https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

ثمة شيء ممتع في الكشف عن وثائق دولة سرية عمرها عشرات السنين. أحياناً تصبح الأسرار الكبيرة بعد سنوات أموراً لا طعم لها وتقريباً تافهة، لأن عمر أسرار الدولة بشكل عام قصير وموضوعي. ولكن لا ينطبق هذا الحال عندما تقرر الدولة أن هناك فترة من السرية غير محدودة زمنياً بخصوص مواضيع معينة، وهذا هو الوضع التاريخي المعتم للنووي الإسرائيلي.

الطريقة شبه الوحيدة التي يستطيع مؤرخو التوثيق التعرف بها على التاريخ النووي الإسرائيلي، هي الوثائق الرسمية لدول أخرى، وخاصة الولايات المتحدة. في السنة الماضية، كشفت وزارة الخارجية الأمريكية عدة وثائق كانت مصنفة كسرية في موضوع ديمونا، وواحدة منها على الأقل تلقي ضوءاً جديداً على السر وحراسه، بل وتبقينا اليوم مع قدر ضئيل من السخرية. نشرنا، أنا زميلي بيل بار، في الشهر الماضي الوثائق كجزء من مجموعة شاملة تضم 32 وثيقة تتناول الموضوع النووي الإسرائيلي في 1964- 1965، والتي نشرت هذه الشهر في موقع أرشيف الأمن القومي في واشنطن.

في الأسبوع الأول من شباط 1965، حصلت الإدارة الأمريكية على وثيقة مدهشة فيما يتعلق بوضع البرنامج النووي الإسرائيلي. يدور الحديث عن محضر لإحاطة قُدّمت للطاقم السياسي الرفيع في السفارة الأمريكية في تل أبيب من قبل بروفيسور أمريكي شاب وواعد من جامعة هارفرد لدى نهاية زيارته لإسرائيل. كانت تلك هي الزيارة الثانية للبلاد خلال 3 سنوات لذلك البروفيسور الخبير العالمي في السياسة والاستراتيجية النووية-هينري كيسنجر. رغم أن الوثيقة لم تشر إلى من دعاه إلى البلاد، إلا أن جهة كبيرة جداً في المؤسسة الأمنية قررت أنه يجدر بأن تتحدث القيادة السياسية- الأمنية في إسرائيل -ومنها رئيس الحكومة ووزير الدفاع ليفي اشكول، ونائبه في وزارة الدفاع شمعون بيرس، ورئيس الأركان يتسحق رابين، وعدد من جنرالات الجيش الإسرائيلي وكبار العلماء- مع ذلك البروفيسور.

يتضح من الوثيقة التي نشرتها السفارة أن من تحدثوا مع الضيف الأمريكي قد تحدثوا بصراحة وشاركوه في تفكيرهم الاستراتيجي، وكشفوا خلال ذلك عن نوايا إسرائيل الخفية في الموضوع النووي، وهي أمور امتنعت بصورة شديدة عن مشاركتها مع ممثلين رسميين أمريكيين. من تحدثوا مع كيسنجر تحدثوا بحرية وربما بافتراض أنه سيفهم بنفسه ضرورة السرية، ولكن ما حدث كان مغايراً؛ فقد ساعد كيسنجر مستمعيه الإسرائيليين بتقييماته ونصائحه ولكنه شارك ما سمعه منهم مع رجال السفارة. الوثيقة التي كانت مصنفة “سرية” والتي أصدرتها السفارة هي -حسب تقديري- جزئية. هي بالطبع لا تغطي كل ما عرفه كيسنجر في زيارته للبلاد، وكما يبدو أيضاً ليس كل ما تحدث عنه. هذه وثيقة عامة واستراتيجية وما زالت ممتعة حتى من على بعد 55 عاماً.

