محمد عبد الحكم دياب يبدو أن العرب قرروا الخروج من العصر تماما وبكامل إرادة مسؤوليهم وأولي الأمر منهم… وبالقطع فإن الخروج من العصر هو حكم بالعزلة في عالم منفتح لكنه متنمر ولا يعترف بالضعف وقلة الحيلة.. هذا القول ورد في الذهن مع تناول التجربة الصينية وهي توشك أن تصل إلى موقع القوة الأولى في العالم صناعيا وتقنيا وعسكريا واستراتيجيا.. ومن أجل استئناف بقاء العرب ضمن العصر عليهم الولوج لأعماق التجارب الإنسانية، وما واجهت من صعاب وتحديات، والاستفادة من دروسها وإضافاتها لخبراتهم ومعارفهم. وذلك يحفزهم للبحث في التجارب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، والتعرف على الظروف المحيطة بها وجعلتها محط الأنظار، وأول ما يساعد على ذلك هو فسخ الرباط التقليدي بين التقدم والتبعية، وما زال أغلب أصحاب القرار العرب يفضلون التبعية والدوران في فلك الدول الكبرى والتقيد بسياستها، وتنفيذ ما تفرض من حصار وعقوبات ومنع الدخول إلى هذا المجال أو ذاك، خاصة في الزراعة والانتاج الصناعي بمستوياته التقليدية والاستراتيجية. وهذه فرصة للاقتراب من تجربة كوريا الجنوبية، فقد تفيد في التعرف على نموذج حقق طفرة خلال جيل واحد فقط، ولا خوف من الخوض فيه، فقد يفيد إذا ما تحلينا بالموضوعية والدقة في تناول هذه التجربة وغيرها من التجارب الأخرى، فلعل وعسى أن نزيح بذلك كابوسا انعزاليا عشش في عقول قادة وأولياء أمر، وما يترتب عليه من فتح أبواب أمام المثالب المدمرة؛ كالتعصب والعنصرية والطائفية والصهينة. وكثر الحديث عن المعجزة الكورية الجنوبية، مما أدى إلى البحث عن الأسباب التي تجعل الناتج القومي العربي الإجمالي في الترتيب الأدنى عالميا، بينما نجد كوريا الجنوبية تحتل المركز 12 عالميا، هذا على الرغم أن دخل الفرد فيها كان في حدود 69 دولارا سنويا مطلع ستينيات القرن الماضي، فما هي الحكاية؟ ويبدو أنها تحتاج لاسترجاع الماضي القريب، بطريقة «الفلاش باك» بلغة السينما، ولنبدأ بمطلع القرن العشرين وضم شبه الجزيرة الكورية إلى أراضي الإمبراطورية اليابانية بالقوة عام 1910، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية أعلن الاتحاد السوفييتي الحرب على اليابان سنة 1945، وتوصل لاتفاق بشأن شبه الجزيرة الكورية مع الولايات المتحدة، وحررتها القوات السوفييتية من الاحتلال الياباني، وفور أن وضعت الحرب أوزارها اتفق السوفييت والأمريكان على التصرف في ممتلكات الامبراطورية اليابانية بعد خسارتها للحرب. وتم تقسيم شبه الجزيرة الكورية في آب/أغسطس 1945، واعتماد خط العرض 38 اساسا للتقسيم. واستقرت القوات السوفييتة في الشطر الواقع شمال هذا الخط، بينما سيطر الأمريكيون على الشطر الجنوبي منه. وفي عام 1948 أعلن سنجمان ري تأسيس الجمهورية الكورية، وأعلن كيم إيل سونغ قيام «جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية» في نفس العام، وذلك بعد 3 سنوات من جلاء الاحتلال الياباني من شبه الجزيرة الكورية وانتهاء الحرب العالمية الثانية باستسلام اليابان للحلفاء. واندلعت الحرب الكورية في حزيران/يونيو 1950، بسبب عبور أكثر من 70 الف جندي من قوات «جيش الشعب الكوري» (الشمالي)، الحدود، واجتيازهم خط العرض 38، وحصل الرئيس الجنوبي سينجمان ري المعادي للشيوعية على المساندة والدعم الأمريكي، وحظي الشطر الشمالي بقيادة كيم إيل سونغ بمساندة ودعم السوفييت.. ونظر كل من ري وسونغ إلى نفسه باعتباره الممثل الشرعي لكامل شبه الجزيرة الكورية، وتعددت الاشتباكات الحدودية بين الطرفين وأضحت أمرا معتادا. وبعد الحرب عانت كوريا الجنوبية من مشاكل اقتصادية حادة، على العكس من كوريا الشمالية، التي كانت تمتلك صناعات وشركات كبرى، بينما اعتمدت كوريا الجنوبية على الزراعة المحدودة المتخلفةً، وكانت مدارسها تفتقر للمقاعد والطاولات، وكان طعام التلاميذ الأساسي معلبات تقدمها الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ كمساعداتٍ. وعلى أثر تدخل الجيش الكوري الجنوبي أحكم الجنرال «بارك تشونغ هي» قبضته على البلاد، وحكمها بالحديد والنار على مدى 20 عامًا تقريبًا، زاد خلالها معدل النمو في كوريا الجنوبية. ولعب ذلك الجنرال دورا أشبه بدور الجنرال فرانكو في أسبانيا، وحول الاقتصاد الكوري الجنوبي من اقتصاد زراعي بدائي لا يكفي لسد حاجة السكان، إلى اقتصاد صناعي موجه نحو التصدير، كان دخل الفرد الكوري الجنوبي في بدء الحكم العسكري عام 1961 متدنيا للغاية، مقارنة بكوريا الشمالية، وتفوقها اقتصاديا وعسكريا، وتمتعت بصناعاتها الثقيلة ومحطات الطاقة والكيماويات، وحصلت على مساعدات اقتصادية وفنية ومالية من الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية والصين. وانتقلت كوريا الجنوبية من أحد أفقر دول العالم فى بداية ستينيات القرن العشرين؛ بمتوسط دخل الفرد 69 دولارا فى العام إلى متوسط دخل يبلغ 36.600 دولار فى العام في 2017، ومن المتوقع أن يقفز مركزها الاقتصادي من المركز 12 في 2017 إلى أحد الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم مع منتصف القرن الحالى، وهي التي خرجت من الحرب مع كوريا الشمالية (1950 ــ 1953) بلا بنية تحتية ولا مرافق، وليس لديها أية موارد طبيعية، وتعاني من ضيق مساحة أرض، تساوي عُشر مساحة مصر، وعدد سكان يقدر بنحو نصف عدد المصريين، وهذه طفرة تحققت خلال جيل واحد فقط. ونجحت التجربة الكورية الجنوبية لعاملين أساسيين هو الالتزام بمضاعفة الدخل القومي كل عشر سنوات، بصورة منظمة ومتناغمة وموحدة، وكان ذلك هدف التف حوله الجميع، والأهم هو إيمانهم بذلك الهدف. والعامل الثاني هو روح الفريق الذي ميز الأداء الحكومي، ورفع من مستوى التعاون والتنسيق، وارتقى بمستوى الأداء الوظيفي.. وأصبحت كوريا الجنوبية رائدة في مجال الثورة الرقمية، وتفوقت على كثير من دول العالم المتقدم؛ خاصة في مجال وسائل التواصل الألكتروني والانترنت فائق السرعة. وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي (2019) اتخذت كوريا الجنوبية قرارا بالتخلي عن وضعها كدولة نامية في «منظمة التجارة العالمية»، ويترتب عليه عدم طلب المزايا التي تُمنح للدول النامية في مفاوضاتها القادمة، مع احتفاظها بحقها في «تفاوض مرن» لـ«حماية العناصر الحساسة في القطاع الزراعي للبلاد، بما فيها الأرز».. وجاء ذلك على إثر إعلان الحرب التجارية من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين، وتحديد مهلة 90 يوما، بدأت في 26 تموز/يوليو 2019 للنظر في سبل تمنع دول حققت تقدما نسبيا، ومن بينها كوريا الجنوبية؛ تمنعها من التمتع بمزايا الدول النامية… وهدد ترامب باتخاذ إجراءات أحادية الجانب تجاه تلك الدول، في حال عدم إحراز تقدم أثناء هذه المهلة. ووضع الرئيس الأمريكي أربعة معايير يتم بموجبها وقف المعاملة التفضيلية للدول النامية، لدول لا تنطبق عليها تلك المعايير، وهي: 1- الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. 2- مجموعة العشرين. 3- الدول الغنية حسب تصنيف البنك الدولي. 4- الدولة التي تصل حصتها من إجمالي حجم التجارة العالمية إلى أكثر من 0.5٪. وكانت الصين مستهدفة بهذه الشروط الأربعة، واستجابت البرازيل وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة وتايوان، وهذا زاد من الضغوط على كوريا الجنوبية.. والإشارة إلى كوريا الجنوبية، وقد تبوأت هذه المكانة مقارنة بالعرب؛ تفرض على العرب أن يسألوا أنفسهم، ألم يعان الكوريون والآسيويون عموما ما عاناه العرب؟، ومنهم من تعرض لما هو أسوأ وأبشع، وسقط منهم ضحايا بالملايين في الحروب الكورية والفيتنامية، والكمبودية، وفي لاوس وغيرها، فضلا عما جرى للصين والهند، فواجه كل منهم التحديات التي فرضت عليه، وتصدوا لعقبات وعداوات بشعة، ورغم ذلك خرجت من بينهم «النمور الآسيوية»، وتتلمس الصين طريقها لتجلس على عرش العالم الاقتصادي والتقني والعسكري والفضائي والاستراتيجي، ومن المرجح أن تتمكن مع صعود الهند ودول آسيا الناهضة من ضبط بوصلة العالم في اتجاه آسيا والشرق الأقصى، أما العرب فيتقاتلون ويهدرون دماء بعضهم البعض