أدت كارثة تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء الى مسلسل من الأزمات أربكتقديرات القاهرة في تعاملاتها الخارجية، وفي توقعاتها للموسم السياحي،والأهم أثار الشكوك في سلامة ملف الأمن والاستقرار الداخلي، الذي يمثل أحدمصادر شرعية الحكم، وعنصراً مهماً لجذب الاستثمارات الخارجية. بعد سقوط الطائرة بساعات استبعد الجميع سيناريو إسقاطها بصاروخ، ومع الأيامالأولى التي تلت الفاجعة بدت القاهرة وموسكو أقرب إلى قبول سيناريو حدوثخلل فني أدى إلى سقوط الطائرة، وفي هذا الإطار تحركت القاهرة بعقلانيةوهدوء، ونجحت في الأيام الأولى في تقديم نمط جيد في التعامل مع الكارثة حيثسمحت بلجنة دولية للتحقيق في أسباب سقوط الطائرة، لكن سرعان ما حدث تصعيدسريع للأحداث اعتمد على ترجيح رواية سقوط الطائرة نتيجة انفجار قنبلة. الفرضية كانت صادمة، فكل ركاب الطائرة من الروس، والمعنى أن القنبلة وضعتعلى متنها في مطار شرم الشيخ، ما يشكك في دقة وسلامة إجراءات تأمين المطار،وربما كل المطارات المصرية. المفارقة أن لندن التي كان يزورها الرئيس عبدالفتاح السيسي كانت صاحبةمبادرة الإعلان عن هذا السيناريو، والذي ترافق مع وقف الرحلات البريطانيةإلى شرم الشيخ والإعلان عن إجراءات سريعة لإجلاء مواطنيها من شرم الشيخ،والحقيقة أن القرار البريطاني افتقر إلى قواعد اللياقة وعكس قدراً منالاستعلاء، حيث لم ينتظر رئيس الوزراء البريطاني الاجتماع بالرئيس السيسيأو التشاور معه، وافترض الجانب البريطاني أن المعلومات الاستخبارية التيوصلت إليه صحيحة تماماً، وبالتالي لم ينتظر نتائج التحقيق. لقد صار موقف لندن جزءاً من التاريخ، فالأهم الآن أن موسكو أعلنت نتائجالتحقيقات وأكدت أن قنبلة كانت وراء إسقاط الطائرة، وهو ما يطرح مهاماًوتحديات صعبة على القاهرة التي لا بد لها من إعادة حساباتها وإدارة الأزمةفي شكل جديد من الجوانب كافة. والشاهد أن القاهرة لم تستوعب سرعة ما جرى منحولها في لندن ثم تحول موقف موسكو، والإعلان عن وقف رحلات الروس إلى منتجعشرم الشيخ، بعد أن كان الرئيس بوتين قد أكد استمرارها، وحدث ما يمكن وصفهبالارتباك في الأداء العام الخارجي والداخلي للقاهرة نحو كارثة الطائرةالتي أدت إلى كثير من الأزمات السريعة، التي كانت بعيدة تماماً عن رؤيةوتقديرات القاهرة لتداعيات وآثار سقوط الطائرة على علاقتها الخارجية وعلىالأوضاع الأمنية والاقتصادية في الداخل. من هنا يمكن القول إن القاهرة فشلت في المرحلة الثانية من تطورات كارثةسقوط الطائرة والمرتبطة بترجيح سيناريو تفجيرها ومن ثم إيقاف الرحلاتالبريطانية والروسية إلى منتجع شرم الشيخ، وهنا ليسمح لي القارئ مناقشة بعضالملاحظات التي قد تساعد في تطوير إدارة القاهرة لكارثة الطائرة والأزماتالناجمة عنها، خصوصاً بعد إعلان موسكو أن الطائرة سقطت نتيجة انفجار قنبلة: أولاً: استكان الجانب المصري لفرضية سقوط الطائرة بسبب عطل فني، وتعامل علىهذا الأساس، لذلك عندما تصرف كل أطراف الأزمة