https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

كتب محمد خير الوادي

قبل اربعة عقود ، اعتمدت بكين في سياستها الخارجية معادلة مكنتها من انجاز معجزة حقيقية في التطور والابداع ،اثمرت عن   نقل الصين من خانة البلدان النامية الى  الى مصاف الدول الاولى في العالم .  وقد تجلت تلك المعادلة بالسمات التالية :

اولوية الاقتصاد على السياسة  في التطور الداخلي والعلاقات الخارجية ، وصفر مشكلات مع العالم ، والتزام الحد الادنى من الايديولوجيا  داخليا وخارجيا .

 وقد تجسدت   هذه المعادلة  في ممارسات القيادة الصينية على شكل سياسة الاصلاح الداخلي القائمة على مبدأ تنشيط القطاع الخاص ، ومنح الشركات الاجنبية ميزات تفوق مثيلاتها الصينية . وتجلت تلك المعادلة ايضا  في مبدأ آخر هو الانفتاح على العالم ، والذي مكٌن الصين من جذب الاستثمارات الاجنبية -وفق المبدأ الذي اطلقة ابو الاصلاح الصيني  دينغ شياو بينغ- وهو: لا يهم لون القط ، المهم ان يأكل الفئران .  بمعنى، لا يهم لون الاموال  والشركات الاجنبية القادمة الى الصين سواء كانت غربية اوشرقية  ، المهم ان تغذي شرايين الاقتصاد الصيني الشرهة بالاموال والتقانة المتقدمة . كما تركت المعادلة الآنفة الذكر بصماتها في النهج الذي مارساته القيادات الصينية باجيالها الاربعة ،والذي تمثل في تجميد المشكلات الداخلية ، مثل الوضع في هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي ، واستخدام المرونة في التعامل مع المشكلات الدينية والقومية في شينجيان الويغورية والتيبت وتايوان  . وكانت حصيلة تلك المعادلة  تعزيز  القدرات المالية للصين ( بكين تملك  اكثر من اربعة ترليونات دولار ، هو اكبر احتياطي للعملات الاجنبية في العالم  ) ، وصناعيا ، باتت الصين مصنعا للعالم ، واقتصاديا غدا الاقتصاد الصيني المنافس الاقوى للاقتصاد الامركي  ، لا بل انه تفوق عليه في مجالات عدة مثل الذكاء الاصطناعي .

 ان وجود فائض مالي كبير وقوة اقتصادية وعسكرية متطورتين ، قد وفر الظروف المناسبة لحدوث تغييرات جوهرية في السياسة الصينية . فالعملاق الصيني لم يعد يقبل  بالقيود التي فرضها العالم الغربي على السياسة العالمية ، ولا يريد الاكتفاء بوضع عضو  في مجلس ادارة العالم ، بل هو يريد  ان يكون في مركز القرار العالمي .وقد عبرالرئيس شي جين بينغ الذي جاء الى السلطة عام 2013، عن هذا النزوع الصينيي الجديد .

فقد بدأت بكين – في ظل ادارة الرئيس شي – في تقوية  الجانب الايديولوجي  في الجبهة الداخلية . وقد تجلى ذلك في تعزيز سلطة الحزب الشيوعي الصيني ، و تنشيط حضور الفكر   الشيوعي ذي الخصائص الصينية ، وفرض التثقيف الشيوعي بين السكان . وبغية ضمان الاستمرار لهذا المنهاج،  تخلت بكين عن  مبدأ تناوب الاجيال في القيادة الصينية عبر  جعل الفترة الرئاسية مفتوحة بعد ان كان سقفها محددا بدورتين .  .وفي الجانب الاقتصادي ، تم التراجع عن الخط الاقتصادي الليبرالي الذي مارسه دينغ ، واعطيت  الاولوية  للدعم  المالي والحمائي  لشركات القطاع الحكومي ، وفرض قيود شديدة على الشركات الاجنبية . وعلى الصعيد الوطني الداخلي  ، تميزت المعادلة الجديدة بالتزام  الحزم تجاه الاوضاع في مناطق شينجيانغ وهونغ كونغ والتيبت وتايوان  والجزر المختلف عليها في بحر الصين الجنوبي . لكن التطور الاكثر تأثيرا في المعادلة الجديدة تجلى في اخضاع  الاقتصاد للسياسة الخارجية . وقد تمت ترجمة ذلك عمليا في تخصيص مئات  المليارات من الدولارات لانجاح  مبادرة الحزام والطريق التي تهدف الى تعزيز الحضور الصيني في العالم . كما تم التخلي  عن مبدأ الليونة  في العلاقات الخارجية والذي طبع السياسة الصينية تاريخيا  ،وعوضا عن ذلك ،تم اقرار نهج  هجومي  اقتحامي  في الدبلوماسية الصينية، واخضاعها لمبادرة الذئاب المحاربة  .

