رغم اتجاه ميانمار إلى بدء مرحلة جديدة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية بهدف التخلص من تبعات الحكم العسكري الذي حكم البلاد منذ عام 1962، وجذب الاستثمارات الغربية، والأمريكية تحديدًا؛ فإن ذلك لم يتزامن مع وقف انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الملف الذي بات يمثل أحد أهم العقبات التي تقف أمام استمرار عملية التغيير في ميانمار، إذ تواجه أقلية “الروهينجيا” في إقليم راخين (أراكان) غربي ميانمار، أنماطًا مختلفةً من الاضطهاد والتمييز.
وقد اكتسبت هذه القضية زخمًا خاصًّا بعد تجدد الصدامات العرقية بين مسلمي هذه الأقلية و”البوذيين” الذين يمثلون أغلبية سكان الإقليم خلال الفترة الماضية، وهو ما دفع السلطات البورمية إلى إعلان حالة الطوارئ في الإقليم، لا سيما بعد أن أسفرت المواجهات الأخيرة بين الجانبين عن مقتل 200 ونزوح أكثر من 110 آلاف شخص.
وتعود أحداث العنف التي تشهدها ميانمار إلى الرؤية العنصرية التي تتبناها الدولة والأغلبية البوذية تجاه مواطني أقلية “الروهينجيا”، ففضلا عن اعتبارهم “مستوطنين غير شرعيين” قدموا من بنجلاديش المجاورة، فإن السلطات لا تقدم أرقامًا دقيقة عن ضحايا العنف من مسلمي تلك الطائفة، في حين تعتبرهم وسائل الإعلام “إرهابيين نازحين”.
وقد أثار استمرار عمليات العنف العرقي في ميانمار اهتمام العديد من المنظمات الحقوقية الدولية مثل “منظمة العفو الدولية” و”هيومن رايتس وتش” التي اتهمت السلطات الأمنية في ميانمار بتنفيذ عمليات اعتقال جماعية بحق المسلمين وحرق منازلهم، وهو ما يرد عليه النظام الحاكم في ميانمار بالتأكيد على أن حل مشكلة “الروهينجيا” غير ممكن إلا بطردهم من البلاد، وقيام الأمم المتحدة بإعادة توطينهم في دولة أخرى.
انتهاكات مستمرة
يمكن القول إن ما يتعرض له مسلمو ميانمار من اضطهاد عرقي ليس بجديد، فمنذ استقلال البلاد عن بريطانيا في عام 1948، تتعرض “الروهينجيا” لانتهاكات متعددة، خصوصًا بعد صدور قانون الجنسية في عام 1982، الذي ينتهك كافة المبادئ والأعراف الدولية المتعارف عليها بتجريد “الروهينجيا” من حقوقهم في المواطنة، ومن تملك العقارات، وممارسة الأنشطة التجارية، وتقلد الوظائف في الجيش والهيئات الحكومية، ومنعهم من التصويت في الانتخابات البرلمانية، أو تأسيس منظمات وممارسة أنشطة سياسية، وفرض ضرائب باهظة عليهم، وحرمانهم من مواصلة التعليم العالي، والحد من تنقلاتهم وسفرهم إلى الخارج.
ولم يكن الجانب الديني والعقائدي بمنأى عن تلك الممارسات القمعية، حيث تشير تقارير عديدة للمنظمات الدولية الحقوقية إلى قيام السلطات بهدم بعض المساجد والمدارس الدينية في المناطق التي يقطنها “الروهينجيا”، ومنع استخدام مكبرات الصوت عند الأذان، والسماح لعدد قليل من مسلمي “الروهينجيا” بأداء فريضة الحج.
ويشير تقرير المفوضية العليا للاجئين إلى أن مسلمي “الروهينجيا” يتعرضون لكل أنواع الاضطهاد، منها العمل القسري، والابتزاز، وفرض قيود على التحرك، وانعدام الحق في الإقامة، والخضوع لقواعد الزواج الجائر، ومصادرة الأراضي التي يمتلكونها. وقد دفع ذلك الأمم المتحدة إلى اعتبار مسلمي “الروهينجيا” “إحدى الأقليات الأكثر تعرضًا للاضطهاد في العالم”، بينما أشارت بعض وسائل الإعلام إلى أن الانتهاكات التي يتعرض لها مسلمو “الروهينجيا” ترقى إلى مرتبة “التطهير الجماعي”، رغم الخطوات الديمقراطية التي تتخذها ميانمار.
