https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تأليف: إدريك فروم
الإنسان صانع تاريخه، مبدعه، يغير وجه الحياة بالعمل، ويدخل في علاقات اجتماعية مع أقرانه، من خلالها ينتج، ويبدع، ويطور، ويراكم خبرات وتجارب، ويكتسب ملايين المعارف، وهو الكائن الوحيد الذي يستفيد من كل تجاربه السابقة، ولذلك فهو الكائن الوحيد الذي يستحق لقب “تاريخي”، الإنسان – الذي استطاع – بنتاج عمله – أن ينتقل من الحالة الطبيعية الفطرية القائمة علي الحس الغريزي إلي الحالة المدنية المرتكزة علي مجتمع منظم (أحزاب – نقابات – دولة)، هو “كنز” كل الحركات السياسية والفلسفية، تسعي لتفسير سلوكه، وعلاقته بالطبيعة والدين وبالعلم، وقدرته علي السيطرة علي الواقع الاجتماعي.
ولم تشهد أي نظرية سياسية أو فلسفية تشويهاً لموقفها من الإنسان/الفرد مثلما شهدت الماركسية، فأيدلوجية الرأسمالية وبعض الماركسيين المبتذلين مارسوا دعاية فجة ساهمت في تشويه فظ لمفهوم الماركسية عن الإنسان.
وتمثل هذا التشويه في العديد من المقولات التي أصبحت – إلي حد كبير – ثوابت تستخدم في دحض وتزييف محتوي الماركسية. ومن هذه المقولات:-
<!–[if !supportLists]–>1- <!–[endif]–>أن ماركس ينكر تماماً دور الفرد، وأنه لم يقدر ويفهم الحاجات الروحية للإنسان، وأن مثاله “هو الإنسان حسن التغذية والكساء والمعدوم الروح” علي حد تعبير إريك فروم. الإنسان الذي ليست له أي خصوصية فردية ويعيش كجزء من جماعة، فيما يشبوا ذلك أعداد الماركسية بـ “روح القطيع”.
<!–[if !supportLists]–>2- <!–[endif]–>هل الماركسية – كما يدعي البعض – تدعو بمشاغبة جنسية.
<!–[if !supportLists]–>3- <!–[endif]–>أن تعاليم ماركس تجد أنقي تطبيق لها في التجربة السوفيتية، هذا التصور الذي تلقفه أعداء الماركسية وأبرزوا الاتحاد السوفيتي – بالجرائم التي ارتكبت فيه – في صورة الفردوس الاشتراكي الذي تحدث عنه ماركس.
هذه التساؤلات هي محور كتاب “مفهوم الإنسان عند ماركس” للعالم النفسي “إريك فروم”. وإريك فروم في هذا الكتاب لم يفعل شيئاً سوي أنه ترك ماركس يجيب علي هذه الادعاءات الفجة، من خلال تسليط الضوء علي كتابات ماركس يري “فروم” أنها لم تأخذ ما تستحق من القراءة والتحليل كالمخطوطات الفلسفية والاقتصادية والتي يرتكز عليها جزء كبير من عمل “فروم” ونبدأ الآن رحلة الإبحار مع إريك فروم في فكر ماركس، تاركين ماركس يدحض تلك الادعاءات ويكشف عن جوانب الثراء الروحي والنفسي الكامنة في الفكر الماركسي.
الإدعاء الأول:
من المعتقد حتى الآن، أن الدافع الأعظم للإنسان – عند ماركس – هو ميله للراحة والكسب المادي، وأن سعيد من أجل الفائدة المادية القصوى يشكل الحافز الرئيسي في حياة الإنسان الفردية وفي تطور الجنس البشري، إضافة إلي الاعتقاد واسع الانتشار بإنكار ماركس لأهمية الفرد.