 ولا بد من القول ، ان هذه التغييرات العميقة التي حدثت في الصين خلال السنوات الماضية ، نالت رضى قطاعات واسعة من الشعب الصيني وفي مقدمتهم  مائة مليون عضو  في الحزب الشيويع الصينى  . وفي الوقت نفسه ، الٌبت هذه التغييرات العالم الغربي ضد الصين . وكانت نتيجة ذلك ، انتقال  العلاقات الامريكية الصينية من مرحلة الشراكة الى الخصام . كما ان الدول الغربية التي لم يعجبها نمو القوة الصينية ، رات في نهوض بكين  تهديدا  وجوديا لهيمنة الغرب . ولذلك بدأت امريكا والدول الغربية سلسلة من الخطوات لاحتواء الصين ، منها الحرب التجارية ،وتاجيج العداء للصين ، ومضاعفة الحضور العسكري الامريكي في جنوب شرق آسيا ، وتنشيط الاحلاف العسكرية المناهضة للصين ، وانشاء احلاف جديدة .

بكلمات ادق ، فان السلاسة  والثقة المتبادلة التي ميزت علاقات الصين مع الغرب خلال العقود الاربعة الاخيرة ،  على وشك الاختفاء ، وبات التوتر والشك المتبادل وذهنية الحرب الباردة ،هي المسيطرة اليوم على تلك العلاقات .

ومثل هذا التبدل  العميق ، سيخلق مزيدا من المشكلات امام الزحف الصيني . فالاموال الغربية لن تكون بعد اليوم متاحة امام الاقتصاد الصيني ، وابواب الاسواق الغربية لن تكون مفتوحة على مصاريعها امام السلع الصينية . وامريكا تنشط الآن لتأليب جيران الصين : الهند واوستراليا واليابان وغيرهم من دول تلك المنطقة على بكين . كما وضعت  الولايات المتحدة هدفا لها هو  محاربة النفوذ الصيني في افريقيا وامريكا اللاتينة وآسيا . وقد تجلى ذلك في السعي الامريكي للنيل من مبادرة الحزام والطريق ، واطلاق مبادرات غربية مضادة لابعاد الدول النامية عن الصين .

 خلاصة القول ، ان المرحلة الذهبية في علاقات الصين مع الغرب والتي استفادت بكين منها كثيرا  خلال عقود على وشك الانتهاء . والثابت ، ان  هذه العلاقات  ستكون خاضعة لذهنية الحرب الباردة ، وهو امر سيخلق مزيدا من العراقيل والمطبات امام استكمال بكين لنهضتها . والقيادة الصينية تدرك ، ان الوقت ليس لصالحها ، ولذلك  تسرع في تعزيز حضورها الدولي  قبل ان يستكمل الغرب فرض طوق العزلة عليها.

بكلمات اوضح  ، ان جهود الصين في تعزيز نفوذها  وقلب موازين القوة  في العالم يصطدم اليوم بعقبتين  كبريين : الاولى تتجلى في  المقاومة الغربية المستميتة للتقدم الصيني  ، والثانية   هي العقبة المالية . فبكين ستكون مضطرة لانفاق اموال طائلة  للحفاظ على  زخم نهوضها، وهو امر يفرض على القيادة الصينية الموازنة بين  الطموحات الخارجية  والمتطلبات الداخلية  التي تنمو باستمرار . هذه هي المعادلة الصعبة التي تقف امام بكين اليوم .

22/10/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × 5 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube