https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلفان : ستيفن ليفتسكي ودانييل زيبلات، ينتمي كتاب “كيف تموت الديمقراطيات”، لعالمي السياسة ستيفن ليفتسكي ودانييل زيبلات، إلى عينة الكتب ذات المنزع الأكاديمي الواضح، فهو يندرج عمومًا ضمن مبحث النظرية السياسية، في حين أن اختياراته الإجرائية تقوم على محاصرة الفكرة الواحدة وعرض خصائصها ومميزاتها وتحليل تفريعاتها وحث القارئ على الاقتناع بمخرجاتها الختامية. وهذا الاختيار يتضح أكثر إذا علمنا أن مُؤَلِّفي الكتاب هما عالمان متخصصان في علم السياسة بجامعة كامبريدج، ظلا يُدَرِّسان على مدى أكثر من عقدين من الزمن حقلًا معرفيًّا دقيقًا ومتخصصًا، هو الحقل المرتبط بفهم وتحليل وتفسير اللحظات الأخيرة لسقوط التجارب الديمقراطية في العالم. ولهذا جاء الكتاب من خلال مقدمته والفصول التسعة التي تشكِّل بنيته العامة عبارة عن مقاربة وصفية تاريخية وتحليلية للحظات الأخيرة لسقوط عدد كبير من الديمقراطيات في أوروبا الغربية وأميركا الجنوبية وإفريقيا وحتى العالم العربي، ومقارنة هذه التجارب مع الديمقراطية الأميركية وحالة الموت السريري الذي يتهددها منذ دخول دونالد ترامب المشهد السياسي الأميركي. في حين أن القيمة المعرفية المضافة للكتاب تتحدد في دراسته لقضايا ذات راهنية مستمرة ومتواصلة. أي أن الأفق الزمني للكتاب يبدأ من العام 2016 ليفتح بعدها آفاقًا معرفية نحو المستقبل بطرح أسئلة عن راهن الممارسة الديمقراطية بين الإرث الأميركي للديمقراطية الأميركية القائم على احترام ضوابط اللعبة السياسة المتمثلة في فصل السلطات، واحترام مبدأ الحرية الفردية وعلاقتها بالمسؤولية الجماعية، وبين نزوع “رجل ليس له تاريخ سياسي ولا سابق تجربة أو دراية بالسياسة العامة، ومعلوماته متواضعة جدًّا عن الالتزامات الدستورية، وكل ما يفخر به هو أنه رجل أعمال ومضارب عقاري ثري تحركه نزوات واضحة لتقديس الفرد الأميركي الذي يمتلك الأموال الطائلة ويتصور أن بإمكانه شراء أي شيء بهذه الأموال، وأنه عبر نفوذه المالي الواسع تمكن من الوصول إلى قمة الهرم التنفيذي في أميركا وشرع في قتل الديمقراطية عبر الاستعانة بأدوات ديمقراطية”(1). من هذا المنظور التحليلي يتضح أن مجموع تجارب السقوط المستمر والمتواصل للديمقراطيات العالمية التي تم استدعاؤها عبر فصول الكتاب سواء في أصولها الليبرالية أو الاشتراكية لا تشكِّل غاية في حد ذاتها، بقدر ما أن الهدف منها هو دق ناقوس الخطر بشأن الاستهداف الممنهج الذي يطال الديمقراطية الأميركية اليوم والبحث في تأمين مستقبلها والعمل على إنقاذها من “الزوال” ومحاولة إخراجها من حالة الموت الإكلينيكي التي تعيش فيها منذ عامين من أجل ألا ينال هذا الإرث الديمقراطي الأميركي نفس مصير الديمقراطيات التي ماتت. ولهذا فإن الكتاب يمثِّل دعوة للتأمل والتفكير في مستقبل عالم تتهاوى فيه التجارب الديمقراطية، وكيف سيكون شكل العالم إذا انتفت آليات الحوار والتدبير العقلاني للخلافات السياسية بين الأفراد والجماعات والأحزاب. كل ذلك من خلال القيام بقراءة تشخيصية لعلة الديمقراطية الأميركية المتمثلة في الأداء السياسي للرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، خلال السنتين الأوليين من تجربة حكمه، خاصة أنه تولى الحكم بعد الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي شكَّلت سنوات حكمه الثمانية محطة فارقة على مستوى أسئلة التغيير في الولاية المتحدة الأميركية، وكونه أول أميركي من أصول إفريقية يتمكن من قضاء فترته الرئاسية في ظروف خاصة، نجح خلالها في تدبير ملفات اقتصادية إشكالية مع الحفاظ على انسجام أغلب أطياف الطبقة السياسية الأميركية وتصالحها مع