على مَرّ التاريخ؛ لاحظ المراقبون السياسيون أن صانعي القرار الذينيُعتبرون “مجانين” هم الأكثر صعوبة في التقييم. في الواقع؛ نادرا ما تكونالمشكلة نفسية، ويشير التصنيف عادة إلى سلوك مختلف عما كان يتوقعه المحللونالتقليديون. كان هذا بالتأكيد صحيحًا بالنسبة لرشيد الدين سنان القائد الديني (الإسماعيلي) بسوريا خلال القرن الثاني عشر الميلادي. فأثناء الحملةالصليبية الثالثة؛ حقق سنان -الملقب بـ”رجل الجبل العجوز” المجنون- نجاحاملحوظا في تعطيل تقدم صليبي على القدس، بتوجيه أتباعه لتنفيذ عمليات اغتيالمحددة الأهداف. وبعد تنفيذ أوامرهم، ظل القتلة ينتظرون أن يُقبض عليهم على مرأى ومسمع منالسكان المحليين، لضمان حصول قائدهم على الفضل المناسب لهذا الفعل. وحينها،كانت هذه التصرفات غير مفهومة من وجهة نظر الغرب. كان الغربيون يصفون أتباع الرجل العجوز بـ”الحشاشين” -أو مدمني الحشيش- لأنهم اعتبروا تعاطي المخدرات هو التفسير الوحيد الممكن لهذا التجاهل “غيرالمنطقي” لرفاهية الفرد الخاصة. لكن الحشاشين لم يكونوا متعاطين للمخدراتبشكل دائم. والأكثر من ذلك، أنهم كانوا ناجحين: لقد أدى اغتيال (القائد الصليبي)كونراد دي مونتفرات (اغتيل 28 أبريل/نيسان 1192م) إلى الانهيار السياسيللائتلاف الصليبي، وهزيمة القائد الإنجليزي ريتشارد الملقب بـ”قلب الأسد”. وكما يقول بولونيوس عن هاملت؛ فقد كانت هناك طريقة لجنون الرجل العجوز. واليوم، ظهرت مشكلة تحليل القادة المجانين من جديد مع الأزمة النوويةالكورية الشمالية؛ فسواء كان دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون مجنوناأم لا، فإن هذا ليس مجرد سؤال أكاديمي، بل هو صلب الموضوع. لقد صرحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنها لن تتسامح مع تهديدكوريا الشمالية للولايات المتحدة باستخدام الأسلحة النووية. ووفقًا لمستشارترمب للأمن القومي هربرت ماكماستر؛ فإن موقف الإدارة يعكس اعتقادها بأنكيم شخص مجنون، وأن “نظرية الردع الكلاسيكية” غير ملائمة معه. وخلال الحرب الباردة؛ أشار الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور إلى أنه حتى لوارتكب ستالين (ولاحقا ماو تسي تونغ) جرائم قتل عديدة، فقد كان عقلانياأيضا، ولم يرغب في الهلاك بسبب ضربة مضادة أميركية. لقد نجح منطق “التدميرالمتبادل المؤكد” الذي يقوم عليه الردع النووي. ومع ذلك؛ إذا كان زعيم دولة مسلحة نووياً مجنوناً غير مبالٍ بأمانه الشخصيوبأمن المحيطين به، فإن إستراتيجية الردع بالكامل ستبوء بالفشل. وإذا كانكيم مجنوناً، فإن الخيار الوحيد هو خلعه قبل أن يقتل نظامُه الانتحاريملايين الناس. لكن هل كيم شخص مختلّ عقليا بالفعل أم لديه رؤية عالمية تربك المحللينالغربيين؟ إن عرضه الدرامي لعقد قمة مع ترمب بحلول شهر مايو/أيار القادم لايتناسب مع رواية شخص “مجنون”. في الواقع، يبدو وكأنه تصرف شخص عاقل يعرفبالضبط ما يفعله. يجب الانتباه لثلاثة اعتبارات إستراتيجية يمكن أن يأخذها كيم بعينالاعتبار: أولاً، أن نظامه يخطط لتقديم تنازلات لا ينوي الالتزام بها. فبعدكل شيء؛ كانت الصفقة النووية السابقة التي توسطت فيها الولايات المتحدة معوالده (كيم جونغ إيل) خرجت عن مسارها بسبب الازدواجية. وفي عام 2002، اكتشفت الولايات المتحدة أن النظام كان يعمل على تخصيباليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة سرًّا، في انتهاك مباشر لتعهده السابق. وفي الواقع، أثبتت كوريا الشمالية مرارًا وتكرارًا أنها لا تلعب وفقاللقوانين. فهي تقوم بالمفاوضات للحصول على تنازلات مثل المساعدات الغذائية،ثم تعود إلى أنشطتها غير المقبولة، وبالتالي تبدأ مسلسل أسطورة سيزيف مرةأخرى. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الأمور ستكون مختلفة هذه المرة؛ لكن ينبغي ألايُعتبر انحراف النظام مرادفا للّاعقلانية أو للجنون. فبالتعبير عن انفتاحهعلى المحادثات؛ تمكن كيم من الحصول فعلا على الشرعية السياسية التي يتوقإليها. ثانياً، حتى وإن كان كيم يبدو مختلا عقليا فإنه واعِ بالتاريخ الحديث. وقددفع صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا ثمنا باهظا للتخلي عنبرامجهما النووية. ونتيجة لذلك، طوّر كيم قدرات النظام النووية وأصبح الآنبمثابة أقوى رجل على وجه الأرض. لطالما سعى نظام كيم إلى مثل هذا التبريررغم كل شيء آخر. الاعتبار الثالث والأخير هو أن كوريا الشمالية تقوم باللعب على عنصر الوقت. فرغم موافقتها على وقف التجارب النووية والصاروخية في الفترة التي تسبقالقمة، فإنها يمكن أن تستخدم الأشهر المتداخلة لتطوير التقنيات ذات الصلة. وعلى سبيل المثال؛ لا تزال كوريا الشمالية تحتاج إلى تحسين آلية إعادة دخولالغلاف الجوي لجعل صواريخها الباليستية العابرة للقارات قادرة على ضربالبر الرئيسي الأميركي بشكل موثوق ودقيق. وما دامت القمة واردة؛ فإن كوريا الشمالية ينبغي ألا تقلق بشأن ضربة عسكريةأميركية. هذه مكافأة أو ضمانة معقولة ومهمة يسعى كيم وراءها. وعلى كل حال، فإن “انفتاح” كوريا الشمالية سيكون مخيبا للآمال. لكن منالملاحظ أن إستراتيجية المناورة الدبلوماسية لكيم قيمة للغاية. ومن المؤكدأن التفكير الكوري الشمالي ماكر، لكنه يعكس أيضا إرادة النظام البقاء،ورغبته في السيطرة على الوضع الحالي. وهذا يشير إلى أن كيم ليس “مجنونًا” رغم كل شيء، وأن الردع التقليدي سينجحبالتأكيد، كما كان الحال منذ عام 1945. هذه أخبار جيدة للجميع، ولإدارةترمب بشكل خاص؛ نظرا إلى أنها بالتأكيد ستفشل في الحصول على أي تنازلاتجادة من كوريا الشمالية خلال المحادثات القادمة.
بروجيكت سينديكيت