المؤلف: ألكسندر دوغين عرض/إبراهيم غرايبة( نشر في موقع المعرفة) يصف ألكسندر دوغين مؤلفه بأنه أول كتاب تعليمي في الجبوبولتيكا باللغة الروسية، ويعرض فيه أسس هذا العلم.. النظرية والتاريخ، ويغطي ميدانا واسعا من المدارس والرؤى الجيوبولتيكية والقضايا العملية، ويصوغ العقيدة الروسية الجيوبولتيكية. وهو أيضا دليل علمي لصياغة وتفسير القرارات في الميادين العظمى في الحياة السياسية الروسية.
يعتقد المؤلف أن العالم يشهد ثورة في الجيوبولتيكا، فالأحداث الكبرى غير المسبوقة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، مثل عدوان الأطلسيين على صربيا والعراق (الوصف للمؤلف حرفيا) والتوجهات الانفصالية على أراضي روسيا الاتحادية، وحالة القلق واللااستقرار التي أعقبت انتهاء المواجهة الأيديولوجية بين الاشتراكية والرأسمالية، والواقع الجديد الذي يتشكل بعيدا عن القواعد السابقة التي نظمته طوال القرن العشرين. كل ذلك وغيره يدفع إلى -والكلام لألكسندر دوغين- تساؤلات ومراجعات إستراتيجية ربما تكون الجغرافيا السياسية أهم وأفضل ما يجيب عنها، وتكون الأداة الرئيسية للسياسيين والإستراتيجيين والمصرفيين والاقتصاديين للتفكير والتخطيط، وبناء السياسات العامة والعلاقات الخارجية، وصياغة الفكرة الجامعة للدول والأوطان والشعوب والمجتمعات. الجيوبولتيكا أو الجغرافيا السياسية نظام علمي مفتوح، يولد أو ينبعث من جديد، ويتضمن آفاقا واسعة لتكريس القوى الخلاقة للمتخصصين في أكثر الميادين اختلافا، وفي الوطن العربي بخاصة، فإنه على مفترق طرق، وفي وضع معقد، ويواجه التقسيم وأزمات ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، ويبحث عن مكان في العالم الجديد، فالجغرافيا السياسية يمكن أن تقدم آفاقا للرؤية والفهم والتخطيط. الجيوبولتيكا هي الحل، إن شئنا أن نقدم فكرة المؤلف بلغة الشعارات، فهي منظومة علمية تتطابق بدقة مع متطلبات القرن الحادي والعشرين، برغم أنها بفعل جدة منهجها ومبادئها الأساسية تتطلب جهودا ذهنية وإبداعية معينة.
الجغرافيا السياسية العربية “
وللعالم العربي المعاصر منبع جيوبولتيكي هو الإسلام، وبنية الخلافة في الواقع هي الأم الجيوبولتيكية .لجيوبولتيكا العالم العربي مسار ضارب في أعماق التاريخ، ويمكن أن نعد الحقبة الأقدم فيها جيوبولتيكية: العرق السامي من آشور القديمة في سوريا حتى الإمبراطورية الفينيقية حول البحر المتوسط، ويمكن الإشارة هنا على الفور إلى أن للمدى الفينيقي قطبين مميزين، بري وبحري. فالقطب الآشوري البري الممتد من العراق إلى عدن وشبه الجزيرة العربية، أو حضارة البر. بينما تقدم الإمبراطورية الفينيقية البحرية أنموذج “التالا سوكراتية (الإستراتيجية البحرية)” المكتمل. وهكذا فإن الجيوبولتيكا العربية تقدم الأنموذج التقليدي للثنائية البرية والبحرية في الجغرافيا السياسية والتي ظلت ملازمة لها على مدى التاريخ والجغرافيا، وتعد قرطاج الفينيقية أم التالاسوكراتيات، وتعد اليوم الولايات المتحدة الأميركية وريثة قرطاج، بل إن مؤسسي المدرسة الجيوبولتيكية الأميركية، مثل الأميرال ماهان، وبروكس آدامز، ونيكولاس سبيكمان، كانوا يعون بوضوح الطابع البحري للإمبراطورية الأميركية التي تستحضر النموذج البريطاني، الهولندي، البندقية حتى فينيقيا. فالتالاسوكراتية الأميركية تعود من وجهة النظر الجيوبولتيكية إلى جذور سامية فينيقية وليس إلى الإمبراطورية الرومانية كما يظن للوهلة الأولى، بل إنها على العكس من ذلك، أنموذج محدث ومعولم من العدو الرئيس لروما في الحرب البونية. جيوبولتيكا الخلافة للعالم العربي المعاصر المتطابق إلى حد كبير مع مناطق انتشار الفينيقيين منبع جيوبولتيكي آخر هو الإسلام، الذي صار منذ القرن السابع الميلادي أساسا لتحول جذري في المدى المكاني العربي والعالمي كله. وكانت الدولة الإسلامية أنموذجا في الإستراتيجية البرية “التيلوروكراتيات”، أو روما العربية المناقضة للفينيقية، وتشبهها في التاريخ إمبراطورية جنكيز خان التي كانت أساس الإمبراطورية الروسية. بعد سقوط الخلافة العثمانية أوائل القرن العشرين أقيمت الدول العربية عدا السعودية على أساس علماني شبيه بالدول الغربية وبنية الخلافة كانت تجمع في ذاتها الأعراف الدينية، والحقوقية الإثنية والأيديولوجية والأخلاقية، وهي في الواقع الأم الجيوبولتيكية للعالم العربي، فالإسلام لا يمثل الديانة فقط في مفهومها الغربي المعاصر، بل وأيضا التعاليم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وبعد سقوط الخلافة العثمانية أوائل القرن العشرين أقيمت الدول العربية عدا السعودية على أساس علماني شبيه بالدول الغربية، وكانت هذه الدول مقسمة ليس على أساس جغرافي طبيعي بل وفق أغراض استعمارية مفتعلة ما جعل طبيعة الدول العربية أقرب إلى أن تكون مصطنعة، وإن تكونت مع الزمن هويات وطنية قائمة حول الدول الحديثة وأنظمة الحكم فيها.
الجغرافيا السياسية لروسيا
تتميز روسيا تاريخيا وجغرافيا بالمزج بين أوروبا وآسيا (أوراسيا)، أو على نحو آخر الاستقلال عن الشرق والغرب، فلا هي من الشرق الآسيوي ولا من الغرب الأوروبي، لكنها تعبر عن اتجاهات جدلية مختلفة. ويطرح في روسيا اليوم مشروعان مبدئيان يختصان بالمستقبل الروسي، الأول ليبرالي راديكالي إصلاحي، يتخذ مثله الأعلى من المجتمع الغربي، والبناء التجاري المعاصر. ويرفض أصحاب هذا الاتجاه تلك القيم المسماة بالشعب، والأمة والتاريخ، والمصالح الجيوبولتيكية، والعدالة الاجتماعية، ويرون كل شيء قائما على مبدأ الفعالية الاقتصادية، وأولوية الفردانية، والاستهلاك والسوق الحرة.
والمشروع الثاني للمستقبل الروسي يعود إلى “المعارضة القومية الوطنية التي تمثل واقعا سياسيا متعدد الأشكال متباين الوجوه، ويوحد بينها رفض الليبرالية والإعراض عن منطقها الذي يدعو إليه الإصلاحيون، ويسيطر فيها الشيوعيون الذين تخلوا عن العقائدية الماركسية المتشددة، وأنصار الأرثوذكسية الملكية ذات النمط القيصري للحكم. وعلى الجانب الآخر من ليبرالية الإصلاحيين والمعارضة الموحدة ينضج الطلب الملح لإيجاد الطريق الثالث لمشروع أيديولوجي خاص ليس توفيقيا ولا وسطا بين أولاء وهؤلاء، بل خطة مستقبلية تجديدية تقطع أي علاقة مع منطق الازدواجية، حيث يهيم الوعي الاجتماعي المعاصر لدى الروس. من الجيوبولتيكا إلى فلسفة التاريخ
يعتبر كارل شميدت من العباقرة الذين أدركوا علاقات وارتباطات البنية الحضارية بتفاعلات وهيمنة قوتي البر والبحر، وقد ألهمه حدسه بصحة بالغة أن الكون لا يحمل في داخله لا التحدي الحقيقي ولا الرد التاريخي. ويميل هذا الرجل إلى اعتبار الانتقال إلى الإيروكراتيا (القوة الجوية) ومن ثم إلى الأثيروكراتيا (حرب النجوم والفضاء) مجرد تطور طبيعي لإستراتيجية البحر لا إشارات إلى مراحل ثورية جديدة. وعلى هذا يمكن القول إن عفوية الماء في توسعها الشمولي الذي يتحقق بالضبط على حساب اليابسة والمدى الخاضعين لها تقليديا، إنما تضع في خدمتها العفويتين الأخريين: الجو والفضاء (الأثير). قوة البحر تظهر نفسها بقوتي الجو والفضاء، وتواصل توجهها الحضاري نحو التمييع وبكلمة أخرى فإن قوة البحر تظهر نفسها بقوتي الجو والفضاء، وتواصل توجهها الحضاري نحو التمييع، ونذكر بهذه المناسبة بأن هذا الاتجاه بالذات هو الذي ولد جدلية “الوجود البحري” التاريخية مع ما يرتبط بها من تحرير التقنية ومراحل الثورة الصناعية. إن نهاية المعسكر الشرقي الذي جسد خلال عصرنا التوجه الكوني للبر المواجه للبحر تعني نهاية تلك المرحلة التاريخية التي كان ممكنا فيها الاستخدام الفاعل للتركيبة الذهنية التي لخصت المرحلة الثانية من المرحلة الصناعية من أجل المنافسة الكونية مع حضارة البحر، مع الغرب ومع العالم الذي ربط مصيره بالتطوير اللامحدود للتقنية المحررة. وبكلمة أخرى كان ذلك خاتمة صلاحية الماركسية، فقوى البر فقدت الذهنية الدفاعية التي بقيت فعالة إلى أن تبدلت بصفة نهائية لا رجعة فيها تلك الشروط الخاصة بالرد الذي قدمه ماركس على التحدي المعاصر له في التاريخ الأوروبي. وأحد تفسيرات انهيار المعسكر الشرقي السوفياتي هو تخلفه في ميدان المنافسة التقنية، فقد فاز البحر في المبارزة التكنولوجية على البر في مجال الأثيروكراتيا–التقنيات العالية المرتبطة بالاختراعات الإستراتيجية في ميدان الكونيات. فما الذي يعنيه ذلك من وجهة نظر جدلية التاريخ؟ تحدي المحيط الذي تم اكتشافه، التحدي الذي قبله الأنجلو سكسون، أعطوا ردهم المتمثل في الوثبة التقنو-صناعية، انسكب في الحضارة الغربية المعاصرة، أخضع العالم بأسره واكتسب شكلا نهائيا في الأوتوقراطيات الكونية لأميركا، نفس القارة التي باكتشاف كولومبوس لها ابتدأ العالم المعاصر. وقد ختم هذا التحدي تجليه التاريخي في انهيار المعسكر الشرقي، في البيروسترويكا وسقوط الاتحاد السوفياتي، فسلطان البحر مطلق منذ الآن تجسد في سيطرة الغرب التكنوقراطي. وهذا المشهد على نحو ما يشبه حالة الأرض عندما بدأت مغمورة بالماء، ثم انحسر بالتدريج في صراع طبيعي بين الماء واليابسة، لكن اليابسة الأرض هي أم الوجود الإنساني، فلماذا سقط هذا النظام؟ وهو الأصل والنظام التقليدي في الطبيعة؟ أحد تفسيرات انهيار المعسكر الشرقي السوفياتي هو تخلفه في ميدان المنافسة التقنية، ونهايته تعني الانتصار النهائي للبحر وفي معرض التوكيد على وجود الماء قبل اليابسة يلمح سفر التكوين في التوراة إلى شيء من أولوية الفوضى بمقارنتها مع النظام، فهل كان انتصار البحر الأطلسي الأميركي الأنجلوسكسوني انتصار الفوضى على النظام؟ والأساطير الهندو أوروبية تؤكد في مجموعة كبيرة من الموضوعات، ويمكن الافتراض إلى حد ما أن الأرض هي ماء مكثف، أما في مصطلحات الجغرافيا، فالأرض هي قاع المحيط المتحرر من الماء، وما التاريخ البشري بأسره في نهاية المطاف إلا فصلة موسيقية بين الومضة الأولى للنجمة السحرية وبين الطوفان الكوني. إن نهاية المعسكر الشرقي تعني الانتصار النهائي للبحر، وكل محاولات التصدي لمنطقه وتركيبته بمساعدة وسائل تقنية أثبتت عجزها، فدورة التاريخ البشري قد بلغت خاتمتها باختراقها قطبي الطبيعة السكونيين، وهذا ما أحاطنا به عالم أميركي يحمل كنية يابانية (نهاية التاريخ/ فوكوياما).