السياسة، ودعم السمعة الجيدة لأميركا في العالم. وتتحدد معالم الأطروحة المركزية للكتاب في الإجابة عن السؤال المتصل بالوضع المأزوم للديمقراطية الأميركية التي ظلت على مدى قرنين كاملين من الزمن مضربًا للتعايش السياسي الفعال بين الأحزاب السياسية وصناع القرار في البلاد، وكيف أضحت اليوم مهددة بالموت أو الاغتيال مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي عمل منذ دخوله البيت الأبيض على التدمير الممنهج للإرث الديمقراطي الذي بناه مؤسسو الولايات المتحدة الأميركية، وأدخل الحياة السياسية في حلقة مفرغة من الصراعات الجانبية والحروب الصغيرة. وتتضح معالم الوضع المأزوم للديمقراطية الأميركية من خلال تأكيد الدارسين على أن فترة الرئيس دونالد ترامب جاءت مباشرة بعد فترة زمنية امتدت ربع قرن من الأداء الجيد للديمقراطية في العالم، فالسياق الزمني الممتد بين سقوط جدار برلين عام 1990 حتى 2015 يمثِّل من منظور صاحبي الكتاب مرحلة صعود الديمقراطية في أميركا والعالم. وخلاله كانت السياسة الخارجية الأميركية داعمة لكل التجارب الديمقراطية حتى بالنسبة لتلك التجارب التي كان لها سجل إما ضعيف أو سيء على مستوى الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان ومنها الصين وروسيا وبعض دول الشرق الأوسط. وبالمقابل فإن “أميركا منذ العام 2016 تخلت عن سياسة دعم الديمقراطيات في العالم، ولم تعد نموذجًا ديمقراطيًّا سواء في الداخل أو الخارج، ومع الرئيس دونالد ترامب أخذت تمضي في اتجاه تيار التراجع العالمي للديمقراطية (Global Democratic Recession)(2). ومعلوم أن أطروحة “التراجع العالمي للديمقراطية” التي تبناها الكتاب واعتبر انتخاب الرئيس دونالد ترامب بداية حقيقية لها، تزامنت مع أزمة الديمقراطية في أوروبا خاصة في بريطانيا وتصويتها لمزيد من الخصوصية الأنغلوساكسونية بعد عقود طويلة من الاندماج الاقتصادي والسياسي داخل الإقليم الأوروبي، إلى جانب صعود التيارات الشعبوية وحصدها لمراكز متقدمة في كل من فرنسا وإيطاليا وهنغاريا، هذا إلى جانب استمرار معدلات العنف السياسي في الكثير من بقاع العالم خاصة العالم العربي. كيف تموت الديمقراطيات إن الحديث عن موت الديمقراطيات في الكتاب هو تعبير مجازي الغاية منه تطبيق آلية العلاج بالصدمة، كما أن صيغة العنوان التي جمعت بين التساؤل والاستفزاز حول موت الديمقراطيات، يمثِّلان معًا محاولة لمداهمة القناعات السياسية لرجل السياسة الأميركي وحثه على معرفة الوجه الآخر لما يقع داخل الحدود الجغرافية لبلاده. وهو أيضًا دعوة لقارئ الكتاب لمعاودة التفكير في مستقبل أميركا والعالم بدون ديمقراطية. فالديمقراطيات عمومًا لا تموت لأنها قيم إنسانية وسياسية، والقيم لا تخضع لضوابط الحتمية البيولوجية، قد تتعرض لانتكاسات في هذا البلد أو لمحاولات الاغتيال في بلد آخر، وقد يحدث أن يتوقف التاريخ عند تجارب غير ديمقراطية، كما كان عليه الأمر في التجربتين الألمانية أو الإيطالية خلال الحربين العالميتان، لكن ولأن الطبيعة دومًا تخشى الفراغ، فإن الديمقراطية تعود لتزدهر من جديد بعدما يموت أعداء الديمقراطية. ويميز العالمان بين نمطين من عمليات قتل أو اغتيال التجارب الديمقراطية في العالم: – النمط الأول: وهذا الوجه هو الأبرز والمتداول برأي الدارسين في التجارب السياسية العالمية، وتكاد طرق تنفيذه تكون متشابهة، إما عبر انقلابات عسكرية يقوم بها أحد أفراد ضباط الجيش وبعدها يشرع في سن قوانين فردية على شاكلة إلغاء أو تعليق الدستور واعتماد أحكام عرفية، إلى حين إعداد دستور على مقاس العسكر الذين ينزعون البزة العسكرية ويتحولون إلى حكام مدنيين. وهذا النمط يجد الكثير من تفسيراته في ثلاثينات