعين ميناء على طول خطي الساحل الشرقي والغربي لإفريقيا(26).
من المهم أن نضع في الحسبان أن الهند وقَّعت على ثلاث اتفاقيات أمنية وعسكرية مع أميركا والبنتاجون، وضعت الهند في مرحلة تعاون وتنسيق كامل مع أميركا بالحصول على المعلومات الأمنية والتقنيات والأسلحة المتطورة: الاتفاقية الأولى هي (BECA) التي تتيح معدات متطورة بالإضافة إلى معلومات استخبارية في وقت حي؛ مما سيسمح للهند بالاستفادة من المعلومات الجغرافية المكانية الأميركية لضرب أهداف العدو بدقة بالغة والاستعداد لأي هجمات متوقعة، والاتفاقية الثانية هي (LEMOA) التي توفر تنسيقًا عاليًا ومتبادلًا في المسائل اللوجستية بين الجيشين. أما الاتفاقية الثالثة فهي اتفاقية (COMCASA) التي تضع الجيش الأميركي في تحالف عسكري من خلال إتاحة تصدير معدات عسكرية متطورة تكنولوجيًّا، وهي الاتفاقيات التي أنجزتها حكومة ناريندرا مودي(27).
أما فيما يتعلق بصادرات السلاح الهندي بإفريقيا فنجد أن الهند لا تمثل ثقلًا في هذا القطاع بالمقارنة مع روسيا وفرنسا والصين وأميركا، لكن مع ذلك تشهد صادرات السلاح الهندي نموًّا كبيرًا في السنوات الخمس الماضية؛ حيث صرحت حكومة ناريندرا مودي بأن الصادرات الدفاعية ارتفعت بنسبة 334% في السنوات الخمس الماضية متجهة لأكثر من 75 دولة. لتدخل الهند ضمن قائمة أكبر 25 مصدِّرًا للسلاح في العالم. كانت الدول الإفريقية على قائمة المستوردين؛ حيث استوردت موريشيوس 6.6% من إجمالي صادرات الأسلحة الهندية بين عامي 2017 و2021، تليها موزمبيق بنحو 5% ثم سيشل بنحو 2.3%. فهناك تسع دول في إفريقيا تطل على المحيط الهندي، وهي: جزر القمر، وكينيا، ومدغشقر، وموريشيوس، وموزمبيق، وسيشل، والصومال، وجنوب إفريقيا، وتنزانيا. لذلك تسعى الهند إلى رفع قدرات تلك الدول لتشاركها في تأمين سواحل المحيط الهندي لحماية التجارة البينية معها(28).
استثمارات الهند وتجارتها في إفريقيا
تتركز تجارة الهند واستثماراتها في إفريقيا في قطاع الخدمات، وهو القطاع الذي يمثل نحو 75% من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى إفريقيا. بلغت الاستثمارات الهندية التراكمية في إفريقيا خلال الفترة من أبريل/نيسان 1996 إلى مارس/آذار 2022 نحو 74 مليار دولار، وهو ما يجعل الهند واحدة من أكبر خمسة مستثمرين في القارة، وتعد موريشيوس وموزمبيق والسودان ومصر وجنوب إفريقيا هي الوجهات الرئيسية لاستثمارات الهند. الشركة التابعة المملوكة بالكامل (Wholly Owned Subsidiary = WOS)(29) هي المسار المفضل للاستثمار بالنسبة للشركات والمستثمرين الهنود في إفريقيا؛ فقد بلغ حجم الاستثمارات الهندية الذي تبنى هذا المسار نحو 81.6% من إجمالي الاستثمارات المعتمدة خلال الفترة من أبريل/نيسان 2010 إلى مارس/آذار 2022 فيما شكلت المشاريع المشتركة نحو 18.4% من إجمالي الاستثمارات المعتمدة خلال نفس الفترة. كان قطاع التصنيع الأعلى استثمارًا خلال نفس الفترة، فيما تنوع الاستثمار في قطاعات أخرى كالخدمات المالية والتأمين والعقارات والزراعة والقطاعات المرتبطة بها والنقل والتخزين وخدمات الاتصالات(30).
بلغ متوسط حجم التجارة البينية بين الهند وإفريقيا نحو 65.12 مليار دولار سنويًّا خلال الفترة الممتدة من 2011 وحتى 2020. كانت سنة 2014 أعلى السنوات التي جرى فيها تبادل تجاري بنحو 75 مليار دولار فيما كانت سنة 2016 أقل سنة. بينما بلغ حجم التجارة في 2021 نحو 56 مليار دولار، وحطم رقمًا قياسيًّا عام 2022 بنحو 89.5 مليار دولار أي بزيادة تقارب 60% عن العام الذي سبقه، بحسب تصريحات لوزير الخارجية الهندي، سوبرامانيام جيشانكار. الذي قال: إن الهند قدمت لإفريقيا قروضًا ميسرة تزيد عن 12.3% مليار دولار وأنجزت 197 مشروعًا(31) (انظر الإحصائية التالية).
ومع ذلك، تواجه الهند تحديًا كبيرًا في ميزانها التجاري مع إفريقيا حيث تتجاوز الواردات حجم صادراتها. تعد المنتجات البترولية المكررة والمستحضرات الصيدلانية أهم الصادرات الهندية الرئيسية إلى إفريقيا من حيث النوع، بينما يأتي النفط الخام والذهب والفحم والمعادن على رأس قائمة الصادرات الإفريقية للهند. وقد أفادت استثمارات الهند البلدان الإفريقية في بناء قدراتها، وعملت على نقل التكنولوجيا بأسعار معقولة ومنافسة للصين، كما ركزت استثماراتها في البنية التحتية مثل الطرق، والسدود، وكهربة الريف بالطاقة الشمسية(32).
خاتمة
تشهد الهند قفزات نوعية على كل الأصعدة مع إفريقيا، اقتصاديًّا وسياسيًّا، خلال السنوات العشر الماضية. وتتميز بالعديد من العوامل وعناصر القوة التي لا تمتلكها القوى الكبرى خاصة القوى الاستعمارية السابقة كالانتشار الواسع للجاليات في منطقة شرق وجنوب إفريقيا، وهو ما يسهم في اتساع تجارتها وتنامي تأثيرها السياسي داخل تلك الدول. لكن لا تزال الهند تواجه تحديات في كسر الميزان التجاري للصادرات والواردات مع إفريقيا لصالحها بالمقارنة مع الصين، ويرجع ذلك إلى اعتماد الهند على استيراد المواد البترولية الخام من إجمالي احتياجاتها للطاقة من إفريقيا.
على الصعيد الأمني، ستنعكس الاتفاقيات الأمنية التي وقَّعتها الهند مع أميركا في تعزيز نفوذها وتأثيرها مقابل الصين. وهي الاتفاقيات التي وقعتها بدءًا من 2016 مع قدوم حكومة مودي إلى السلطة، وهو الأمر الذي بدأ يأخذ منحنى تصاعديًّا باتساع استثمارات الهند في القوة الخشنة من خلال بناء قاعدة عسكرية إستراتيجية شمال جزيرة أغاليغا لتأمين طرق التجارة البحرية بين الهند وإفريقيا. ومن المتوقع أن تعمل الهند على تعزيز حضورها الأمني والعسكري الخشن من خلال بناء القواعد العسكرية والاستثمار في بناء الموانئ خاصة في منطقة شرق وجنوب القارة الإفريقية، بجانب توسيع مشاركتها في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.