كتب محمد خير الوادي :
رغم التوترالشديد الذي شاب العلاقات الامريكية الصينية في عهد ترامب ، الا انني اعتقد ان بكين كانت تفضل بقاء الادارة السابقة لعدة اسباب ،اهمها مزاجية ترامب وتخبطه في اتخاذ القرارات ، وسعيه الحثيث لاشعال نار الخلافات العنصرية داخل امريكا ، وتوتير العلاقات مع حلفاء واشنطن في الخارج ، وهي امور كانت ستضعف امريكا داخليا ، وتبقيها معزولة عالميا.
ومع بروز مؤشرات على امكانية خسارة ترامب للبيت الابيض لصالح الديمقراطي بايدن ،ادركت بكين ، ان البديل القادم لن يكون افضل ، وربما اسوأ بالنسبة للعلاقات بين البلدين ، ولذلك درست القيادة الصينية بعمق البرامج الانتخابية لبايدن ، لا سيما الفقرات التي تشير الى عزم الادارة على احياء تحالفات امريكا السابقة ،لا سيما مع اوربا وجنوب شرقي اسيا ، وزيادة الوجود العسكري الامريكي في بحر الصين الجنوبي ، وهو امور اعتبرتها بكين انه ستكون موجهة ضدها . ولذلك سارعت القيادة الصينية لاتخاذ عدة خطوات احترازية للحفاظ على انجازاتها الدولية ، ولنزع وسائل الضغط التي يمكن ان تلجأ اليها امريكا لعزل الصين واغلاق الاسواق الدولية في وجهها.
وكانت اول خطوة بادرت اليها بكين نهاية العام المنصرم للتصدي للخطط الامريكية في جنوب شرقي آسيا هي، تسريع انشاء تحالف تجاري عالمي بقيادة الصين،باسم اتفاق الشراكة الاقتصادية الاقليمية ، و يضم 15 دولة -اضافة الى الصين – والدول الاعضاء هي : رابطة دول جنوب شرق آسيا العشر أو ما تعرف بـ”آسيان ،اضافة الى اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا ،. وقد انسحبت الهند عام 2019 من هذا التجمع الذي يعتبر أكبر كتلة تجارية في العالم، تنتج ما يقرب من ثلث الانتاج العالمي.واللافت لللانتباه ، هو سعي بكين لانجاز بنود الاتفاق قبيل الانتخابات الامريكية رغم ان المفاوضات استمرت سبع سنوات .وقد اسهمت التنازلات والاغراءات التي قدمتها الصين ، بما في ذلك تخفيض الرسوم الجمركية وفتح الاسواق الصينية امام بضائع الدول الاعضاء في هذه الاتفاقية ، في تسريع عملية الاتفاق .
ومعروف ان اغلبية هذه الدول هي حليفة للولايات المتحدة الامريكية .وقد بذلت الصين جهودا كبيرة لمليء الفراغ الذي تركه قرار ترامب بالانسحاب من اتفاقية المحيط الهادي للتجارة الحرة .
كل هذه الجهود اقدمت عليها بكين ،من اجل استباق جهود ادارة الرئيس بايدن الرامية الى تاسيس تكتل اقتصادي في منطقة جنوب شرقي آسيا مناهض للصين . لكن اتفاق الشراكة هذا يعاني من نقاط ضعف اهمهما ،ان معظم الدول الاعضاء فيه لها علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية قديمة مع امريكا ، ولذلك فانه ستكون اقرب الى امريكا من الصين . وهناك نقطة ضعف اخرى ، وهي الخلافات على الجزر المتنازع عليها بين دول وقعت على الشراكة مع الصين في بحر الصين الجنوبي . وقد اعلنت الولايات المتحدة وقوفها الكامل الى جانب كل من اليابان والفيليبين وفيتنام وماليزيا في موضوع الجزر . ووجود هذه الخلافات يمكن ان يسمم علاقات الصين مع تلك الدول ويضعف هذا التكتل الاقتصادي . وستسغل امريكا تلك الخلافات ضد الصين .