استهل كيسنجر تقريره بالحديث عن الفرق الذي شعر به ما بين زيارتيه لإسرائيل: في حين أن بن غوريون رئيس الحكومة قام في سنة 1962 باستجوابه مطولاً بخصوص الضمانات الأمنية الأمريكية وأظهر اهتماماً كبيراً بها، فإنه “لم يتطرق أحد هذا المرة إلى موضوع الضمانات بجدية”. شعر كيسنجر بالاستهزاء والتشكك من جانب الإسرائيليين بالنسبة لقدرة واستعداد الولايات المتحدة على تنفيذ تعهداتها الأمنية لحلفائها في العالم بشكل عام وليس لإسرائيل فقط.

في الموضوع النووي، قال كيسنجر إن شمعون بيرس هو “بطل تطوير السلاح النووي كتجسيد للردع المطلق”. ثم أشار إلى فرق كبير في النغمة وطريقة التناول ما بين كلتا الزيارتين: في 1962 كان المتحدثون معه “قلقين ومترددين” بشأن: هل السلاح النووي ضروري حقاً، وفيما إذا كان لإسرائيل قدرة على تطويره. أما الآن فقد كان هؤلاء واثقين وحازمين.

فوجئ كيسنجر من أن العلماء الذين قابلهم ومعهم وايزمن في بئر السبع، كانوا كما يبدو كبار العلماء في مركز الأبحاث النووية (الأمر الذي يعني أن منظم اللقاء مع العلماء كان بالتأكيد بيرس، الذي بمصادقته فقط كان بالإمكان عقد لقاء كهذا) ويؤيدون تطوير سلاح نووي بصورة صريحة، على الرغم من تقييدهم لهذا بالقول إن الأهم لإسرائيل ألّا تبدو وكأنها تجلب مثل هذه الأسلحة إلى المنطقة. وقال كيسنجر إن العلماء طرحوا سببين لتبرير تطوير سلاح نووي: الخوف من أن يطور المصريون سلاحاً كهذا قبلهم، والتشاؤم بخصوص قدرة إسرائيل على الحفاظ على تفوقها التقليدي للمدى الطويل. وكما نشر في الماضي، كانت هذه الادعاءات التي استخدمها بيرس في تلك الأيام للدفع قدماً بالمشروع النووي.

حسب الوثيقة “شعر كيسنجر بأن إسرائيل لا تبدو وكأنها تدخل سلاحاً كهذا إلى المنطقة”، ولكنه قيد هذ بقوله إنه “غير خاضع لسيطرة مطلقة”. وأنهى إحاطته بقوله في هذه اللحظة الزمنية 1965: “لا يمكن لشيء -باستثناء ضمانات أمنية أمريكية صلبة كالفولاذ- إقناع الإسرائيليين بالتخلي عن تطوير سلاح نووي. ويواصل المحضر: “رداً على أحد الأسئلة، قال كيسنجر إنه شخصياً مقتنع بأن إسرائيل أصبحت موجودة في خضم برنامج لبناء سلاح نووي”.

في ذلك الوقت، يبدو أن بوادر فلسفة “الضبابية النووية” قد ظهرت لدى كيسنجر للمرة الأولى. يصعب قراءة الوثيقة دون الشعور بأنه تعامل بتفهم كبير -إن لم نقل بتعاطف- مع الطريقة الحذرة والحازمة، التي تشق بها إسرائيل طريقها إلى القدرة النووية. ستنضج هذه البوادر وتصبح ثماراً سياسية حقيقية في 1969 عندما سيوجه كيسنجر (الذي أصبح حينئذٍ مستشاراً للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون) عملية قبول إدارة نيكسون وتسليمها بالطابع الفريد، الذي يحول إسرائيل إلى دولة نووية. ستتحول هذه الثمار إلى موافقة صامتة في اللقاء وجهاً لوجه ما بين رئيسة الحكومة جولدا مائير والرئيس نيكسون في أيلول من ذلك العام، والذي ولدت فيه فعلياً سياسة الضبابية كسياسية ثنائية القومية. 

بقلم: افنر كوهن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 1 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube