إن كل من يتصور أن خيارات السياسة الخارجية تتمثل في اختيارات “مانوية” بينالخير والشر ما عليه إلا أن ينظر إلى أزمة أوكرانيا. إنها حقا، كما وصفوزير الخارجية الأميركي الأسبق وارن كريستوفر البلقان، بـ “مشكلة منالجحيم”. والأسوأ من ذلك هو أن حل هذه الأزمة سوف يتطلب قدرا كبيرا من الحساسيةووضوح الفكر، وهو ما أصبح نادرا على نحو متزايد في وقت بات من المنتظر منالزعماء أن يتلمسوا بمشاعرهم الطريق إلى الاختيارات الحكيمة لا أنيتعقلوها. وما يصاحب هذه الأزمة من ملامة يكفي الجميع، ولكن هذا لا يعني أن المسؤوليةالأخلاقية متكافئة. فالقدر الأعظم من المسؤولية المباشرة يقع على عاتقالكرملين، الذي كان جُل اهتمامه ينصب للأسف على استغلال المشاعر القومية فيمحاولة للحفاظ على رأسمالية المحسوبية في روسيا، وليس اتخاذ اختيار واضحبالانضمام إلى الاقتصاد العالمي. “القدر الأعظم من المسؤولية المباشرة يقع على عاتق الكرملين الذي كان جُلاهتمامه ينصب للأسف على استغلال المشاعر القومية في محاولة للحفاظ علىرأسمالية المحسوبية في روسيا” تاريخيا، لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأي حال أول زعيم روسي يواجهمثل هذا الاختيار. ولكن يبدو أنه يميل إلى تفضيل الشعبوية الضحلة، وهوالميل الذي يدفعه إلى البحث عن رموز جاهزة للشرعية لاستمالة جماهير الناسالمتوترة المضطربة. وهذا يجعله غير ملائم على الإطلاق لقيادة قوة عظمى فيوقت من المتاعب. الواقع أن روسيا اليوم تجمع بين أسوأ ما في الرأسمالية ومركزية الدولة، وهيالظروف التي حظي بوتين بوقت أكثر من كاف لتحديدها وتحليلها وتصحيحها. ويشير فهمه للحقائق وقدرته على تمييز ما هو خطأ إلى افتقاده للحكمة اللازمةللاستجابة بالشكل المناسب. فموارد الطاقة في روسيا على سبيل المثال تتحول بسرعة من فرصة إلى لعنةمألوفة مع فشل البلاد في تنفيذ التعديلات البنيوية اللازمة لتنويع اقتصادهاالهش. ونتيجة لهذا، أصبحت روسيا دولة رائدة عالميا في هروب رأس المال، فيحين كان النمط السياسي الاستبدادي الذي انتهجه بوتين سببا في تنفير طبقاتالمفكرين وأصحاب المشاريع التي تشكل أهمية بالغة لخلق فرص الاستثمار فيالداخل. ولا يعني أي من هذا أن روسيا من الممكن أن تتحول إلى دولة غربية أشبه بدولالبنلوكس أو شمال غرب أوروبا على سبيل المثال. ولكن روسيا تحتاج إلى حلتوتراتها التي دامت قرونا من الزمان بشأن علاقاتها مع الغرب، التوترات التيتستمر في تحديد تصور زعمائها للهوية والمصالح الوطنية. وسوف يُفضي فشل الروس في إدراك ماذا “تعني” بلادهم إلى الاختيار الذي يتخذبالنيابة عنهم في نهاية المطاف. ومن عجيب المفارقات هنا أن روسيا التي تريد تحديد مستقبل أوكرانيا قد تكتشفأن أوكرانيا -أو على الأقل أزمتها- هي التي تحدد مستقبل روسيا. ولكن زعامات أوكرانيا تتحمل نصيبها من اللوم عن الأزمة. فالسيادة تتطلبالحماية التي توفرها الحكومات والنظم السياسية الفعّالة. وقد ترنحتأوكرانيا على مدى ثلاثة وعشرين عاما منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي منأزمة سياسية إلى أخرى في ظل سلسلة متعاقبة من الحكومات التي كانت إمافاسدة أو خرقاء، أو فاسدة وخرقاء في حالة حكومة الرئيس الأوكراني السابقفيكتور يانوكوفيتش. إن أوكرانيا غنية بالموارد الطبيعية وشعبها موهوب. وهي رغم هذا واحدة منأسوأ دول العالم أداء على المستوى الاقتصادي. وربما يعزو الأوكرانيون سوء طالعهم لأنهم جيران روسيا وليسوا جيران كنداعلى سبيل المثال، ولكن يتعين عليهم أن يتعاملوا مع ذلك الجار وأن يديرواالعلاقة معه، برغم ما قد ينطوي عليه هذا الأمر من صعوبة. ولكن بدلا من هذا، تناوب الساسة الأوكرانيون بين الفساد والتجاهل المتغطرسلمصالح روسيا. والواقع أن بروز قوى اليمين المتطرف داخل حركة “الميدان” المناهضة للرئيسالمخلوع يانوكوفيتش أعطى بوتين أداة سياسية ضاربة بالغة الفعالية. صحيح أن رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروشوف تنازل عن شبه جزيرة القرملأوكرانيا عام 1954 (احتفالا بذكرى مرور ثلاثمائة عام على معاهدة بيرياسلافالتي وحدت أوكرانيا وروسيا) وصحيح أن بوريس يلتسين أكَّد وضع شبه جزيرةالقرم خلال فترة من المفاوضات المشحونة بالتوترات لحل الاتحاد السوفياتيوتأمين قيام دولة روسيا، ولكن الأوكرانيين يعرفون حق المعرفة تعقيداتالتاريخ وضرورة التعامل بكل حرص مع الحساسيات الروسية. “لا يملك الغرب خيارا سوى فرض عقوبات على روسيا، وسوف تكون العقوبات الآنسريعة وعنيفة ولكنها من غير المرجح أن تكون أكثر من تأديبية في غياب أي قوةقسرية لعكس الحقائق على الأرض بشبه جزيرة القرم” ولئلا نستسلم لأية أوهام، فإن الغرب أيضا لم يكن ناجحا ومستحقا للإعجاب فيهذا السياق. من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي كان يحمل أفضل النوايا في التفاوض علىاتفاقية الشراكة مع أوكرانيا، ولكن ذلك التوقع المأمول خَلَّف الأثر غيرالمقصود المتمثل في إطلاق صافرات الإنذار في الكرملين، وهو ما وضعيانوكوفيتش في مأزق على الفور. وبكل المقاييس، واجه يانوكوفيتش القدر الكافي من الأوقات العصيبة في اتخاذقرارات حياتية سهلة، أما هذه المعضلة فكانت أكبر من قدراته وطاقة احتمالهبأشواط. وأخيرا، يستحق الساسة والمفكرون بالولايات المتحدة باقة من الزهور الميتة. ذلك أن أي قضية تدخل مرقص السياسة الأميركية تصبح عاجزة عن الفرار من حتميةوضعها في إطار العصبية الحزبية المحلية. ولكن مستقبل أوكرانيا -وروسيا- ليس لعبة قد يكسبها أي زعيم أميركي أو يخسرها. ولكن الغرب لا يملك خيارا سوى فرض عقوبات على روسيا بوتين، وسوف تكونالعقوبات الآن سريعة وعنيفة. ولكنها من غير المرجح أن تكون أي شيء أكثر منتأديبية، في غياب أي قوة قسرية لعكس الحقائق على الأرض في شبه جزيرة القرم. سوف تكون روسيا الخاضعة للعقوبات، وروسيا التي تملك مجموعة خاصة بها منالعقوبات، بمثابة الواقع الجديد. ولكن المهمة التاريخية العظيمة تظل متمثلةفي إقناع روسيا بالعودة في اتجاه عضوية المجتمع الدولي، وهذا يعني الحفاظعلى الحوار بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغيلافروف والبحث عن الفرص -في سوريا أو كوريا الشمالية- للتعاون في سياقمتعدد الأطراف. وفي الوقت الذي تقود فيه الغريزة على نحو مفهوم تماما إلى التشاحن مع روسياوالتعامل معها بقسوة، فإن حكمة رجال الدولة الحقيقية سوف تكون مطلوبة. وإذا اقتبسنا العبارة المبتذلة الأوسع استخداما هذا الشهر في واشنطن،فبوسعنا أن نقول إن الجميع يحتاجون إلى مَخرَج فرعي يعيدهم إلى الطريقالصحيح، ولكن المسألة هي هل لدينا العدد الكافي من السائقين الأكفاء علىالطريق؟
الجزيرة