على أساس التسليم بفرضيةتعرض الطائرة لعمل إرهابي اكتفى الجانب المصري بالدعوة إلى ضرورة انتظارنتائج التحقيقات، وهو موقف سكوني فيما كانت المواقف تتغير بسرعة، وبالتاليكان على القاهرة أن تتعامل بجدية مع فرضية العطل الفني، وفرضية العملالإرهابي، وتعلن مراجعة إجراءات تأمين مطار شرم الشيخ وغيره من المطارات،ولا شك أن على القاهرة الآن، وبسرعة، أن تبحث عن الأشخاص المتهمين بزرعالقنبلة على متن الطائرة، وأن تراجع وتطور في شكل كامل إجراءات سلامةمطاراتها، وتستعين في ذلك بخبرات هيئات أو شركات دولية من دون المساسبسيادتها الوطنية. ثانياً: انطلق الموقف المصري من مسلمتين، الأولى التعاون الوثيق بينالقاهرة وموسكو وتطابق مواقفهما تجاه عديد من القضايا خصوصاً محاربةالإرهاب، والمسلمة الثانية وجود تعاون دولي حقيقي في الحرب على الإرهابيبدأ بتبادل المعلومات الأمنية والاستخباراتية، ويبدو أن القاهرة لم تتفهمأنه لا وجود لمسلمات أو ثوابت في العلاقات الدولية، وإنما هناك مصالحمتغيرة. في هذا الإطار يهم موسكو أمن وسلامة مواطنيها، وقد أدركت بعد سقوطالطائرة أن تدخلها في سورية يعرض مواطنيها لاستهداف «داعش» والمنظماتالإرهابية، وبالتالي عدلت من موقفها وقررت إيقاف الرحلات الروسية إلى شرمالشيخ، ثم وفي مفاجأة من العيار الثقيل إيقاف رحلات «مصر للطيران» إلىروسيا، ليس نكاية في مصر وإنما لضمان أمن مواطنيها، والكلام نفسه يمكن أنيقال عن حسابات لندن والتي سبقت موسكو في إعلان موقفها، لكن تبقى مسلمةالتعاون الدولي في الحرب على الإرهاب والتي كانت محل عتاب وربما شكوى علنيةعلى لسان وزير الخارجية المصري الذي قال إن بلاده لم تطلع على المعلوماتالاستخبارية التي رجحت تعرض الطائرة لعمل إرهابي، ودفعت لندن لوقف رحلاتهاإلى شرم الشيخ، في سلوك يستخف بمكانة مصر، وهو أمر يتطلب من الجانب المصريمراجعة شاملة واتخاذ مواقف أكثر صلابة عوض العتاب والتزام سياسة الدفاعوالتبرير، خصوصاً أن لدى مصر أوراقاً عدة تمكنها من التعامل بندية وقوة معالعالم الخارجي. ثالثاً: سقوط نظرية المؤامرة الغربية ضد مصر، فعندما أعلنت بريطانيا ترجيحتفجير الطائرة استدعى الإعلام المصري وبعض المسؤولين آليات التفكيربالمؤامرة، وقالوا إن لندن تكرر لعبة المعلومات الاستخبارية التي سبق أنأعلنها توني بلير لتبرير غزو العراق، أي أن بريطانيا تبادر وأميركا تدعم منطرف خفي، وتضيف المقولات الذهبية للتفكير وتبرير ما حصل بالمؤامرة أن لندنوواشنطن تعملان ضد السيسي وتريدان عودة «الإخوان المسلمين»، وسيكون ضربالسياحة مقدمة لحصار مصر اقتصادياً وسياسياً من خلال التشكيك في قدرةالدولة المصرية على حفظ الأمن والاستقرار، وبالتالي على المصريين العملمعاً لإسقاط هذا المخطط. القصد أن الخطاب الإعلامي والسياسي ركز على مخاطبةالرأي العام الداخلي، وتعليق الفشل على طرف خارجي، من دون إنتاج خطاب مقنعللعالم الخارجي يوضح حقيقية الموقف المصري ويشرح ما جرى للطائرة. لكنالضربة القاضية لنظرية المؤامرة جاءت من موسكو على مرحلتين، الأولى إعلانموسكو وقف رحلاتها إلى شرم الشيخ ثم وقف رحلات «مصر للطيران» إلى المطاراتالروسية، فموسكو «الصديق والحليف الاستراتيجي» ذهبت أبعد مما ذهبت إليهالقوى الغربية الاستعمارية، ثم جاءت المرحلة الثانية بإعلان نتائجالتحقيقات الروسية التي أكدت تفجير الطائرة بقنبلة محلية الصنع، والتي أنهتتماماً مقولات نظرية التآمر (والتي لا تموت أبداً!). رابعاً: ضرورة مراجعة ومحاسبة المسؤولين عن الإدارة المصرية للأزمة، والعملعلى سرعة إصلاح أجهزة الدولة وتفعيل دورها، والتصدي لثقافة التسيبوالإهمال و»الفهلوة» في إدارة الأزمات، تلك الثقافة كانت أحد أهم أسبابالفشل في إدارة أزمة الطائرة، ومن قبلها أزمة الأمطار الغزيرة فيالإسكندرية، وأزمة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، ما دفع الرئيس السيسي إلىطلب مساعدة الجيش، لكن إلى متى سيلجأ الرئيس للجيش وهل ستظل الأجهزةالمدنية المكلفة خدمة المواطنين مقصرة أو غائبة عن دوائر الفعل التنموي؟خامساً: غياب المفاهيم والهياكل الأساسية لإدارة الكوارث والأزمات، والتيتفترض مركزية العمل والتخطيط وإدارة الأزمات، ولا مركزية التدريب والتنفيذ،والمفارقة أن هذا الغياب حاضر في ظل وجود العديد من لجان ومراكز إدارةالأزمات، لكنها تعمل في جزر منعزلة ومن دون تنسيق، مع فصل فاضح بين الأزماتالداخلية والخارجية رغم صعوبة الفصل بينهما. في هذا السياق لا تتواصلدوائر وزارة الداخلية مع لجان وهيئات إدارة الأزمة، ولم تبادر الحكومة إلىتشكيل لجنة أو خلية تضم كل الوزارات لإدارة أزمة سقوط الطائرة، وبحيث تعملمنذ الساعات الأولى لسقوط الطائرة بشكل متناغم لا يستبعد أي سيناريو،وتتفاعل تلك اللجنة مع كل جوانب الكارثة وتداعياتها، وتنسق مع الإعلام،وتعمل على توجيه خطاب عقلاني للعالم الخارجي، علاوة على اتخاذ إجراءاتلاحتواء الآثار السلبية على الاقتصاد حيث تقدر خسائر قطاع السياحة بـ6.6بليون جنيه في الشهور الثلاثة المقبلة. وتجدر الإشارة إلى دورية الأزماتالتي تصيب قطاع السياحة، ومع ذلك لم تراكم وزارة السياحة خبرات وتؤسس هياكللإدارة هذه الأزمات. سادساً وأخيراً، ربما يفتح الاعتراف بتفجير الطائرة وأحداث باريس الإرهابيةالمجال أمام القاهرة لتصحيح أخطاء إدارتها لأزمة سقوط الطائرة بحيث تتخلىعن الأداء السكوني ذي الاتجاه الواحد، والمعتمد على مخاطبة الداخل، وتتبنىنهجاً جديداً أكثر تركيباً، يعتذر عن التقصير الأمني الذي أدى إلى تفجيرالطائرة بعمل إرهابي، ويحاسب المسؤولين عن ذلك، ويقوم بمراجعة وتطويرإجراءات تأمين المطارات، ويؤكد في الوقت ذاته عالمية التهديدات الإرهابيةوعدم قدرة أي دولة على تأمين نفسها، فهناك منافذ وثغرات يمكن أن يمر منهاأفراد لديهم رغبة أكيدة في الموت وإلحاق الضرر بأي مواطنين أبرياء. وبالتالي ضرورة دعم وتطوير التعاون الدولي، والتحذير من مخاطر حصار السياحةالمصرية لأنها رسالة خاطئة تدعم الإرهاب.
الحياة