والخطوة الثانية التي اقدمت عليها الصين بتاريخ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2020، كانت التوصل لاتفاق “مبدئي” للاستثمار المتبادل بين الاتحاد الأوروبي والصين. وقد اطلقت اجهزة الاعلام الصينية صفة “التاريخي ” على هذا الاتفاق ، الذي تهدف بكين من ورائه الى جر اوربا الى جانبها ، و تخريب الجهود الامريكية الرامية الى اقامة تكتل بين اوربا وامريكا موجه ضد الصين . كما اتهمت ادارة بايدن بكين ، باستغلال هذا الاتفاق لتفتيت وحدة اوربا ، وتعزيز النفوذ الصيني في دولها ، عبر مشروعات تتم في اطار طريق الحرير والحزام . ولا بد من الاشارة الى ان الحكومة الصينية قدمت بالفعل تنازلات هائلة للدول الاوربية فيما يخص انشطة الشركات الاوربيةالعاملة في الصين . فقد تخلت بكين عن القرارات التي اتخذتها سابقا في اطار خطة الصين 2025، والتي تقوم على تقديم دعم كبير للشركات الحكومية الصينية ومنحها اولوية في المنافسة مع الشركات الاوربية . كما تراجعت بكين عن قرار آخر كان يثير غضب الاتحاد الاوربي ، وهو اجبار الشركات الاوربية على النقل القسري للتكنولوجيا الى الصين ، والتزمت بكين بالشفافية في عملية تمويل الشركات الحكومية ،ووعدت باحترام قواعد منظمة العمل الدولية،بما في ذلك التخلي عن العمل القسري واعمال السخرة والاطفال واحترام الملكية الفكرية . وهذه المسائل كانت مثار خلافات عميقة خلال عشرات السنين بين السلطات الصينية والاتحاد الاوربي . كل هذه الاغراءات قدمتها بكين للاوربين بعد فوز بايدن في الانتخابات من اجل تسريع التوقيع على الاتفاق قبل دخول الرئيس الامريكي الجديد الى البيت الابيض .ومعروف ان الجانبين الصيني والاوربي امضيا ست سنوات من المفاوضات الشاقة حول هذا الاتفاق ،وانه في مرات كثيرة كانت المفاوضات تصل الى طريق مسدود .ورغم كل حرص الحكومة الصينية على هذا الانجاز ، الا ان الاتفاق المذكور يواجه عقبتين : الاولى تكمن في المعارضة الامريكية الشديدة له .وقد بدأت ادار ة بايدن في تحذير الاوربيين من مخاطر الوجود الصيني . والثانية تبرز في صعوبة تمريره في البرلمان الاوربي بسبب ، الانتقادات التي يوجهها البرلمانيون الاوربيون للصين فيما يتعلق بحقوق الانسان .
والخطوة الصينية الثالثة تجلت،في تكثيف الجهود التي تبذلها الصين لتنفيذ اتفاق بناء مرفأ بحري في دولة مينمار، واستكمال حلقات مشروع الممر الاستراتيجي ،الذي يهدف الى ربط الصين -عبر ميانمار- بخليج البنغال. ويتضمن هذا الممر شبكة هائلة من السكك الحديدية والطرقات الارضية وخطوط انابيب لنقل النفط الى الصين ، وبناء مناطق صناعية ومطارات ومدينة لاسكان الصينيين .لكن الاكثر اهمية بالنسبة لبكين في مشروع هذا الممر، هو اقامة ميناء بحري في منطقة راخين ،يكون بوابة للتجارة الصينية على العالم .ولهذا الممر قيمة حيوية بالنسبة للصين. فهو يختصر الطريق البحري للسلع الصينية بمقدار 5000 كم متر ، اضافة الى انه يتخطى مضيق ملقا الذي تسيطر عليه امريكا بشكل كامل ، والذي تمر عبره نحو 80% من حجم التجارة الصينية مع العالم. وفي حال زيادة التوتر مع امريكا في بحر الصيني الجنوبي ، وهذا امر ممكن ، فان القوات الامريكية قادرة على اغلاق هذا الخليج ، وبالتالي خنق الصين تجاريا .
وبالمناسبة ، فقد تعطل العمل في هذا الممرعلى امتداد عشر سنوات بسبب بروز المشاعر االشعبية الحادة المعادية للصين في ميانمار .
وبغية تنشيط هذا المشروع ، ولسحب ورقة خليج ملقا من ايدي ادارة بايدن ،قام الرئيس الصيني شي جينغ بين في 18 كانون الثاني 2020 ( عام الانتخابات الامريكية )،باول زيارة لرئيس صيني الى دولة ميانمار خلال 19 عاما. لكن تلك الزيارة لم تعط النتائج المرجوة ،بسبب تردد حكومة سان سوتشي في تنفيذ الممر لاسيما المرفأ، وهو أمر اثار استياء كبيرا في بكين .وتوالت فيما وبسرعة احداث مأساوية غيرت الموقف السياسي في ذلك البلد الآسيوي ، وطرحت اسئلة كثيرة منها : لماذ تحرك الجيش ونفذ في بداية شباط 2021 ، انقلابا عسكريا اطاح بالحكومة المدنية؟ . ولماذا رفضت بكين ادانة هذا الانقلاب؟
وقد دفع هذا الموقف الصيني ،بعض السياسيين الغربيين لاتهام الصين بدعم الانقلاب، بهدف البدء في تنفيذ حلقات الممر السترتيجي المشار اليه ، لا سيما المرفأ البحري .
وللتذكير فقط ، فان امتياز هذا المرفأ حصلت عليه الصين عام 2008 ، عندما كان الجيش يسيطر السلطة في ميانمار
وتشير الوقائع الى العلاقات الطيبة والقديمة القائمة بين بكين والجيش في ميانمار ، وتستذكر حقيقة ان كل المشروعات الصينية التي انجزت في هذا البلد الاسيوي، تمت في ظل الادارات العسكرية في هذا البد الآسيوي . على كل حال ، فان بكين تنفي دعمها للانقلاب ،وا الوقت سيظهر الحقيقة حول ذلك .
واللافت للانتباه ، ان هذه الخطوات الصينية كلها قد تمت اما قبيل الانتخابات الرئاسية الامريكية او خلالها وبعيدها .
ويبدو ان هذه الحسابات الصينية ازاء ادراة بايدن ليست بعيدة عن الواقع . فقد استمرت هذه الادارة في انتقاد الصين ، وبادرت الى احياء التحالفات المعادية لها في جنوب شرقي اسيا . فقد اعلنت واشنطن دعمها لكل من اليابان والفيليبين وفيتنام في خلافاتها مع الصين حول الجزر .وزادت واشنطن من وتيرة دعمها لتايوان .كما تبذل ادارة بايدن جهودا كبيرة لاحياء الشراكةالتقليدية مع اوربا ، واحد اهداف هذ ه الشراكة ،هو التصدي للصين واحتواء نفوذها في القارة الاوربية .
وفي الوقت نفسه ، اعلنت الادارة الامريكية خططا لتنشيط”حلف كواد” وهو تحالف امني يضم كلا من امريكا والهند واليابان واوستراليا، هدفه الاساسي ضمان حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والتصدي للوجود العسكري الصيني هناك . وقد جرى قبل ايام اجتماع لوزراء خارجية تلك الدول ، وتم الاتفاق فيه على تنسيق الخطوات المشتركة في منطقة جنوب شرقي آسيا .وفي الوقت نفسه ، تكثف واشنطن حملاتها على الصين بحجة الدفاع عن حقوق الانسان في كل من شينجيان وهونغ كونغ.
ان استعراض سريع للخطوات التي قامت بها الصين ، والاجراءات المضادة التي تقوم بها واشنطن ، يشير الى ان الصراع على مناطق النفوذ في العالم بين الصين وامريكا ، سيزداد اتساعا وشراسة ، وان ادارة بايدن مصممة على احتواءالصين ومحاصرة حضورها العالمي . وهي مهمة ،يعترف الامريكيون انفسهم ، انها ستكون شاقة ،نظرا الى تزايد قوة الصين واتساع نفوذها العالمي .
19/2/2021
كتب محمد خير الوادي :
وال
.
واللافت للانتباه ، ان هذه الخطوات الصينية كلها قد تمت اما قبيل الانتخابات الرئاسية الامريكية او خلالها وبعيدها .
و
و
ا