القرن الماضي، حيث شهدت دول أوروبا الغربية موجات متواصلة من الانقلابات العسكرية أو بروز أنظمة حكم شمولي طالت إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وألمانيا، أو في السبعينات حينما شهدت بعض دول أميركا الجنوبية، مثل الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي وجمهورية الدومينكان، انقلابات عسكرية تكللت بهيمنة الجيش على الحياة السياسية في الكثير من بلدان هذه القارة، والأمر نفسه ينسحب على بعض دول القارة الإفريقية مثل غانا ونيجيريا. فالقاسم المشترك الذي يوحد هذه الدول هو أنها تندرج تحت نمط قتل الديمقراطية عن طريق الانقلابات العسكرية. وفي هذا النمط توقف العالمان كثيرًا عند النموذج الشيلي الذي أخذ في رأيهما طابع التمثيل والاختزال، ففي بلد لا يتوفر على الكثير من الموارد الاقتصادية وينجح في الرهان السياسي من خلال فوز تحالف اليسار في الانتخابات الرئاسية التي شهد العالم على نزاهتها، قامت قوات الجيش في 11 سبتمبر/أيلول 1973 بقيادة الجنرال بنوشيه باقتحام القصر الرئاسي والانقلاب على الرئيس المنتخب وطلبت منه الاستجابة لمطالب الانقلابين، لكنه رفض الأمر وأصر على إنهاء ولايته الرئاسية. وعندما قام بتسجيل رسالة صوتية لتبث على أمواج الإذاعة الشيلية طالب فيها الشعب بالانتفاضة ضد الجيش، فإن الرسالة لم تصل، وقامت قوات جيش الانقلاب بتصفية سالفادور أليندي. والمعادلة التي تختزل هذا النمط بحسب الكتاب هي “حينما يعلو صوت البندقية تموت الديمقراطية”. – النمط الثاني: وهو الذي لا تستخدم فيه الأسلحة الفتاكة ولا تموت فيه الديمقراطية على أيدي العسكر، وإنما يتم قتل الديمقراطية على أيدي رجالات السياسية المنتخبين أنفسهم. ففي السابق كان الخطر الذي يتهدد الديمقراطية يأتي في شكل انقلابات عسكرية أو عمل مسلح، أما اليوم فإن الأمور أخذت منحى آخر يقوم على ضرب المؤسسات الدستورية التي تضمن ديمومة الشرط الديمقراطي. والمثال الذي يستدل به العالمان في هذا الباب هو الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز الذي تحول من رئيس منتخب إلى حاكم أوتوقراطي. ففي عام 1998 دخل هوغو تشافيز المشهد السياسي في فينزويلا باعتباره قائدًا إصلاحيًّا ضد النخبة السياسة والاقتصادية الفاسدة في البلاد؛ حيث اعتمد في بداية حياته السياسية خطابًا يقوم على تقديم وعود بتغيير حياة المواطن الفنزويلي، والتركيز على مظاهر الفقر في فنزويلا التي تتميز بوجود ثروات نفطية هائلة تحت الأرض… وبعدها شرع في “تنفيذ ثورة داخلية” من خلال اعتماد دستور تم التصويت عليه بصورة ديمقراطية 1999، ولكنه ما إن تمكن من الهيمنة على الساحة السياسية في البلاد، ونجا من انقلاب عسكري فاشل، حتى شرع في عام 2003 في تنفيذ مشروعه الخاص باعتماد حكم أوتوقراطي قام خلاله باعتقال أو نفي جميع المعارضين السياسيين، وأغلق وسائل الإعلام المعارضة، وظل يحكم البلاد وفق مقولات النظام الفردي لأكثر من عقد كامل، وفتح عليه الكثير من الجبهات في الداخل والخارج. وبعد وفاة تشافيز في العام 2012 استمرت التشافيزية في فزويلا على يد تلميذ تشافيز، نيكولاس مادورو. والمعادلة التي تختزل هذا النمط هي “عندما تقتل الديمقراطية بقفازات حريرية”. وبين قتل الديمقراطية عن طريق السلاح أو اغتيالها عبر الهيمنة على الحياة السياسية وتطويع القوانين لخدمة النوازع الفردية، يجد قارئ الكتاب أن هناك محاولات حثيثة لوضع دونالد ترامب في نفس الخانة التي يوجد فيها هوغو تشافيز مع قليل من التجاوز؛ فالرئيس الذي تمكن خلال سنتين فقط من توليه الحكم أن يتهم الصحافة الأميركية المعارضة بأنها عدو الشعب، ويفتح حروبًا جانبية على المؤسسات الأميركية العريقة، خاصة الكونغرس ووزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية ومكتب الاستخبارات الخارجية، ثم يستغل وسائل التواصل الاجتماعي لتصفية خلافاته السياسية الصغيرة مع خصومه معتمدًا لغة الشارع، ويتخذ قرارات سيادية تهم شأنًا كبيرًا من شؤون الدولة بصورة انفرادية ويفاجئ بها الجميع عبر تغريداته، ولا يتوانى في نشر خطاب يحرض على الكراهية والترويح لهيمنة العرق الأميركي الأبيض، لا يمكنه إلا أن يكون خطرًا يتهدد الديمقراطية الأميركية وقد يصيبها في مقتل. ولعل هذه التوصيفات التي قدمت في حق ترامب في الكتاب هي التي قادت المؤلفين إلى بناء معادلة تختزل أداء ترامب في الحياة السياسية خلال عامين والمتمثلة في أنه “يقتل الديمقراطية بصورة أقل درامية، لكن نتائج عمله تكون مدمرة” (ص 182). ترامب وسياسة تجريف الديمقراطية وإجابة عن السؤال الأساسي في الكتاب والمتعلق بكيف أن ترامب يمثِّل خطرًا على الديمقراطية الأميركية يذهب المُؤَلِّفان إلى “أن ترامب رجل خطير وكل ما يملك من رصيد هو أنه رجل أعمال ثري له الكثير من العقارات حول العالم وله حضور كاسح في وسائل الإعلام (خاصة تلفزيون الواقع) وأنه يريد أن يدير البلاد كما يدير شركاته العقارية، وكل من خالفه في الرأي سيكون مصيره إما الإقالة أو التشهير به في وسائل الإعلام” (ص 176-177). ورغم أنه ليس هناك زعيم سياسي يقول بصورة علنية بأنه لا يحترم الديمقراطية أو يخطط لتخريبها، وأن جميع ديكتاتوريي العالم يؤكدون في بداية وصولهم إلى السلطة احترامهم للديمقراطية والدستور؛ فإنهم ما إن يصلوا إلى التحكم في دواليب النظام حتى يتنصلوا من التزاماتهم. إن وصول ترامب إلى سدة الحكم في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 يعني من منظور المُؤَلِّفين أن الولايات المتحدة الأميركية فشلت في الرهان الديمقراطي، و”أن السماح لرجل “دغمائي” بالوصول إلى سدة الحكم في واحدة من أكبر التجارب الديمقراطية في العالم، وتمكين شخص لا علاقة له بالممارسة السياسية والخدمة العامة بأن يدير الجهاز التنفيذي الأميركي… يعني تجريف النظام السياسي الأميركي” (ص 77) الذي بناه المؤسسون الأوائل للديمقراطية الأميركية. إن الصورة النمطية التي يقدمها الكتاب للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تتأرجح بين نموذج الشخصية الديماغوجية المتطرفة، أو الشخصية الماكارثية (نسبة إلى السيناتور الأميركي الجمهوري، جوزيف ما كارثي، عن ولاية وسكنسن الذي عاش خلال الحرب الباردة وكان ينتقم من خصومه السياسيين ويزج بهم في السجون من خلال التشهير بهم وتخويف الرأي العام الأميركي منهم باعتبارهم جواسيس يعملون لحساب العدو الشيوعي). وهذه الصورة النمطية المركَّبة تحاول إقناع قارئ الكتاب بأن الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس ترامب تسير باتجاه النظام الشمولي، في حين أن انتخابه يمثِّل الخطوة الأولى في ترسيخ هذا النظام، ويشكل ضربةً لمسيرة الديمقراطية الأميركية التي امتدت لأكثر من قرنين، وتمكنت من تجاوز مراحل الحرب الأهلية وسنوات الكساد والحرب الباردة وفضيحة ووترغيت، وأن “المعادلة الجديدة اليوم في أميركا هي أن الرئيس ترامب والذين يقفون وراءه يقوضون ويقتلون الديمقراطية باسم الديمقراطية وعبر أدوات ديمقراطية معتمدة”. وهذا ما دفع بهما إلى التأكيد أن الوضع الجديد يقود إلى المعادلة التالية: “أميركا التي كانت مختبرًا للديمقراطية أصبحت اليوم مختبرًا للحكم الشمولي”. وبالتالي فإن نجاح ترامب قاد الجميع، بمن فيهم مؤلفا الكتاب، إلى أن الديمقراطية الأميركية التي كانت تمثل إحدى التجارب المتقدمة في هذا المجال تعيش اليوم أزمة وجود وأنها مهددة بالموت. ومن خلال مسارات القراءة يتضح أن جميع العاملين في الحياة السياسية الأميركية مسؤولون عن وضع الديمقراطية في البلاد، سواء كانوا أحزابًا أم أفرادًا أم مؤسسات، والسبب الرئيس يعود لما أسماه العالمان فشل “نظام المراقبة والتوازن” (System of checks and balances) الذي ظل معتمدًا في الممارسة السياسية الأميركية دون أن يكون متضمنًا في الدستور. ويعتمد هذا النظام على مجموعة من الأعراف السياسية التي تقوم على المرونة السياسية بين الحزبين الكبيرين في البلاد، بما يساعد الفرقاء السياسيين الأميركيين على حماية النظام من الانزلاق نحو أشكال غير ديمقراطية و”إلا وجب اللجوء إلى حارس البوابة بدل الانفتاح الشامل”. إن حالة الإجماع المسجلة وسط الأميركيين برأي العالمين تتحدد في أن الطريقة التي وصل بها ترامب إلى سدة الحكم تؤكد أن الديمقراطية الأميركية اليوم في خطر. والدليل على ذلك أن معايير الديمقراطية الحقيقية أضحت مفقودة مع النزوع الواضح للرئيس ترامب إلى اعتماد نظام حكم يتماهى مع النظام الشمولي. فمن مظاهر اغتيال الديمقراطية في العهد الترامبي، حسب المُؤَلِّفين، أن الرئيس أبان عن عداء علني وصريح لكل ما هو مؤسساتي؛ فقد طلب مباشرة بعد تعيينه بأن تكون جميع المكاتب الأمنية الاستخباراتية تابعة له بصورة شخصية ومباشرة، في محاولة لتأمين مستقبله السياسي ضد أي محاولة تحقيق ترتبط بنتائج الانتخابات والتآمر مع جهات دولية. كما أن دعوته للإغلاق الحكومي، والتلويح باستعمال الفيتو الذي يمنحه له الدستور للحسم في القضايا الخلافية الكبرى؛ يعتبر عملية غير مبررة دستوريًّا، لأنه لا يمكن رهن مؤسسات البلاد الكبرى بخلاف بين الرئيس وأعضاء الكونغرس حول تمويل مشروع صغير متعلق ببناء جدار على الحدود مع المكسيك. ويبدو أن توجيه لائحة اتهام ضد روسيا وأجهزتها الاستخباراتية بالتدخل في قوائم الناخبين الأميركيين والتأثير على عمليات التصويت لصالح ترامب، شكَّل نقطة فارقة في مسار الرئيس الأميركي ودفع به لِتَوَجُّه غريزي أكثر نحو النظام الشمولي الذي يقوم على اعتماد الولاء لشخص الرئيس كشرط أولي قبل الكفاءة… وهذا ما يفسر مسلسل الإقالات والاستقالات المتواصلة في الدوائر المقربة من الرئيس. لذلك أبان دونالد ترامب خلال سنتين عن عداء خاص لكافة أشكال الحديث عن تواطؤ بين حملته الانتخابية وتدخل الروس في توجيه نتائج الانتخابات، بذات القوة التي عمل بها على عرقلة العدالة وإقالة مدير وكالة الاستخبارات الأميركية السابق، جيمس كومي، لأنه دعا للتحقيق الرسمي في التدخل الروسي في سير الانتخابات الأميركية. ولكن وبصرف النظر عن جميع الدفوعات التي يقدمها المُؤَلِّفان بشأن مسؤولية دونالد ترامب عن تجريف الديمقراطية الأميركية، فالمؤكد أن الرئيس ترامب يمثِّل صناعة أميركية خالصة، وهو نتاج ثقافة ليست وليدة اليوم، لكنها وجدت مع الرئيس ترامب صيغتها النهائية. والأهم من ذلك أن هناك الكثير من الأميركيين يرون فيه نموذج الرئيس الناجح. وربما يكون السؤال الذي لم يطرحه المُؤَلِّفان هو لماذا صوَّت الناخب الأميركي على دونالد ترامب ضد الديمقراطيين وضد هيلاري كلينتون تحديدًا؟ وهنا نجد أن ما سكت عنه الكتاب أو أسقطه هو أن غالبية الكتلة الأميركية الناخبة لا تمتلك أفقًا سياسيًّا، وأن الناخب الأميركي همُّه الأساس هو خبزه اليومي المرتبط بالضرائب والزيادة في الأسعار وتقلبات السوق وتجاوز حالات الأزمة المالية والعقارية التي عرفتها الولايات المتحدة الأميركية في عهد أوباما. وبالتالي فإن العنصر المغيب في الكتاب هو أن المواطن الأميركي لم يعد يكترث للمؤسسات، ويريد الخروج من القيود السياسية والمؤسسات التي اعتمدها ويعتمدها الديمقراطيون. الإرث الجمهوري ومستقبل أميركا لا يجد المُؤَلِّفان أي غضاضة في تحميل الطبقة السياسية الأميركية نتائج ما يقع من اختلال في بنية ووظيفة الحياة السياسية الأميركية، وأن الحزب الجمهوري يتحمل قسطًا كبيرًا من حالات التراجع المسجلة في الداخل الأميركي والخارج، وأن هذا الأمر ليس بالشيء الجديد على الحزب الجمهوري الذي قام خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بتسديد ضربات متتالية للحياة الديمقراطية الأميركية؛ إذ كان همهم الأساس هو الوصول إلى كرسي الرئاسة والانتقام من خصومهم السياسيين أو إدخال البلاد في متاهات سياسية في الداخل أو حروب خاسرة في الخارج. فمن الخواص الملازمة دومًا للديمقراطية أنها هشة بطبعها وتظل دومًا في حاجة إلى طبقة وسطى وقطاع خاص نشيط يمتلك روح المغامرة الاقتصادية المرتبطة بقيم الحرية والمساواة. وبالتالي فإن أزمة الحياة السياسية الأميركية برأي المُؤَلِّفين تتحدد في غياب “طبقة وسطى قادرة على طرح البديل السياسي للثقافة السياسية السائدة والقائمة على النزوع نحو مزيد من الفردانية السياسية والتسلح بالأموال لتغيير وجه السياسية، والتعامل مع الخصوم السياسيين باعتبارهم أعداء، وبناء مؤسسات إعلامية ضخمة بغرض الدفاع عن المصالح الضيقة لتحالف الأقلية” (ص 207). فكل هذه الأعمال تمثِّل برأي مُؤَلِّفي الكتاب ضربات موجعة للديمقراطية وتقويض مؤسساتها. وهنا يتساءل مُؤَلِّفا الكتاب كيف سمح الحزب الجمهوري لترامب بالترشح باسمه، وكيف تم اختياره على حساب قيادات سياسية لها حضور سياسي في الحياة الأميركية العامة. ولماذا قَبِل الحزب بتسمية دونالد ترامب لخوض السباق النهائي ضد هيلاري كلينتون، ولماذا دونالد ترامب يكره الحزب الديمقراطي؟ والجواب طبعًا هو أن القاعدة الانتخابية الأميركية وبعد سنوات حكم باراك أوباما أرادت الخروج من عباءة المؤسسات (The establishment) التي تعني هنا الخروج على هيمنة مجموعة أشخاص أو نخبة سياسية لها توجهاتها الفكرية والأكاديمية التي تعمل على التحكم في صناعة القرار والصراع على السلطة وبالتالي فإن انتخاب ترامب قد يكون ردة فعل على أيديولوجية النخبة السياسية المثقفة المتشبعة باحترام وحماية المؤسسات والتي قد يكون الرئيس السابق باراك أوباما أحد رموزها. وهو أيضًا تعبير عن إرادة تغيير ضد شعار التغيير الذي اعتمده أوباما في حملته الانتخابية الأولى والثانية، وهذا ما جعل ترامب نفسه يعتمد شعارًا سياسيًّا جمهوريًّا مناقضًا لسابقه وهو “أن نجعل أميركا عظيمة” وبالتالي يتبيَّن أن خطورة الرئيس ترامب على مستقبل الديمقراطية لا يعفي من القول بأن الرئيس دونالد ترامب يقدم المنظور الآخر والوجه المغاير لصراع الإرادات السياسية في الولايات المتحدة الأميركية. فتأكيد الرئيس السابق باراك أوباما، وهو القادم من عالم القانون والحقوق، على التغيير في السياسة والأشخاص والوسائل والأهداف، لا يعني الشيء الكثير بالنسبة لترامب القادم من عالم المال والأعمال والذي لا يهمه سوى عظمة أميركا وجعلها مستقرة اقتصاديا. وصفة لإنقاذ الديمقراطية الأميركية إن الإقرار بوجود أزمة ديمقراطية في أميركا اليوم لا يعني موتها على النحو الذي وقع في دول أخرى، لكن غاية المُؤَلِّفين هي محاولة إحداث صدمة لدى القارئ الأميركي وقراء الكتاب عمومًا تجاه وضع سياسي غير مسبوق أدخل الولايات المتحدة الأميركية في متاهة السياسة بمعناها الضيق القائم على التعطش الفردي للسلطة والسعي للوصول إلى كرسي الرئاسة بكل الطرق والوسائل، ثم العمل على قتل الحياة السياسية الأميركية عبر تجريف مجموع القيم الديمقراطية التي توحد جميع الأميركيين، وهو ما تجسَّد في مواقف وسلوكيات الرئيس ترامب وتسبب في تراجع القيم الديمقراطية للمؤسسة الأميركية تحت وطأة التجاذب السياسي والاستقطاب الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين. ولحماية الديمقراطية الأميركية من حالة الاحتراب بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي الذي يميزها في العهد الترامبي والذي يعيد لأذهان الأميركيين الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، يذهب مُؤَلِّفا الكتاب إلى أن أميركا اليوم أمام ثلاث سيناريوهات كبرى هي: – السناريو الأول: وهو الذي يقوم على العودة السريعة للديمقراطية الأميركية في الداخل والخارج. وهذا السيناريو حسب الدارسين يستند إلى مجموعة من الشروط والمسوغات السياسية الضرورية أهمها الفشل السياسي للرئيس ترامب، كأن يفقد شعبيته أو ألا تتم إعادة انتخابه أو أن يتم إسقاطه وفق سيناريو إسقاط الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون. وبعدها تبدأ عملية إعادة إصلاح المؤسسات السياسية الأميركية ومنحها حيوية أكبر حتى ستستعيد أميركا سمعتها كراعية للسلم والسلام والديمقراطية في العالم. وإذا ما تحقق هذا الأمر فإن أميركا ستتمكن من تفادي الكارثة وسيتم إنقاذ الديمقراطية الأميركية. وحينها سيكون على الحزب الجمهوري أن يؤدي فاتورة تحالفه مع ترامب أو خضوعه له. وبعدها ستكون محطة حكم الرئيس دونالد ترامب عبارة عن “خطأ تاريخي تراجيدي ودرس صعب للأميركيين” – السيناريو الثاني أو كما يسميه مُؤَلِّفا الكتاب “السيناريو الأسود”: وهو غير متوقع ولكنه ممكن، وسيتمكن ترامب في سياقه من الاستمرار والفوز بولاية رئاسية ثانية مدتها أربع سنوات إضافية، سيعمل خلالها ترامب ومعه الجمهوريون على الهيمنة على مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة الأميركية العليا. ويعني نجاحهم في ذلك أنهم سيتمكنون من فرض أجندتهم الحزبية والسياسية في الداخل الأميركي والخارج. وتقوم هذه الأجندة على مجموعة من الملفات السياسية الإشكالية مثل ملف الهجرة غير النظامية في الجنوب الأميركي وملف الرعاية الصحية، هذا إلى جانب علاقات جد متوترة بين أميركا والعالم الخارجي خاصة الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” والعلاقات مع دول الجوار الأميركي التي أبان فيها ترامب عن أفق ضيق في قراءة الأحداث الجيوسياسية في العالم. – السيناريو الثالث: وهو الذي ستعرف خلاله أميركا مزيدًا من التجاذب والانقسام بين الحزبين وحربًا أخرى بين المؤسسات، وهو ما يعني “حياة سياسية بدون ضوابط مهنية أو أخلاقية”. وبصرف النظر عن اختيار العالمين للسيناريو الأول، لأنه سيوفر الشيء الكثير على أميركا والأميركيين، فإن ذلك لم يمنعهما من التأكيد على أن أي سيناريو خاص بالمستقبل الأميركي يقتضي توافر جرعات مهمة من التسامح المتبادل (Mutual Tolerance) والصبر المؤسساتي (Institutional Forbearance) كشرطين لازمين لتفعيل عملية الفصل بين السلطات. والسبب في ذلك أن مؤسسي الديمقراطية الأميركية فشلوا في وضع قوانين مصاحبة للأحزاب والعمل الحزبي، وهذا الأمر يشكِّل تهديدًا مباشرًا للدستور الأميركي الذي ظل يُشهَد له بأنه من الدساتير الأولى التي احتفت بــ”مبدأ الحرية الفردية والمساواة” في ديباجته العامة. لكن هذا المبدأ يواجه صعوبات كبيرة اليوم في ظل الدعوات الجمهورية لهيمنة العرق الأبيض أو الأقلية البيضاء على مناحي الحياة السياسة الأميركية على حساب عرقيات أخرى. وهو ما يزيد من معدلات الاحتقان الاجتماعي السياسي. وهنا يُحمِّل الدارسان الحزب الديمقراطي جزءًا من المسؤولية الجماعية في تغيير المشهد السياسي الأميركي ومحاولة إخراجه من أزمة التجاذب الحزبي وفتحه على خيارات حزبية خارج معادلة الديمقراطيين والجمهوريين بما يسمح بدعم أحزب اليسار والأحزاب الخضراء وفتح الباب أمامها أكثر. العرب وسؤال الديمقراطية من اللافت للنظر أن العرب أو الديمقراطية العربية لم ترد في الكتاب إلا في إشارتين سريعتين أولاهما في أن دول العالم العربي تندرج عمومًا ضمن الدول ذات السجل المتواضع ديمقراطيًّا، وأنها دومًا بحاجة لمساعدة أميركية في هذا الباب، والإشارة الثانية كانت في مقدمة الكتاب عند الحديث عن النمط الثاني من عمليات قتل واستهداف الديمقراطيات في العالم، حيث تم تناول مشهد قتل أو اغتيال الديمقراطية في العالم العربي مُمَثَّلَة في التجربة المصرية في عام 2013 عندما أقدم وزير الدفاع حينها الجنرال عبد الفتاح السيسي على الانقلاب على رئيسه المدني محمد مرسي الذي فاز في انتخابات رئاسية شهد جميع المراقبين بأنها كانت ديمقراطية. وبعدما أودعه السجن بتهم غير مبررة وحكم عليه مدة طويلة قرَّر حينها خلع البزة العسكرية والترشح للانتخابات الرئاسية والفوز فيها، وبعدما تحقق له ذلك قرَّر تعديل الدستور بما يمنحه فرصة البقاء في كرسي الحكم. إن قراءة الوضع العربي الراهن على ضوء أهم الأفكار المتضمنة في الكتاب تقود إلى تأكيد أن البنية العامة الغالبة في نظم الحكم العربية تتميز بغلبة الحكم الفردي. فسواء تعلق الأمر بأنظمة ملكية أو جمهورية مدنية أو حتى جمهوريات عسكرية، فإن شخص الحاكم الفرد والتوجه الصريح نحو نظام الحكم الشمولي يمثِّل السمة الغالبة والمهيمنة، وأن الاستثناء الوحيد جاء مع الربيع العربي الذي قام على أساس معادلة “الشعب يريد إسقاط النظام الفردي”، وهو ما تحقق في إسقاط ثلاثة رؤساء دول عربية. لكن بالرغم من المكاسب المترتبة على السقوط المادي والرمزي لثلاثة رؤساء دول -جميعهم جاؤوا إلى الحكم من خلفية عسكرية خالصة- فإن دول العالم العربي دخلت بعدها في مرحلة الثورة المضادة القائمة على الصراع المحموم بين مطالب الشعوب وصمود الأنظمة الشمولية. وتؤكد التجارب والأحداث السياسية المتواصلة في هذه البلدان أن الصراع بين إرادات الشعوب وهيمنة الأنظمة الشمولية سيظل مفتوحًا على مزيد من التصعيد إلى أن تستعيد الجماهير زخمها الذي أبانت عنه في عام 2011 وتحقق المعادلة العصية في كنس الأنظمة الشمولية التي تعادي الديمقراطية. خاتمة قد تكون الغاية من هذا الكتاب، في نظر مُؤَلِّفَيْه، هي أن الديمقراطية الأميركية ليست بِمَأْمَن تام من السقوط في ردهات ديكتاتورية الأفراد وهيمنة الأنظمة الشمولية، وأن امتلاك مؤسسات سياسية لا يعني بالضرورة حماية الإرث الديمقراطي للبلاد من السقوط. وهذا الأمر يجد الكثير من مسوغاته في حالات التراجع التي تشهدها التجارب الديمقراطية في أكثر من دولة في العالم كما هو الأمر في فنزويلا وتايلاند وهنغاريا. وربما تكون أزمة الديمقراطية في أميركا اليوم جزءًا أو امتدادًا لهذه الدينامية الجديدة لتراجع الديمقراطيات التي تنتشر في العالم. لكن الأخطار التي تتهدد الديمقراطية اليوم والتي تتمثَّل في الفاشية والشيوعية والأنظمة العسكرية تبدو ماضية في الانتشار وهي اليوم تطال الدول العريقة في الممارسة الديمقراطية بعدما كانت مقتصرة في السابق على دول العالم الثالث. ومع ذلك يبدو أن الرسالة غير المعلنة أو الدرس الذي لم يستوعبه الكثير من شعوب العالم في مسارات الانتقال السياسي والديمقراطي هي أن الانقلابات العسكرية تشكِّل في قرارتها دعوة لرد الاعتبار للديمقراطية باعتبارها قيمة إنسانية كونية، فالديمقراطية لا يمكن قتلها، قد تخبو التجربة وتنكسر ويصيبها الضمور لكنها لا تموت، وكل محاولة لاغتيالها تمثِّل دعوة صريحة لأنصار الديمقراطية لإعادة بناء التجربة من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − 12 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube