تسيطر حال من التوتر على العلاقات الديبلوماسية بين الولايات المتحدةالأميركية والصين، ربما منذ بدء ماراثون الانتخابات الأميركية السابقة التيتوقع فيها كبير المستشارىن السابق لترامب ستيف بانون أن تخوض واشنطن فيعهده حربين، واحدة في الشرق الأوسط والأخرى في بحر الصين. وبعد تنصيب ترامبرئيساً لأميركا، انطلقت الحرب مع الصين، لكنها حتى الآن حرب تجارية اشتدوطيسها منذ إعلان ترامب أخيراً نيته رفع الرسوم على سلع صينية تصل قيمتهاإلى 200 بليون دولار من 10 في المئة إلى 25 في المئة، مستهدفاً بذلك تضييقالخناق على الصين – الخصم الاقتصادي الشرس الذي ينمو اقتصاده بخطى متسارعةفأصبح الثاني عالمياً بعد أن تجاوز إجمالي دخله المحلي السنوي 13 تريليوندولار عام 2018. وهنا يمكن القول أن الحرب التجارية الحالية بين الصينوأميركا هي تجليات للتنافس بين قوة عالمية صاعدة وقوة أخرى مهيمنة يتقلصدورها ببطء يوماً بعد يوم. وتتجاوز القضايا الخلافية بين البلدين الأمورالتجارية أو الاقتصادية لتشمل الأيديولوجيات السياسية لكلا البلدينوتصوراتهما للأوضاع والترتيبات الإقليمية والدولية. فبينما تدعو الصين إلىنظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة وإنصافاً ويقوم على المنفعة المتبادلة، وإلىعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والتهديد أو استخدام القوة، وإلىنظام سياسي متعدد القطب، ترتفع فيه أصوات الدول النامية وتتعزز فيه قيمالمساواة والتعايش السلمي، نجد أن دعوة ترامب إلى «أميركا العظمى» هي تجسيدواقعي لفكر الهيمنة الذي تمارسه الولايات المتحدة منذ عقود، خصوصاً بعدانهيار الاتحاد السوفياتي، إذ اعتبرت الولايات المتحدة نفسها منذ لك الوقت،بحسب وصف هنري كيسينجر القطب الأوحد في العالم ومصدر الديموقراطية والضامنلها، ولها مطلق الصلاحيات في الحكم على نزاهة الانتخابات الأجنبية وفرضعقوبات اقتصادية أو ضغوط أخرى إذا لم تستوف معاييرها. وقام هذا القطب بنشرقواته العسكرية في المناطق ذات المصالح الحيوية له، ولم يتورع عن خوضالحروب وتوجيه ضربات استباقية باسم حفظ السلام أو ردع العدوان. وتنعكس رؤيةالولايات المتحدة على سياستها تجاه الصين، فنرى الوجود الأميركي في منطقةبحر الصين الجنوبي الذي تتنازع السيادة عليه الصين ودول رابطة جنوب شرقيآسيا. وتتدخل الولايات المتحدة في هذه المنطقة – من طريق إرسال سفنهاالحربية وطائراتها العسكرية – بهدف ظاهري وهو تأمين حركة الملاحة الدولية،بينما ترى الصين أن الولايات المتحدة تهدف إلى تصعيد الأزمات بين الدولالمشاطئة لبحر الصين الجنوبي وتدويلها. كذلك تتعمد الولايات المتحدة التدخلفي قضايا داخلية للصين مثل حقوق الإنسان، إذ لا يخلو تقرير حقوقي أميركيمن انتقاد سجل حقوق الإنسان في الصين، وتدعم واشنطن المجموعات الانفصاليةفي التبت وشينجيانغ، فتفتح أبوابها لزعيم الانفصاليين التبتيين الدالايلاما الرابع عشر، وتدعم زعيمة مؤتمر الأويغور العالمي المناهض للصين وتحتضنزعيمته ربيعة قدير، فضلاً عن الإثارة الأميركية لقضية بورما – ليس لأنالصين هي الطرف المعني باضطهاد المسلمين هناك – بل لأن الإثارة الأميركيةللقضية نابعة من مسعى للتدويل وزرع قوات أجنبية في بورما، الجار الجنوبيللصين، والتي تتخذ منها منفذاً على المحيط الهندي. كذلك تتخذ الولاياتالمتحدة جانباً مناوئاً لبكين في قضية تايوان، إذ تشجع الولايات المتحدةمطالب تايوان بالانفصال عن الصين. وعلى رغم تفاقم التنافس بين الخصمينالتجاريين على أسواق واحدة ومجال استراتيجي واحد، خصوصاً عندما تتقاطعمصالحهما في الجنوب، إلا أن من غير المتوقع أن يتطور التنافس بين البلدينإلى مواجهة عسكرية، فالقوة الأميركية العسكرية ستظل كاسحة إلى درجة تمنعالصين من منافسة أميركا عسكرياً في القريب المنظور. كما أن الصين هي واحدةمن الدول القليلة المالكة التكنولوجيا النووية وتلعب دوراً كبيراً في حفظالسلام والاستقرار في منطقة شرق آسيا من خلال دعم جهود الحد من انتشارالأسلحة النووية ومكافحة الإتجار بالمخدرات والهجرة غير الشرعية والإرهابوغيرها من المسائل العالمية المهمة. فهل تنجح الولايات المتحدة في الوصولإلى اتفاق تعاوني أم توزيع أدوار أم تقاسم للمصالح في الشكل الذي يتناسب معرغبتها في الهيمنة على النظام السياسي الدولي؟ أم ينجح التنين الآسيوي فيأن ينفث نيرانه في وجه الهيمنة الأميركية لتكون له اليد العليا في صوغالنظام العالمي الجديد؟
الحياة