مشكلة عابرة للحدود
الملفت للانتباه في هذا السياق أن تدهور أوضاع مسلمي “الروهينجيا” أنتج تداعيات مهمة امتدت إلى دول الجوار، يأتي على رأسها لجوء عدد كبير منهم إلى هذه الدول، حيث يهاجر أغلب مسلمي “الروهينجيا” إلى بنجلاديش، في حين يذهب آخرون إلى ماليزيا وباكستان وبعض دول الخليج العربي خاصة المملكة العربية السعودية، وهو ما يمثل تصديرًا لمشاكل مسلمي ميانمار إلى دول الجوار. ورغم أن ذلك دفع تلك الدول إلى توجيه انتقادات حادة لانتهاك حقوق المسلمين في ميانمار، إلا أنه لم يمنعها من العمل على تقديم دعم مالي للسلطات لحل مشاكلهم وتحسين أوضاعهم داخل البلاد.
وربما يؤدي تزايد حالات استهداف مسلمي “الروهينجيا” إلى لجوئهم للعنف بهدف حماية مصالحهم، وهو ما يمثل تهديدًا لأمن واستقرار المنطقة، وقد انعكست هذه المخاوف في تصريحات سورين بيتسوان الأمين العام لمنظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) التي حذر فيها من أن استمرار العنف العرقي والطائفي في ميانمار بين بوذيي الراخين ومسلمي “الروهينجيا” قد يدفع هؤلاء إلى التطرف ويهدد الاستقرار في منطقة جنوب شرق آسيا بأسرها بما فيها مضائق ملقا التي تعتبر الممر المائي الرئيسي بين المحيطين الهندي والهادئ.
وفي ضوء ذلك، سعت الآسيان إلى تقديم مساعدات إنسانية عاجلة للتخفيف من وطأة الفقر ونقص المواد الغذائية، وإعادة إيواء النازحين في مناطقهم التي شردوا منها، وبناء منشآت صحية، وتقديم مساعدات لدعم الاقتصاد والبنية التحتية، مع حث حكومة ميانمار على مراجعة سياساتها تجاه حقوق المواطنة لأقلية “الروهينجيا” المسلمة وجرائم التطهير العرقي التي تمارس بحقها. وربما يدفع استمرار الانتهاكات ضد المسلمين وتفاقم الأوضاع، منظمة الآسيان إلى فرض عقوبات سياسية ودبلوماسية واقتصادية ضد حكومة ميانمار التي كشفت عن سوء فهم للديمقراطية، حسب كثير من مسئولي الآسيان، ورفضت التعاطي بجدية مع النداءات الدولية لها كي تتحمل مسئولياتها تجاه مسلمي “الروهينجيا”.
وفي السياق ذاته، طالبت منظمة المؤتمر الإسلامي الدول الأعضاء والمجتمع الدولي بالتدخل السريع لدى حكومة ميانمار من أجل العمل على منع عمليات العنف والقتل التي تتعرض لها الأقلية، وتقديم المسئولين عن هذه الأعمال إلى العدالة. كما أن دولا مثل باكستان والهند وبنجلادش والصين ليس بوسعها أن تغض الطرف، لفترة طويلة، عن الضغوط الداخلية والخارجية التي تدعوها للتدخل من أجل إجبار حكومة ميانمار على مراجعة سياساتها، والكف عن ممارساتها المناهضة للديمقراطية، وانتهاك حقوق مسلمي “الروهينجيا” بما يجنب منطقة جنوب شرق آسيا مخاطر زعزعة الأمن وعدم الاستقرار، لا سيما في ظل تنامي مشاعر الكراهية وتصاعد حدة الصراعات الطائفية والعرقية، وهو ما يمكن أن يوفر فرصة لبعض الجماعات المتطرفة التي تتبنى شعارات قومية أو دينية لاستغلال اضطهاد مسلمي “الروهينجيا” بهدف توسيع دائرة نفوذها وأعمالها الإرهابية. المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية