سلطنة عمان، دولة هادئة جداً وعضو في مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه. لاتحبذ الضجيج، وترفض الدخول في الصراعات والمنافسات، وتتجاوز المهاترات، ولاتكترث بالنزاعات البعيدة منها، وتتجاهل المراهقات السياسية التي لا تمسها. هذه الدولة الخليجية «الغامضة» سياسياً، والمنكفئة على نفسها، تعمل بصمت،وتحضر بصمت، وتغادر بصمت، وتناقش بهدوء، حتى وإن اختلفت مع شقيقاتها فيالمجلس على مرّ سنينه السابقة. الموقف العُماني الرافض لفكرة الانتقال إلى الاتحاد ليس وليد اليوم، بلأعلنت عنه مسقط مباشرة بعد طرح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بنعبدالعزيز مبادرته في قمة الرياض الخليجية عام 2011. على هامش القمةالخليجية في البحرين العام الماضي، سألت وزير الخارجية يوسف بن علوي أسئلةعدة عن أسباب عدم انشراح بلاده للاتحاد الخليجي، فرد بهدوء: «هناك متطلباتفي مجالات عدة تحتاج إلى التكامل فيها قبل التعجيل بالاتحاد». رددت عليه: «لكن الأوضاع الراهنة في المنطقة تحتم التعجيل به»، فرد بهدوء أيضاً: «يجبأن ننأى بأنفسنا عن الدخول في الصراعات الإقليمية والدولية، ونحن في عُماننرى أن تحقيق السلام يبدأ من عدم الدخول في النزاعات وعسكرة المنطقةوالناس». وأتذكر أن رئيس تحرير صحيفة «الشرق» السابق الزميل قينان الغامديانضم إلينا واستمررنا في محاورته حول موقف بلاده من تدخلات إيران والأوضاعالمأسوية في سورية، وعلى رغم أن بعض إجاباته لم تقنعنا، إلا أنه ظل يشددعلى رفض التدخلات لأنها ستجلب المشكلات لدولنا. في الأسابيع الأخيرة بدت تلك الدولة «الهادئة» متوثبة في خطواتها السريةوالعلنية، كمن يريد التلويح بأنه موجود ومؤثر حتى وإن ظل صامتاً وعلى كراسيالمشاهدين. عُمان لعبت دوراً سرياً من دون إبلاغ أي من شقيقاتها التيتتشارك معها المنظومة الخليجية، حتى وإن اختلفت مع بعضهن حول طريقة التعاطيمع ملفات إقليمية «معينة». ظلت السلطنة تستضيف على مدار عام محادثات سرية بين واشنطن وطهران، لكنها لمتشأ إبلاغ أية دولة خليجية أو حتى الأمانة العامة لمجلس التعاون، ما أفضىإلى «لقاء جنيف» الذي نجم عنه الاتفاق بين القوى الست الكبرى وإيران. وعشيةانعقاد قمة الكويت أعلنت السلطنة بنبرة حادة على لسان وزير خارجيتها فيمؤتمر أمني في البحرين معارضتها للاتحاد الخليجي بشكل رسمي، ملوّحةبالانسحاب في حال إعلان الاتحاد بين الدول الخليجية الأخرى. فما الأسباب التي تدعو عُمان إلى التلويح بالانسحاب من المجلس إذا تحققالاتحاد، على رغم أن المادة الرابعة من النظام الأساسي لمجلس التعاون تنصعلى «تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادينوصولاً إلى وحدتها»؟ هل تشعر السلطنة بجحود وتهميش من شقيقاتها الكبيرةمنها والصغيرة؟ أم أن الكيل فاض بها من سياسات دول المجلس المتناقضة وغيرالمنسجمة؟ أم أن هناك مساعي لتفكيك المنظومة الخليجية الحالية والتعاون معإيران التي تشترك معها في التحكم في مدخل أغنى مناطق عبور إنتاج النفط فيالعالم – مضيق هرمز – لإجبار دول الخليج على القبول بمجلس تعاون إقليمي يضمالعراق وإيران كما تريد طهران؟أعتقد أن الرفض العماني ناتج من أسباب سياسية بحتة، من بينها خشية أنالاتحاد ربما يلغي موضوع السيادة، أو ربما يدخلها في أتون صراعات ونزاعاتهي غير مستعدة لها ولا ترغب فيها، وهو ما يتضح في تعليق ابن علوي: «نحن غيرمستعدين للدخول في أي صراعات، ولا علاقة لنا بالمواجهات، ولسنا ذاهبين فيالصراعات على الإطلاق لا شرقاً ولا غرباً». كما أن عُمان ترتبط بمصالح معإيران، وبينهما اتفاقات منها «عدم الاعتداء»، وهو ما يؤكد أن من الأسبابالتي عزا إليها ابن علوي رفض بلاده فكرة الاتحاد «فشل» دول المجلس في «بناءمنظومة اقتصادية حقيقية» غير دقيقة. من الخطأ أن تعلق عُمان سبب رفضها على شماعة «الفشل» كونها ليست وحدها منقال بها، بل حتى دول المجلس التي تعاني من داء البيروقراطية تعترف بأنالمجلس فشل في تسريع العجلة وإنجاز الملفات المشتركة، لكنه يحقق أدواراًتكاملية بين الأعضاء. لا شك في أن الوصول إلى «كونفيديرالية» بين دول مجلس بينها قواسم مشتركةعدة أفضل وأكثر أماناً من البقاء لمواجهة المصير وحيداً، في ظل تزايدالتحديات ونجاح التكتلات الدولية، وأولى تلك التجارب العالمية الناجحةالاتحاد الأوروبي على رغم وجود اختلافات وتحديات جمّة بين أعضائه. الأكيد وعلى رغم التباينات والاختلافات السياسية أن قيام الاتحاد بين دولالمجلس سيشكّل منعطفاً مهماً لمصلحة شعوبها ومستقبل أجيالها، ويمنحها قوةوصلابة، ويفترض أن دولة بحجم عُمان تقبل به كونها لن تتضرر منه بقدر ماسيضيف لها قوة وتماسكاً اقتصادياً وتمدداً اجتماعياً، ويزيل عنها أعباءاقتصادية ووظيفية. حقاً، شفافية الموقف العُماني تُحترم لابتعادها عن المراوغة بدلاً منالتلون وبيع الكلام والوهم بلا صدقية كما يفعل البعض، والديبلوماسية لاتعمل في الفراغ، بل تقوم على التحاور والتفاوض وإنجاز الملفات، وأسبابالخشية العمانية تلزم معرفتها ومحاولة حلحلتها وطمأنتها، ودول المجلس لديهاالقدرة على ذلك، كما أن مسقط لديها شجاعة للتعبير عن مخاوفها بشفافية،مثلما أعلنت عن رفضها الاتحاد بصراحة، وهو ما يحتم التناقش معها لبقائها لاانسحابها، ليس كما علّق مسؤولان خليجيان لـ«الحياة» أمس حول استعداد عُمانلمغادرة المجلس بكلمة: «بسلامتهم»! ما أعلمه شخصياً أن السعودية وقطر والبحرين جاهزة، والكويت «راغبةومتمنّعة»، والإمارات «لا تزال تفكر وتشاور وتنتظر»، لكن الأهم من كل ذلكأن الشعوب الخليجية تبحث عن النجاحات لا الاحباطات، وتدعو إلى إشراكها فيالقرارات ومنحها حقها في المشاركة الشعبية. ماذا يعني إطلاق عُمان ثلاث لاءات قبيل قمة القادة في الكويت بـ48 ساعة: لاللاتحاد.. ولا للعملة الخليجية الموحدة.. ولا لتوسعة قوات «درع الجزيرة»؟يرى العارفون أن السياسة العمانية ليست عصية على الفهم لمن يود معرفةمنطلقاتها، فحتى في حال صمتها وانزعاجها وعلى رغم هدوئها، حدثت بينها وبينبلدان خليجية خلافات عميقة، لكنها كانت تتصرف بصمت حتى تطوي تلك الخلافاتبهدوء. السؤال: هل أمعنت عُمان التفكير في الاتحاد الأوروبي؟ وهل أفاد 28 دولةأوروبية أم لا؟ هل هو حقيقة قائمة ومغرية للآخرين أم لا؟ وهل ساعد الدولالأوروبية أم لا؟ ولمن يصبّ تفكيك المنظومة الخليجية في حال حدوث انسحاباتأخرى بعد ثلاثة عقود ونصف العقد، على مجلس حقق القدر الأدنى من درجاتالتجانس؟من الخطأ أن تعتقد عُمان وغيرها أن دول المجلس ستضحي بمكتسباتها بمجرد رفعتلك اللاءات… والتلويح بالانسحاب! المصير الخليجي الواحد أكبر بكثير!!
الحياة