ويؤكد أصحاب هذا التأويل أن مفتاح فهم التاريخ – في هذه الحالة – هو الرغبات المادية ، وبالتالي فإن مفتاح تفسير التاريخ هو معدة الإنسان وجشعة للحصول علي الإشباع المادي، وهذا التأويل بالطبع خاطئ وزائف تماماً، بالفعل كل إنسان في حاجة إلي طعام ومأوي، ولكنه لكي يحصل علي هذا الاحتياج لابد وأن يعمل – إي يقوم بإنتاج – ويدخل في علاقات إنتاج اجتماعية مع أقرانه، ولهذا السبب – يؤكد فروم – أن أسلوب الإنتاج الذي يستند إلي جملة من العوامل الموضوعية، يبرز كعامل أولي ويحدد المجالات الأخرى لفعالية الإنسان، وهكذا فإن الشروط الموضوعية المعطاة التي تقرر أسلوب الإنتاج من ثم التنظيم الاجتماعي – أي أسلوب وقوي الإنتاج – تحدد الإنسان وأفكاره بمقدار ما تحدد مصالحه، وهنا يبرز ماركس الدور الذي يلعبه نمط الإنتاج السائد في تكوين دوافع الفرد، وتقسيم ماركس الدوافع إلي نوعين “دوافع ثابتة التي تتواجد في كل الظروف والتي لا تساهم الشروط الاجتماعية سوي في إعطاءها شكلاً واتجاهاً جديدين كالجنس والحاجة للغذاء، “والدوافع النسبية” التي تتأثر بنمط الإنتاج السائد، ويؤكد ماركس أن غلط الإنتاج الرأسمالي – تحديداً – هو الذي جعل مصلحة الإنسان في المال والكسب هي محركه الرئيسي، ويدلل ماركس علي ذلك بأن هذا الدافع لم يكن محرك الإنسان في أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، فقد خلقت هذا الأنماط رغبات مغايرة [كالزهد واحتقار الثروة الدنيوية] كما هو ملاحظة في الثقافات الشرقية وفي المراحل الأولي لنمو الرأسمالية. وطبقاً لماركس فإن شغف المال والملكية هو تماماً مشروط اقتصادياً وبالشكل ذاته المشروطة فيه الأهواء المعاكسة”
وتتميز مادية ماركس في نظرتها للإنسان عن مادية هيجل، ففي حين يفترض هيجل وجود روح مطلقة أو مجرد، تتطور بطريقة لا يكون فيها الإنسان – حسب تعبير ماركس – سوي مجرد كتلة تحمل هذه الروح سواء بشكل واع أو لا واع، ويفترض أيضاً أن التاريخ الخفي يسبق ويبطئ التاريخ التجريبي، وبهذا يصبح “تاريخ الجنس البشري – لدي هيجل – هو تاريخ الروح المجرد للجنس البشري التي تتعالى علي الإنسان الواقعي”. نجد أن ماركس ينطلق من دراسة الحياة الاجتماعية والاقتصادية الواقعية للإنسان ودراسة تأثير طريقة حياة الإنسان الفعلية علي عملية تكون فكره وشعوره، كتب ماركس “إن التعارض مع الفلسفة الألمانية التي تنطلق من السماء نزولاً إلي الأرض، هو أننا نصعد من الأرض إلي السماء، أي إننا لا ننطلق مما نتخيله أو نتصوره، أو من البشر كموضوع مروي، مفكر به، متخيل، ومتصور من أجل الوصول إلي الإنسان في لحمه. أننا ننطلق من البشر الفعليين الواقعيين لأننا علي أساس دراسة تقدم حياتهم الواقعية سنظهر تطور الأصداء والانعكاسات الأيدلوجية لهذا التقدم – في مفهوم ماركس – من خلال العمل والذي يري ماركس أنه “عملية يتشارك فيها الإنسان مع الطبيعة، وفيه يدير طوعاً وينظم ويسيطر علي تفاعلاته المادية مع الطبيعة، أنه يضع ذاته في العمل بمواجهة الطبيعة كواحد من قواها، وأنه من خلال العمل في العالم الخارجي وتغييره، يقوم بتغيير طبيعته وقواه الهاجعة”. فلإنسان – حسب ماركس – يتغير في مجري التاريخ أنه يحول نفسه،إنه نتاج التاريخ، والتاريخ العالمي ليس سوي عملية الخلق الذاتي للإنسان “إن مجمل ما يدعي بالتاريخ العالمي ليس إلا عملية خلق الإنسان بواسطة العمل”.
وبالنسبة لماركس فالإنسان المنتج (العمل) هو الإنسان الحي الذي يحقق جوهره في العملية الإنتاجية، بقدر ما يكون الإنسان غير المنتج سلباً ومتلقياً، وهنا يكون مفهوم الفرد المنتج في تضاد مع الفرد المتلقي، الفرد المنتج المبدع المندرج في علاقات إنتاج مع إقرانه يتطور من خلالها كطاقة حيوية خلاقة.
ولكننا لن نستطيع أن نفهم جيداً مفهوم ماركس عن الإنسان المنتج بدون أن ندرك مفهوم نفي الإنتاجية أو الاغتراب. ومفهوم الاغتراب ليس بعيداً عن الفلاسفة السابقين لماركس، إلا أن مفهوم الاغتراب بالنسبة لماركس يتم التعبير عنه في العمل وفي تقسيم العمل، فالعمل – حسب ماركس – هو التواصل الفعال للإنسان مع الطبيعة، وخلق عالم جديد، بما فيه خلق الإنسان لذاته.
إلا أنه عبر تطور الملكية الخاصة وتقسيم العمل، يفقد العمل صفته كتعبير عن طاقات الإنسان، حيث يتخذ العمل ونتاجه وجوداً منفصلاً يقف في مواجهة العمل ككائن مغرب، كقوة مستقلة عن المنتج، وهنا يشدد ماركس علي نقطتين. (1) في تطور العمل وخصوصاً في ظل شروط الإنتاج الرأسمالي ويقضي الإنسان عن قواه المبدعة. (2) إن موضوعات عمله تصبح موجودات مضربه تقوم بالتحكم به في أخر الأمر. وحسب ماركس “إن النتيجة المباشرة لاغتراب الإنسان عن نتاج عمله عن فعاليته الحياتية وعن حياته النوعية، هي اغتراب الإنسان عن البشر الآخرين. فعندما يوجه الإنسان ذاته فهو يواجه أيضاً الآخرين، فما هو صحيح عن علاقة الإنسان بعمله، وبنتاجه، وبذاته، هو صحيح أيضاً عن علاقته بالآخرين بعملهم، وبمواضيع عملهم. بشكل عام إن الإقرار بحقيقة أن الإنسان مغرب عن حياته النوعية يعني أنه مغرب عن الآخرين وأن كل واحد من الآخرين هو بالمثل مغرب عن الحياة الإنسانية”.
إن مفهوم الإنسان لدي ماركس هو الإنسان الفعال – المنتج لا المتلقي – الذي يدرك ويعانق العالم الموضوعي بواسطة قواه الذاتية الفاعلة – ليس الفرد المنتمي لجماعة تتحرك بـ “روح القطيع” – اللامغرب عن نتاج عمله
إن نقد ماركس للرأسمالية ليس فقط لانعدام العدالة في توزيع الدخل، ولكنها جعلت عمل الإنسان مغرباً مستقلاً عنه، وحولته إلي شئ شاذ مشلول وملحق بالآلة. ولذلك فالهدف الرئيسي لماركس هو إنعتاق الإنسان من كل قيوده الحتمية والاقتصادية، واغترابه عن ذاته وعن حياته الإنسانية.
الإدعاء الثاني:
“وصف ماركس الأفكار التي كانت تدعو المشاعية الجنسية، بالشيوعية الفظة”، وفي صراعه مع الشيوعية التي تدعو إلي مشاعية العلاقات الجنسية يكتب ماركس نصاً بالغ الدلالة يوضح فيه مفهومه للدلالة المركزية للحب:-
“في العلاقة مع المرأة كفريسة وخادمة للشهوة المشاعية، يتم التعبير عن الانحطاط اللامتناهي الذي يوجد فيه الرجل من آجل ذاته. لأن سر هذه العلاقة يجد تعبيره الظاهرة، المكشوف، الجلي، والذي لا يقبل الجدل، في علاقة الرجل والمرأة، وفي الطريقة التي يتم فيها تصور العلاقة النوعية الطبيعية والمباشرة.
إن العلاقة الضرورية، الطبيعية، والمباشرة ككائن إنساني بكائن أخر، تتمثل أيضاً في علاقة الرجل بالمرأة، ففي هذه العلاقة النوعية والطبيعية تكون علاقة الإنسان بالطبيعة، هي، مباشرة، علاقته بالطبيعة:هي علاقته بوظيفته الطبيعية. هكذا فإن هذه العلاقة يتم الأطهار المحسوس للدرجة التي أصبحت فيها الطبيعة الإنسانية، طبيعة بالنسبة للإنسان، والدرجة التي أصبحت الطبيعة، طبيعة لإنسانية للإنسان. فمن هذه الطبيعة يمكن تخمين المستوي الشامل لتطور الإنسان. كما نتج عن طبيعة هذه العلاقة الحد الذي يصبح فيه الإنسان، ويفهم فيه ذاته، ككائن نوعي، وككائن إنساني. إن علاقة الرجل والمرأة هي العلاقة الأكثر طبيعية للكائن الإنساني مع الكائن الآخر. إنها تبين بالتالي الدرجة التي أصبح فيها السلوك الطبيعي للإنسان، إنسانياً، والدرجة التي أصبح فيها جوهره الإنساني، جوهراً طبيعياً بالنسبة له، والدرجة التي أصبحت فيها طبيعته الإنسانية، طبيعية بالنسبة له، كما أنها تظهر إلي أي حد أصبحت حاجات الإنسان ذات طابع إنساني، وبالتالي، الحد الذي أصبح فيه الشخص الآخر،؟؟؟؟ واحداً من حاجاته، وإلي أي درجة أصبح فيه الإنسان في وجوده الفردي، كائناً اجتماعيا.”
وأعتقد أن هذا النص – الذي ورد في المخطوطات الفلسفية والاقتصادية – بعدة الدلالة لا يحتاج إلي تعليق حول أهمية الحب – حسب ماركس – في تطور الطبيعة الإنسانية للإنسان – ووضع المرأة ككائن نوعي، وإنساني يتطور في العلاقة بالكائن النوعي/ الإنساني الآخر.
الادعاء الثالث: (أ)
يطرح فروم أن لو كان ماركس قد عايش التجربة السوفيتية لرفض اعتبارها أي نوع من أنواع الاشتراكية الحقيقية ولكان نقده لها لا يختلف كثيراً عن نقده لحركات الشيوعية الفظه فالجماعة الشيوعية الفظة… هي جماعة وتساوي الأجور المدفوعة من قبل رأس المال المشاعي، من قبل الجماعة كرأسمالي كلي. إن طرفي العلاقة يرفعان .. إلي شمولية مزعومة: العمل كشرط يوضح فيه الكل، ورأس المال بوصفة الشمولية والسلطة المعترف بها للجماعة”. ويؤكد فروم أن وضع العامل في المصنع الاشتراكي الروسي، وفي المصنع البريطاني المملوك للدولة أوفي مصنع كجنرال موتورز، كان سيبدو لماركس، جوهرياً، في وضعية واحدة: هذا الشيء الذي يعبر عنه ماركس بشكل واضح جداً في النص التالي:
“إن زيادة مفروضة للأجور (متجاهلة المصاعب الأخرى) لن تكون شيئاً أكثر من تعويض أفضل للأرقاء، ولن تعيد للعامل ولا للعمل معناها وقيمتها الإنسانيتين. بل أنه حتى المساواة في الداخل التي يطالب بها “برودون” لن تساهم سوي في جعل علاقة عامل اليوم بعمله، علاقة ككل البشر مع العمل إن المجتمع يمكن تصوره آنئذ بوصفه رأسمالياً مجرداً”
حسب “إريك فروم”، يبدو واضحاً من العرض السابق أن الاشتراكية ليست مجتمع الأفراد الآليين وذوي الاتساق الواحد، بغض النظر عن تساويهم في الداخل أم لا، أو عن كونهم حسني التغذية والكساء. إنها ليست مجتمعاً يخضع فيه الفرد للدولة، وللآلة البيروقراطية، فحتى لو كانت الدولة “كرأسمالي مجرد” هي رب العمل، بل حتى إذا “كان رأس المال الاجتماعي الكلي موجداً في أيدي إما رأسمالي واحد، أو شركة رأسمالية واحدة” فإن هذا ليس الاشتراكية.
(ب) وعلي الرغم من أن نقد إريك فروم للاتجاه السوفيتي كان نقداً وجودياً معتمداً علي أطروحات حركة الاشتراكية الإنسانية أي ظهرت كتيار بعد ثورة المجر في 1956 والتي قمعتها الدبابات الروسية وعلي الرغم من كون هذا النقد لا يستند إلي تحليل ماركس لطبيعة علاقات الإنتاج في الاتحاد السوفيتي فهو يوضح بشاعة ذلك النظام وتشابهه مع الرأسمالية الغربية من حيث اغتراب الطبقة العاملة وغياب الحرية والتحقق الإنساني.
إن فروم لا يطرح نفس التحليل الذي نطرحه نحن حول الطبيعة الرأسمالية للاتجاه السوفيتي ولكنه يوضح بما لا يدعو للشك أن الاشتراكية التي كتب عنها ماركس لا تمت بصلة لما كان موجوداً في الاتحاد السوفيتي منذ الثلاثينات.
إن الاشتراكية في مفهوم ماركس – حسب فروم – تهدف إلي خلق نمط من الإنتاج ونظام للمجتمع، ويصبح فيه بإمكان الإنسان قهر الاغتراب عن نتاجه، عن عمله، عن أخيه الإنسان، عن ذاته، وعن الطبيعة – فيه يمكن أن يعود إلي ذاته، وأن يعانق العالم بقواه، أي أن يصبح متوحدا مع العالم.
فالاشتراكية بالنسبة لماركس هي – كما بينها “بول تيكيتش” “حركة احتجاج ضد تدمير الحب في الواقع الاجتماعي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 + 4 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube