https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

حين دار رائد الفضاء الروسي الشهير يوري غاغارين حول الأرض لأول مرة في التاريخ البشري مطلع الستينيات، لم يكن فيكتور كراسنوف، ابن مدينة ستافروبول بالجنوب الروسي، قد حط رحاله في الدنيا بعد، لكن شأنه كان شأن جميع أطفال جيله الناشئين بكنف روسيا السوفياتية: يمجدون رائد الفضاء التاريخي، ويعادون الدين أيضا، ويتداولون مقولة ذائعة الصيت نُسبت إلى غاغارين: “لقد صعدت إلى الفضاء ولم أر الله هناك”، بوصفها إحدى المقولات الدعائية التأسيسية للشيوعية السوفياتية “الملحدة”، وإحدى المقولات المنسوبة خطأ أو زورا لغاغارين بنفس الدعاية. لم يكن كراسنوف يتصور على الأرجح، في أعتى كوابيسه، قدوم يوم يحاكم فيه بقلب روسيا نتيجة نقاش على الإنترنت وصف خلاله الإنجيل بـ “مجموعة من قصص وأساطير يهودية ليست إلا محض هراء”، على الأقل من وجهة نظره. في (مارس/آذار) من العام الماضي 2016 تم اقتحام منزل كراسنوف من قبل الشرطة الروسية، قبل أن يخضعه قاضٍ اتحادي لكشف عقلي للتأكد من أهليته للمحاكمة بتهمة(1) “إهانة مشاعر المؤمنين”، تهمة هي الأغرب ربما في تاريخ روسيا منذ الحقبة السوفياتية، ولم يكن كراسنوف أو غيره يتوقعون جدية حكومتهم في تطبيقها، حتى حين تم الإعلان عنها رسميا منتصف عام 2013. في ذلك التوقيت أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانونا مثيرا للجدل يجرم إهانة مشاعر المتدينين بالبلاد، وينص على عقوبة السجن لمدة تصل إلى سنة إذا صدر الفعل “المهين” خارج أماكن العبادة، وتصل إلى ثلاث سنوات إذا صدر داخل أحد هذه الأماكن. لم تثر قضية كراسنوف الكثير من الجدل آنذاك، ولكن موسكو كانت عازمة على ما يبدو للمضي قدما بطريقها، وفي (أغسطس/آب) من نفس العام لم يأخذ(2) مدوّن الفيديو رسلان سوكولوفسكي، البالغ من العمر 22 عاما، وابن مدينة يكاترينبورغ رابع أكبر المدن الروسية، بدوره تهديدات تلفاز بلاده بشكل جاد، والنتيجة كانت وضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة 11 شهرا حتى (يوليو/تموز) من عامنا الحالي عندما حُكم(3) عليه بالسجن لمدة عامين وثلاثة أشهر، ليقدّم التماسا للقضاء الفيدرالي الروسي لتخفيف الحكم، قبل أن يُرفض الالتماس أيضا في شهر (أكتوبر/تشرين الأول) الحالي. كان العالم يعيش في خضم ثورة افتراضية أحدثتها لعبة بوكيمون جو الشهيرة، حين بث التلفاز الروسي تحذيرا بتعرض أي شخص سيقوم بمطاردة المخلوقات الافتراضية داخل دور العبادة للعقاب وفق قانون “إهانة مشاعر المؤمنين”. وفي مقطع فيديو حظي بأكثر من مليون ونصف مشاهدة شارك سوكولوفسكي رحلته لاصطياد المخلوقات الكرتونية الملونة داخل كاتدرائية المدينة بجوار المذبح بينما يستعد قس الكاتدرائية لإقامة الصلاة، مرفقا إياه بتعليق ساخر يقول فيه: “قمت باصطياد جميع البوكيمونات، لكني لم أقم باصطياد أندرها وهو بوكيمون يسوع، مهلا، فهذا البوكيمون لا وجود له من الأصل”. تمثّل هذه القضايا، وأمثالها الكثير، تحولا مذهلا(4) في تاريخ روسيا القريب، فخلال أول عقدين من حكم الحقبة السوفياتية، قتل أكثر من مئتي ألف رجل دين، في حين تعرض ملايين المسيحيين الآخرين للاضطهاد بسبب إيمانهم، واستمر التمييز المناهض للدين في أكبر اتحاد في العالم حتى قبيل السقوط السوفياتي مطلع التسعينيات. ولكن الأمور لم تكن كذلك في روسيا ما قبل الحقبة السوفياتية، وبالتحديد في روسيا القيصرية، حيث كانت الكنيسة حاضرة بقوة في المشهدين الاجتماعي والسياسي. ويبدو أن موسكو اليوم ترتد إلى ماضيها القديم نسبيا، متجاوزة جذورها السوفياتية القريبة في بعض الأمور. والغريب أن الارتداد يأتي على يد فلاديمير بوتين، من كان حتى وقت ليس ببعيد أحد أبرز رجال الاستخبارات الروسية، والموصوف اليوم في موسكو بـ “القيصر”، وبدا وكأن الجميع تواطئوا على تجاهل جميع تناقضات إطلاق مثل هذا اللقب على رجل موسكو القوي، والمسؤول عن إدارة قواعد اللعبة في الكرملين اليوم. القيصر الجديد خلال العهود القيصرية في روسيا كان يُنظر(5) لحاكم البلاد بصفته مختارا من الله لقيادة الأمة الروسية المكلفة بتمثل عدد من قيم مستقاة بشكل رئيس من مبادئ الأرثوذكسية الروسية. ومع نهاية حقبة الاضطهاد الديني بسقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات بدأت الكنيسة الأرثوذكسية في العمل من أجل استعادة دورها الديني. في البداية، كان الفضاء مفتوحا للتنافس على الأتباع والتأثير في المجال الديني الروسي، حيث تدفقت فيضانات من المبشرين الغربيين، بما في ذلك الإنجيليين والكاثوليك، مستغلين “فراغا روحيا” رافق سقوط الاتحاد السوفياتي اللاديني، ما تسبب في خوف الكنيسة الروسية من ضياع فرصتها في إعادة بناء النفوذ الروحي لها، ومن تحولها إلى مجرد واحدة من هيئات دينية عديدة في روسيا الجديدة. دفعت تلك المخاوف الكنيسة إلى الارتماء في كنف الدولة، ونجحت عام 1997 في دفع الحكومة إلى إصدار قانون يقيد حرية الممارسة الدينية للأديان “الأجنبية” في الأصل، ما وضع الكنيسة الأرثوذكسية في مقعد القائد الديني من جديد. وعززت الكنيسة هذه الوضعية بشكل ملحوظ مع صعود بوتين للسلطة مرة ثانية عام 2012. وجاء قانون الإرهاب، الصادر منتصف العام الماضي 2016، ليعزز من سلطة الكنيسة عبر حظر(6) أي نشاط تبشيري خارج نطاق المؤسسات الرسمية. وقبل ذلك، في وقت مبكر من رئاسة بوتين، أصدر مجلس الدوما قانونا عادت بموجبه جميع ممتلكات الكنيسة المستولَى عليها خلال الحقبة السوفياتية، ما حوّل الأخيرة إلى أحد أبرز ملاك الأراضي بروسيا. كما وجه بوتين شركات الطاقة المملوكة للدولة بالمساهمة بالأموال لإعادة بناء آلاف الكنائس المدمرة تحت حكم السوفيات، حيث تم إعادة بناء حوالي 25 ألف كنيسة منذ أوائل التسعينيات، شيّد معظمها خلال حكم بوتين. إضافة إلى ذلك، تم منح الكنيسة دورا في الحياة العامة والتعليم الديني بالمدارس، كما منحت الحق في مراجعة أي تشريع منظور أمام مجلس الدوما الروسي. لا يمكن اعتبار بوتين شخصا متدينا، كما أنه لم يكن يوما شيوعيا ملحدا بالمعنى الحرفي، وهو يرى أن ما خسرته روسيا حقيقة بسقوط الاتحاد السوفياتي هما النفوذ والقوة وليست الشيوعية بعينها، وبالنسبة له فإن المسيحية الأرثوذكسية هي الوجه الآخر للشيوعية اللينينية، حيث يلعب كل منهما دورا وظيفيا في خدمة الدولة. وتتمحور هذه الوظيفة(7) في نهاية المطاف حول ترسيخ السيطرة الثقافية، وتغذية هوية وطنية فريدة. في النهاية، وبالنسبة له، لا يهم أن تكون روسيا قيصرية أو سوفياتية، متدينة أو ملحدة، المهم أن تكون قوية موحدة، ودائما تحت السيطرة. لا يختلف الروس اليوم كثيرا عن رئيسهم في نظرتهم للمسيحية، ففي حين يُعرّف(8) الغالبية العظمى من الروس أنفسهم، بنسبة تصل إلى 90% في بعض التقديرات، على أنهم “مسيحيون أرثوذكس”، فإن ثلث النسبة تقريبا يعرفون أنفسهم في ذات الوقت كونهم ملحدين أيضا، ما يجعل نظرة الروس للمسيحية يغلب عليها حس انتماء وطني أكثر من انتماء روحي أو ديني. يتشارك بوتين والكنيسة إذن نظرتيهما للمسيحية الأرثوذكسية بوصفها وسيلة لترسيخ سيطرة كل منهما على فضائه، الفضاء الرمزي في حالة الكنيسة، والفضاء السياسي في حالة بوتين، لذا فقد تشاركا أيضا العداء تجاه جميع صور التبشير الديني غير المقننة والرسمية، ممثلة تهديدا للهيمنة الرمزية للكنيسة على حياة المسيحيين الروس الاجتماعية، ومن الناحية الأخرى ممثلة تهديدا مبطنا لقبضة الدولة السياسية، عبر قيام أنماط التبشير المختلفة بنشر أيديولوجيات متنوعة قد تعزز التوترات السياسية. كانت هذه هي ملامح صفقة بوتين الجديدة: خسرت روسيا كثيرا بسقوط الاتحاد السوفياتي، وعلى رأس ما خسرته عدم امتلاكها أيديولوجيا قوية توحد مواطنيها في الداخل وتبشر بها في الخارج، وأتى الحل في توليفة تجمع بين القومية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية، تحت رعاية كل من الدولة والكنيسة. فمن ناحية تستعيد للكنيسة دورها الرمزي المفقود إبان حكم السوفيات، وعلى الجانب الآخر توفر التوليفة لبوتين أيديولوجيا قوية موحِدة، وفي نفس الوقت قابلة للإخضاع والسيطرة، وبدا أنها كانت صفقة ذكية ورابحة للطرفين. وفّرت الصفقة الجديدة مبررا أيديولوجيا صلبا لبوتين للضغط على المعارضة والجماعات الدينية الأخرى ذات الآراء السياسية المخالفة، وساعدت في توطيد نفوذه ز بفعل الاعتراض الشعبي المرافق لصعوده الثاني للسلطة عام 2012، بيد أن حلة المبشر الجديدة التي يرتديها بوتين لم تكن موجهة للروس في الداخل فقط، ولكنها أثبتت فاعليتها بوصفها الركن الأبرز في خطته الكبرى لاستعادة نفوذ روسيا وتأثيرها في محيطها الإقليمي السابق. محيط يسيطر عليه اليوم الغرب، وخاصة أوروبا، خصم بوتين اللدود دوما، ومن يرى بوتين وجوب دفعها اليوم ثمن “غطرستها” من باب طالما افتخرت به بوصفها حاملة مشاعل الليبرالية والتنوير. وإذا كانت أوروبا تعتقد أن حروبها حول الدين انتهت في عام 1648 فإن المواجهة الحالية مع روسيا توضح أن هذا ليس هو الحال بكل تأكيد. نحن الآن في نهاية عام 2014، والتوتر على أشده بين أوروبا وروسيا بفعل إقدام الأخيرة على ضم شبه جزيرة القرم بالقوة العسكرية، ولكن الوضع في نيس، للجنوب على ساحل المتوسط، يختلف كثيرا عن الوضع في إحدى عواصم الاتحاد الرئيسة “باريس”، حيث القادة المحليون من اليمينيين في نيس المحبون لبوتين، ومن أثنى بعضهم بشكل علني على خطوته “الجريئة” بضم شبه الجزيرة، متجمعين صحبة السفير الروسي والكهنة الأرثوذكس في مهرجان في أحد أفخم فنادق المدينة الفرنسية، حدث يجمع في سلاسة غير معتادة بين الروح الباريسية الغربية والروح الروسية الشرقية، بينما يحتفل الجميع بعودة كاتدرائية نيس رسميا للحظيرة البطريركية الروسية بموسكو، بعد سنوات طويلة من التجاذبات. على مدار هذه السنوات ظلت الجمعية الأرثوذكسية الفرنسية تابعة للبطريرك المسكوني في القسطنطينية “إسطنبول”، الخصم الديني التاريخي لبطريركية موسكو، وأحد أكبر موفري الملاذات للكثير من خصوم بوتين الدينيين. وبعد معركة قانونية طويلة استعادت موسكو أخيرا السيطرة على كاتدرائية القديس نيوقولاس، وقامت بتنصيب الكهنة الخاصين بها، غير مبالية باعتراضات أتباع الكاتدرائية المحليين، وشرعت على الفور في حشد المؤمنين وراء مشاريع مختلفة لتدفئة علاقات فرنسا الباردة بروسيا، لكن نفوذ كهنة بوتين في فرنسا لا يبدو اليوم محصورا في نيس البعيدة وحدها. في قلب العاصمة باريس ترتفع اليوم القبة الرئيسة الذهبية لكاتدرائية روسية أرثوذكسية جديدة على ضفاف نهر السين، تشق حيًّا رئيسا يعج بالمباني الحكومية والسفارات الدولية. حصلت موسكو أخيرا على هذا الموقع بعد سنوات من ضغط الكرملين، وبعد منافسة حامية مع دول أخرى على رأسها كندا والمملكة العربية السعودية في 2008. وسرعان ما رصدت موسكو مبلغ هائلا يوازي 100 مليون يورو لإنشاء “المركز الروحي الثقافي” في قلب باريس، وهو مجمع ضخم مكون من أربعة مبانٍ منفصلة، يشمل كنيسة ومدرسة وقاعة مؤتمرات ومركزا ثقافيا تديره السفارة الروسية، ويبدو كاستعراض ضخم لروسيا كقوة دينية وثقافية في قلب قلعة التنوير والعلمانية الغربية، كما أنه يرتبط شخصيا بالرئيس(9) الروسي، لدرجة أن وزير الثقافة السابق في فرنسا، فريدريك ميتران، اقترح ساخرا أن يطلق عليه “مركز سانت فلاديمير”، أو “القديس فلاديمير”. يحب(10) بوتين “القديس” وصف معركته مع الغرب على أنها “حرب روحية وثقافية”، وليست مجرد معركة سياسية أو عسكرية، حرب يقدم فيها الرئيس الروسي بلاده بوصفها “نموذجا حضاريا يمكن أن يحشد أولئك المتضررين من تآكل القيم التقليدية حول العالم”. في أعقاب الأزمة المالية العالمية اجتاحت الانتفاضات الشعبية جميع أنحاء أوروبا، ولكن بوتين استشعر على ما يبدو أن هناك انتفاضة أكبر على وشك إغراق القارة العجوز، وأنها لن تكون هذه المرة مجرد أزمة مالية عابرة مهما كبرت. وقد لاحظت(11) ورقة مهمة أعدّها مركز الاتصالات الإستراتيجية في عام 2013، وهي مؤسسة بحثية مؤيدة للكرملين، أن قطاعات كبيرة من الجماهير الغربية “تحتقر اليوم تلك القيم السائدة في الغرب مثل النسوية وحركات حقوق المثليين، وبشكل أعم، الاتجاه الليبرالي الذي تدفع النخب الغربية الحديثة مجتمعاتها إليه”. ومع وجود الجماهير التقليدية المؤيدة للانتفاضة الثقافية المنتظرة كان الرئيس الروسي ينتظر الفرصة ليرتدي ثوبه الجديد، ثوب رسمته له الورقة(12) الإستراتيجية التي خطّها مستشاروه تماما: آن الأوان لتصبح روسيا، وبوتين على وجه التحديد، “القائد الجديد لعالم المحافظين”. لم ينتظر بوتين طويلا، وسرعان ما تحولت لهجة خطابه بشكل درامي منذ عام 2013. في ذلك العام ظهر التحول الخطابي في أكثر من مناسبة بعبارات شديدة المباشرة كـ: “كم من الدول الأوروبية الأطلسية الرافضة لجذورها، بما في ذلك القيم المسيحية المشكّلة لأساس الحضارة الغربية. إنهم ينكرون المبادئ الأخلاقية وجميع الهويات التقليدية، على الصعيد الوطني والثقافي والديني وحتى الجنسي”، مؤكدا أن الغرب يتجه بسرعة إلى “ظلام فوضوي، وتسوده اليوم حالة أقرب إلى البدائية”، حد تعبيراته. وظّفت(13) موسكو جميع أدوات قوتها الناعمة، بدءا من علاقتها مع الكنيسة الأرثوذكسية، وصولا إلى وسائل الإعلام الممولة من قلب الكرملين مثل روسيا اليوم وسبوتنيك، في تصدير صورتها الجديدة كراعية لعالم المحافظين المتدينين، عبر نشر عقيدة مضادة للمثلية الجنسية وحتى إقرار قانون يحظر المثلية في الداخل الروسي عام 2013، وعبر التصدي لأي محاولات لوضع الحقوق الفردية فوق حقوق الأسرة أو المجتمع أو الأمة الروسية. وتساعد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مشروع روسيا الجديد باعتبارها حليفا طبيعيا لجميع الساعين من أجل عالم “أكثر أمنا وأقل ليبرالية، بعيدا عن اندفاع العولمة والتعددية الثقافية وفورة حقوق المرأة والمثليين”. بينما تعمل وسائل الإعلام على توصيل صوت بوتين إلى الجماعات المحافظة والقومية في الخارج، مع رسالة مفادها وقوفه معهم ضد نشطاء المثلية وقوى “الاضمحلال الأخلاقي” كما يطلقون عليها. ومن ناحية أخرى فإنها تواصل بث الدعاية المناهضة للقيم التحررية في أوروبا، الموصوفة اليوم في الإعلام الروسي باسم غيروبا(14) (Gayropa)، أو “أوروبا المثلية”، كنوع من الوصمة الأخلاقية المذكرة دائما بانحراف القيم الأوروبية. عقيدة غيراسيموف يبدو أن توجه روسيا الجديد أثمر أكله بأسرع مما كان يظن بوتين نفسه، وبفضل التحالف الوثيق بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكرملين أثبت الدين فاعلية قوية للغاية في الأراضي السوفياتية السابقة مثل مولدوفا، حيث قام كبار الكهنة الموالون للكنيسة في موسكو بحملة منظمة لمنع اندماج بلادهم مع الغرب، وفي الوقت نفسه قاد الكهنة في جمهورية الجبل الأسود جهودا مكثفة لعرقلة خطط بلادهم للانضمام إلى الناتو، لتمر الأشهر تلو الأشهر، وتبقى مولدوفا حليفة لروسيا كما هي، وتظل جمهورية الجبل الأسود بعيدة عن الناتو. تجاوزت طموحات بوتين على ما يبدو استعادة بعض النفوذ في الأراضي السوفياتية نفسها للانتقام من أوروبا بأكملها، وفي الخلفية مشهده هو نفسه مضطرا لرؤية “حدث مرير” كتنكيس العلم السوفياتي فوق الكرملين ليحل محله العلم الروسي. كانتا أوروبا وأميركا بنظره على الأغلب هما المسؤولتين عن ذلك، ورغم أن روسيا اليوم ليست بقوة تسمح لها بانتقام مضاد فإن أوروبا اليوم ليست قوية وموحدة أيضا، بينما نجد الولايات المتحدة هي الأخرى في إحدى أكثر لحظاتها انشغالا بهمومها الداخلية، لذا جاءت الإستراتيجية من بنات أفكار رئيس الأركان الروسي، ونائب وزير الدفاع الحالي، فاليري غيراسيموف(15). يعيش الكرملين اليوم في خضم عالم معقد يحوي قوى وتحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية تفوق قدرات موسكو في الوقت الراهن. ولكن بالنسبة لغيراسيموف، ووفق ما نشره في مقاله الشهير بمجلة سوسيال إندستريال كوريه، المهتمة بالإستراتيجية العسكرية الروسية، تحت عنوان “قيمة العلم في التنبؤ”، فإن روسيا اليوم لا تحتاج إلى مضاهاة القوة العسكرية لأوروبا والولايات المتحدة لتكون قادرة على تحقيق أهدافها الجيوسياسية. كان الربيع العربي نموذجا رئيسا بنى غيراسيموف عليه أفكاره لتعرف اليوم في الأوساط السياسية باسم “عقيدة غيراسيموف”(16). في عالم اليوم، وما بين عشية وضحاها، يمكن لدولة هادئة ومستقرة أن تتحول إلى ساحة لصراع عالمي يزلزلها رأسا على عقب، ثم يحولها إلى كومة من الركام، ومن شأن هذا النوع من الصراعات أن يصبح وسيلة لتحقيق أغراض سياسية، حتى بالنسبة لقوى ليس لها علاقة بجوهر الصراع نفسه. وهي صراعات لا تحتاج إلى الكثير من الاستثمار العسكري، بقدر ما تحتاج إلى المزج بين القوة الاستخباراتية والتكنولوجية والاقتصادية والدبلوماسية والمعلوماتية، وتوظيف الأصول المحايدة كقوات حفظ السلام مثلا، في مزيج لا تمثل القوة العسكرية أكثر من خُمسه، ليصبح ذلك كله ما يعرف بـ “مزيج غيراسيموف 1:4″، وهو ما فعلته روسيا تماما في أوكرانيا ثم في سوريا وربما الآن في ليبيا، ورغم كل ما يقال عن أهداف روسيا من التدخل في هذه الصراعات فإنه يبقى أمر واحد يجمعها كلها: جميعها موجهة إلى أوروبا. في وقت شغلت فيه روسيا العالم بمناوشاتها في شرق أوروبا فإنها فاجأت الجميع بتدخلها في سوريا وظهرت ي أكبر موجة تدفق لاجئين إلى القارة العجوز، وهي ترغب الآن في التحكم في صُنبور اللاجئين عبر اكتساب موطئ قدم لها في ليبيا، الدولة الأفريقية حاملة مفاتيح تدفق اللاجئين عبر المتوسط. وفي وقت تحتدم فيه الصراعات الداخلية الأوروبية حول قضايا الأمن والهوية، بفعل الأزمات الاقتصادية، وتدفقات اللاجئين و”الإرهاب”، فإن “قائد عالم المحافظين” انتقل إلى المرحلة التالية من خطته، وبدأ يحرك بيادقه الكامنة في قلب أوروبا نفسها. “يتامى” بوتين على الرغم من تصنيف العالم اليوم لأوروبا والولايات المتحدة باعتبارهما على جانب واحد من الرقعة السياسية، تبدو الصورة مختلفة بعض الشيء حال قررنا تجاوز السطح السياسي لنظرة اجتماعية أكثر عمقا. فهناك تاريخ طويل من نظرة مرتابة(17) تجاه الولايات المتحدة متأصلة في اللاوعي الأوروبي، حيث لا يشعر الأوروبيون في قرارة أنفسهم بالكثير من الرضا عن عالم انتقلت القيادة فيه إلى الشاطئ الآخر من الأطلسي. لذا كان من الطبيعي أن تعرف أوروبا على مدار تاريخها إرثا من الوله الروسي والارتياب الأميركي ألقى بظلاله على تيارات تقبع اليوم في أقصى يمين الجانب السياسي لها. ووعت روسيا هذه الحقائق منذ البداية، وهندست خطتها في ربط هذه التيارات بشبكة عالمية أشبه بشبكتها الشيوعية العالمية القديمة، أو ما يعرف بـ “الكومنترن”. ركزت روسيا خطواتها في البداية على فرنسا، وتحكمت موسكو في اثنين من ثلاثة من أبرز المرشحين لشغل قصر الإليزيه إبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية الماضية، أولهما مارين لوبين، الناقد الشرس للهجرة والعولمة، وحزبها الجبهة الوطنية، والحاصلة في عام 2014 على قرض من بنك روسي بقيمة تسعة ملايين يورو، وفي المقابل روّج الحزب لروسيا باعتبارها حليفا طبيعيا لأوروبا، وثانيهما هو(18) فرانسوا فيون الفائز وقتها بترشيح يمين الوسط، ومن لم يجد غضاضة في الإعلان عن ولهه بالرئيس الروسي، لدرجة دفعت ألان جوبيه، منافس فيون وقتها، للقول إنه ولأول مرة في تاريخ الانتخابات الفرنسية فإن “الرئيس الروسي يختار مرشحه”. بخلاف النزعة التقليدية في معاداة الأميركانية “Anti – Americanism”، هناك العديد من الأسباب المفسرة لاحتضان بوتين في فرنسا، ولعل أحد أبرزها هو هيمنة التوجه “الجريميادي”(19) التشاؤمي، توجه طالما ميّز الثقافة الفرنسية الحافلة بانتقاد أمراض المجتمع والتنبؤات حول سقوطه الوشيك، وهي نزعة طالما كانت متوافقة مع توجهات القاعدة المحافظة الفرنسية. يتركز الكثير من القلق في فرنسا اليوم على فكرة “النزوح الكبير”، والخوف من تحول فرنسا إلى بلد مسلم، وما يعرف بـ “الخطر الديمغرافي” في ظل الحديث عن انخفاض نسبة المواليد بين الفرنسيين الأصليين. ويجادل رموز اليمين الفرنسيين أن البلاد في طريقها إلى تبديد تقاليدها الثورية وتراثها الثقافي دون أن ترفع إصبعها لإنقاذ نفسها، وهو ما يطلق عليه الصحافي الفرنسي وأحد رواد الإسلاموفوبيا في البلاد، إريك زمور(20)، اسم “الانتحار الفرنسي”. ولكن ظاهرة الوله ببوتين وروسيا في أوروبا لا تقف عند حدود فرنسا وحدها، ولكنها تمتد إلى سائر أوروبا من الشرق إلى الغرب، بداية من رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، عراب محبي بوتين في أوروبا، وحزب جوبيك النازي المجري أيضا، والمتهم هو الآخر بتلقي الأموال الروسية، مرورا بحزب الحرية في الجارة النمسا، وصولا إلى ألمانيا ذاتها، قلب الاتحاد الأوروبي، حيث الحزب الوطني الألماني المتطرف وزعيمه أودو فواغيت، مَن لا يُخفي ولهه ببوتين بأي شكل، في حين يتهم مستشارة بلاده أنغيلا ميركل بـ “الخيانة” بسبب قيامها بفتح حدود البلاد أمام المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط، وانتهاء ببريطانيا نفسها، حيث يبرز نجم نايجل فاراج، مؤسس حزب الاستقلال والزعيم الشعبوي المقرب شخصيا من بوتين، ومن يشتهر عنه قول: “لا تلكز الدب الروسي بالعصا، لأنك إن فعلت فإنه سيرد عليك”. تتشاطر(21) موسكو مع الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا، وجميع أنحاء العالم، اعتقادا راسخا بأنه، وبغض النظر عن الأيديولوجيا، يجب خلع النخب التقليدية بسبب دعمها للعولمة والمؤسسات العابرة للوطنية مثل الناتو والاتحاد الأوروبي. وفي عام 2015، وفي محاولة لتوحيد الجماعات اليمينية المتطرفة والمتشابكة أحيانا، ووضع روسيا في صدارة الحركة الآخذة في التوسع ضد النخب الليبرالية، نظّم حزب رودينا(22)”الوطن الأم” الروسي المقرب من بوتين اجتماعا لشخصيات قومية من أوروبا ودول وأماكن أخرى، في غرفة اجتماعات ضيقة في فندق هوليداي إن في سانت بطرسبرغ، حينها قال فيودور بيريوكوف، زعيم الحزب، إنها المرة الأولى لتجمع الناشطين في “طليعة عالمية جديدة للتغلب على الزواج من نفس الجنس، والإسلاميين المتطرفين، وممولي نيويورك”. ورغم تأكيد بيريوكوف أن الكرملين لم يدعم مبادرته فإنه لم يقم بمعارضتها أيضا. جذبت ظاهرة الوله الأوروبي ببوتين اهتمام الكثير من الباحثين، ومن ضمن هؤلاء برز كل من بيبا نوريس من كلية كينيدي بجامعة هارفارد، ورونالد إنغليهارت بجامعة ميشيغان، ليجريا بحثا، جمع بين قواعد الإحصاء والعلوم الاجتماعية، وجدا فيه أن الشعبويين اليمينيين تغذوا إلى حد كبير على عزلة الناخبين البيض الأكبر سنا ممن يشعرون بالغضب إزاء تآكل القيم التقليدية، ليشعر هؤلاء اليوم بأنهم غرباء عن القيم السائدة في بلادهم، ما ولّد لديهم ضعفا في إيمانهم بالديمقراطية، وتوقا إلى “رجل قوي” أو “ALFA” يمكنه أن يجنبهم الكارثة. كان لافتا للنظر أن هذه العزلة، وهذا الوله بالرجل القوي، يبدو حاضرا اليوم بقوة على الضفة الأخرى من الأطلسي، حيث القائد الأول للعالم الحر في واشنطن، مدينة انتخبت هي الأخرى رئيسا لا يتحرج عن إخفاء غرامه بالقديس. آلام رونالد ريغان قبل أكثر من ثلاثة عقود، وبالتحديد في (مارس/آذار) عام 1983، كان الرئيس الأميركي رونالد ريغان يلقي خطابا في مكان لم يبد مألوفا لسابقيه من الرؤساء الأميركيين، وجاء صعود ريغان للسلطة وقتها مدفوعا بأصوات المحافظين الدينيين، وأتباع الكنيسة الإنجيلية، من توافدوا للتصويت بشكل منظّم للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الأميركية. وكان 3.5 مليون صوت من أنصار الجمعية الوطنية الإنجيلية كفيلة بتمهيد طريق ريغان للبيت الأبيض، لذا كانت الجمعية ذاتها المكان الأجدر لريغان ليعلن منه حربه المقدسة. كان ريغان بحاجة إلى الدعم الأخلاقي من أجل خوض حربه الباردة ضد روسيا، وكانت هتافات “إلى الأمام يا جنود المسيح”، المترددة أصداؤها بين وقفات ريغان أثناء خطابه الشهير في الجمعية الإنجيلية، هي كل ما يحتاجه، وفي هذا التوقيت أعلن ريغان أن روسيا الشيوعية تمثل “محور الشر في العالم الحديث” على حد تعبيره، وكان ذلك إيذانا ببدء الحرب الباردة. ولم يكن ريغان ليتصور(23) في أكثر أحلامه شططا أنه وبعد مرور ثلاثة عقود، ومع مجيء رئيس جمهوري جديد للبيت الأبيض، فإن روسيا سوف تتحول إلى نموذج يتغنى به أنصاره السابقون من المحافظين، ومن نفس باب نبذه إياها بنفسه منه يوما ما، فلم تعد روسيا ذلك الكيان الشيوعي الملحد ذا الخطر واسع النطاق على القيم المحافظة الأميركية، ولكنها تحولت اليوم إلى النموذج المنشود لاستعادة تلك القيم. تحوّل الإنجيليون الذين دعموا يوما حرب ريغان ضد موسكو إلى جوقة احتفاء للرئيس الروسي في قلب الولايات المتحدة، وعلى رأس هؤلاء بريان فيشر، المتحدث باسم جمعية العائلة الأميركية الإنجيلية، قائلا إن قانون تجريم المثلية في روسيا هو “نوع من سياسة ندعمها”، كما دعم المركز الأميركي للقانون والعدالة، وهو مجموعة قانونية إنجيلية بارزة، بعض تدابير بوتين المناهضة للمثليين جنسيا، وسافر بريان براون، المؤسس المشارك للمنظمة الوطنية للزواج، لروسيا للإدلاء بشهادته حول التشريع المناهض للمثليين واصفا بوتين بأنه “أسد المسيحية”، وبلغ الأمر أن فرانكلين جراهام، نجل القس الشهير بيلي جراها أحد أبرز داعمي ريغان، أثنى على بوتين في مقال له عام 2014، كما شن هجوما حادا على أوباما وقتها واصفا إياه بأنه “من داعمي الإلحاد”. وعلى العكس من أوروبا حيث تمثّل الهجرة والإسلاموفوبيا أبرز دعائم شبكة اليمين الموالية للرئيس الروسي، فإن القيم العائلية ونبذ المثلية تلعب الدور الرئيس على الجانب الآخر من الأطلسي. ففي الولايات المتحدة تدعم روسيا مجموعة أميركية غامضة تسمى المجلس العالمي للعائلات(24)، وهي منظمة لعبت دورا اجتماعيا كبيرا في أميركا منذ تأسيسها عام 1997، ولكن نشاطها تعاظم بشكل ملحوظ منذ عام 2014. يقع مقر المنظمة في مدينة روكفورد بولاية إلينوي، وتدّعي أن غايتها “المساعدة في تأمين أسس المجتمع”، والدفاع عن “الأسرة الطبيعية المبنية على الزواج بين رجل وامرأة”، وأحد رموز المجلس والرئيس الحالي للمنظمة هو بريان براون نفسه الذي سبق أن أشرنا إليه، أحد أبرز وجوه اليمين المتطرف في أميركا، وفي (فبراير/شباط) الماضي لعامنا الحالي كان براون يهبط(25) في موسكو في إحدى جولات الاتصال العابر للأطلسي بين روسيا واليمين الديني الأميركي. ولكن الروابط بين المنظمة وموسكو لا تعود(26) فقط لتلك الزيارة الأخيرة. في واقع الأمر فإن المجلس العالمي للعائلات هو نتاج أميركي روسي مشترك، وهو من بنات أفكار أناتولي أنتونوف وفيكتور ميدكوف، أستاذي علم الاجتماع بجامعة لومونوسوف الحكومية بالعاصمة الروسية، إضافة إلى الأميركي ألان كارلسون، الرئيس الفخري الحالي للمجلس. وكان العالمان الروسيان يبحثان عن وسيلة لدرء شتاء ديموغرافي لاح في الأفق بفعل التشريعات التقدمية، من تحديد النسل لحقوق المثليين، حين تعثرا في أفكار كارلسون. وفي شقة تعود ملكيتها لأحد الروس الأرثوذكس الصوفيين، تم وضع الخطوط العريضة لمنظمة تعيد المجد لليمين المسيحي العالمي. في وقت استهل فيه أوباما ولايته الثانية كانت موسكو تمرر قانونها الخاص بتجريم المثلية. وعلى الرغم من الإدانة الواسعة النطاق للقانون من أقصى أوروبا إلى أقصى أميركا فإن اليمين الديني الأميركي سارع إلى تأييد الكرملين. وفي خضم الخلاف المحتدم بين الولايات المتحدة وروسيا عام 2014 بسبب أوكرانيا أعلن المجلس العائلي خطط إقامة مؤتمره السنوي في موسكو، ما دفع الولايات المتحدة إلى وضع اثنين من أكبر الداعمين للمجلس في موسكو وهما النائبة السابقة يلينا ميزولينا(27) ورئيس سكك حديد روسيا السابق فلاديمير ياكونين على قائمة العقوبات الأميركية. بعد ذلك بعام واحد فقط كان المجلس يعقد اجتماعه السنوي في سولت ليك سيتي، بعد أشهر فقط من قرار محكمة التشريعات الأميركية أوبيرجيفيل(28) تقنين الزواج المثلي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وبدا أن لعبة موسكو في أميركا لم تزهر سياسيا بنفس قدر نجاحها في أوروبا، لكن القدر كان يخبئ صعودا مفاجئا لتيار اليمين البديل الأميركي على كتف إحباطات الرجل الأبيض الأميركي أيضا، وقبل أن يفيق العالم من صدمته كان دونالد ترمب قد وضع قدمه في البيت الأبيض. لا يحظى(29) بوتين داخل أروقة اليمين البديل الحاكم اليوم في الولايات المتحدة بذات القدر من التبجيل الذي يحظى به بين صفوف اليمين المتطرف في أوروبا. يدرك ستيف بانون، كبير مستشاري ترمب السابق ومنظّر أفكار اليمين البديل، جيدا طموحات بوتين الإمبريالية، وميوله الكلبتوقراطية، غير أن هذا التشكك لم يقوّض تعاطفه مع مشروع بوتين. ويشاطر(30) بانون رؤية بوتين حول عالم ينزلق بشكل مأساوي إلى أزمات متعددة دينية ورأسمالية، ويدعو الأميركيين على الدوام إلى الكفاح لحماية معتقداتهم ضد “تلك الهمجية الجديدة التي بدأت، والتي سوف تقضي تماما على كل ما ورثناه على مدار القرون الماضية”، كما قال. لا يمكن إغفال ذلك الجدل الدائر حول دور روسيا في تهيئة المناخ لصعود اليمين البديل للبيت الأبيض، بداية من الحديث حول دور الاختراق الروسي لقواعد بيانات الحزب الديمقراطي، وتسريب وثائقه لوسائل الإعلام، مرورا بحملات شائعات بثتها وسائل الإعلام الروسية ضد هيلاري كلينتون، وصولا إلى احتفائها المتزايد بترمب، وهي قضية تثير جدلا كبيرا في الرأي العام وداخل أورقة الحكم الأميركية من وقتها وحتى يومنا هذا. وفي حين أنه لا يمكن لمحلل رصين ادعاء أن روسيا هي التي أوصلت ترمب إلى البيت الأبيض، فإنه سيكون من العبث أيضا تجاهل التاريخ الطويل للجهود الروسية للتلاعب بالرأي العام الغربي، وهو دور لم يكن يوما مقتصرا على دعم التيارات والأشخاص المقربين من موسكو. تحكي مجلة نيويوركر القصة التاريخية كاملة في تحقيق مطول نشرته حول هذا الدور، فمع انتصاف فترة حكم ريغان الأولى أصدر يوري أندروبوف رئيس الاستخبارات السوفياتية (KGB) أوامره ببدء اتخاذ “التدابير النشطة” لمنع إعادة انتخاب ريغان، مَن صنّفته موسكو آنذاك باعتباره تهديدا عالي المستوى لوجودها نفسه. وتم رفع شعار “ريغان يعني الحرب”، وبدأ وكلاء موسكو في تشويه صورته كمرشح بوصفه “خادما فاسدا للمجمع العسكري الصناعي”. ولكن النتيجة كانت فشلا ذريعا، حيث أمن ريغان الفوز الأكبر في تاريخ انتخابات الولايات المتحدة الرئاسية بواقع 49 من إجمالي 50 ولاية. لم يكن ريغان هو الحالة الوحيدة المستهدفة، فقد استخدمت روسيا الشائعات ضد واشنطن بكثافة إبان الحرب الباردة، وأشاعت موسكو أن الحكومة الأميركية متورطة في اغتيال مارتن لوثر كينغ في الثمانينيات، كما نشرت شائعات بأن المخابرات الأميركية خلّقت فيروس الإيدز في فورت ديتريك بولاية ميريلاند. وفي عام 1996 كانت روسيا قد أضافت الحرب الإلكترونية إلى ترسانتها، حين نجحت في تنفيذ أول اختراق موجه للشبكة العسكرية الأميركية، وسرقة عشرات الآلاف من الملفات، بما في ذلك تصاميم أجهزة عسكرية وخرائط لمنشآت وتشكيلات القوات. وفي عام 2008 حقق الروس أكبر إنجازاتهم الإلكترونية حين نجحوا في اختراق شبكة سرية أميركية لم تكن حتى متصلة بالإنترنت، بعد أن نشر الجواسيس الروس أقراص تخزين محملة بالفيروسات في أكشاك البيع بالقرب من مقر الناتو في كابول، وراهنوا بشكل بالغ الذكاء على خطأ بشري نادر الحدوث، وأن أحد العاملين في المقر سيشتري واحدة ويدخلها في جهاز كمبيوتر آمن. في أوروبا كان الرئيس الأستوني توماس هندريك إلفيس هدفا للقرصنة الروسية في عام 2007، كانت أستونيا حينها متورطة في صراع مع روسيا حول خطط لنقل تمثال لجندي سوفياتي يعود للحرب العالمية الثانية من وسط العاصمة تالين، وحذرت موسكو من أن نقل التمثال ستكون له عواقب وخيمة على الأستونيين. أما في جورجيا، وتزامنا مع الحرب عام 2008، اخترق قراصنة روس أربعة وخمسين موقعا على شبكة الإنترنت يخدمون الحكومة والإعلام والبنوك، وسرقوا المعلومات العسكرية وشلّوا الإنترنت في البلاد، وفي حين عجز الضباط الجورجيون عن التواصل مع قواتهم فإن المواطنين في جورجيا لم تكن لديهم أي وسيلة لمعرفة ما يحدث حقا. وإبّان الانتخابات الفرنسية كانت المديرية العامة للأمن الخارجي، وكالة التجسس الفرنسية الرئيسة، قلقة من أن القراصنة الروس يعملون على مساعدة مارين لوبان للوصول إلى الإليزيه، في وقت شنّت فيه وسائل الإعلام الروسية حملة ضخمة ضد مرشح اليسار وقتها إيمانويل ماكرون، واصفة إياه بأنه مجرد “أداة للبنوك الأميركية ولديه ميول مثلية”، لكن الحملة فشلت لتخسر لوبان ويربح ماكرون بالفعل، في سيناريو إخفاق شبيه بسيناريو ريغان. أما في ألمانيا فإن برونو كاهل رئيس وكالة المخابرات قلق من أن القراصنة الروس يحاولون أيضا تشكيل المشهد السياسي الألماني ضد المستشارة أنجيلا ميركل. سخرية القيصر لا يمكننا أن نقرأ نزعات بوتين الدينية ونشاط إمبراطوريته الإعلامية وقراصنته الإلكترونيين كأمور منعزلة عن بعضها البعض، ففي النهاية فإن أيا من هذه الأمور لا يجاوز دوره الوظيفي في خطة بوتين الشاملة، من يبدو سعيدا اليوم بما حققه خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، والذي لا يتجاوز فقط قدراته وقدرات بلاده، ولكنه ربما تجاوز أحلامه أيضا. في صبيحة ليلة تنصيب دونالد ترمب كرئيس للولايات المتحدة كانت صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس الروسية تحتفي بالأمر على طريقتها الخاصة، فأعادت الصحيفة التذكير بمشهد اقتحام مؤيدي لينين لقصر الشتاء عام 1917، حيث اعتقلوا الوزراء الرأسماليين وأطاحوا بالنظام السياسي، وقالت إنه رغم أن أحدا في واشنطن لم يخطط لاقتحام الكونغرس أو البيت الأبيض، وشنق أعضاء بارزين في النظام القديم في يوم 20 (يناير/كانون الثاني) الماضي، فإن “شعور الغرب الليبرالي يومها لم يختلف عن شعور البرجوازية الروسية قبل مئة عام”. يحب الروس البروباغاندا، وبالتأكيد فإن بوتين يستفيد بشدة من ذعر يكسو ملامح غرب ليبرالي يخشى اليوم تقويض أسس نظامه، وهو يستمتع أيضا بعشرات المقالات في الصحف الغربية المرموقة المحذرة من خططه لتدمير العالم الغربي. ولكن بوتين يعي أنه إن كان هناك شيء يمكن أن يدمر العالم الغربي اليوم فسيكون التدمير الذاتي، أو أن يدمر نفسه بنفسه. لم يكن اختراق أجهزة الحزب الديمقراطي هو السبب في وصول ترمب إلى السلطة، كما أن ملايين موسكو وحدها لم تكن كافية لدفع لوبان إلى الإليزيه، بينما كان الاستياء الأبيض من آثار العولمة، والانقسام الذي تسببه منظومة القيم الليبرالية، وذعر الغربيين من فقدان السيطرة على بلادهم لصالح جحافل المهاجرين، والتردي الاقتصادي للطبقات الوسطى، هي عوامل أكثر أهمية بكثير، وكل ما يفعله بوتين وأدواته بمهارة هو المزيد من زعزعة الثقة في نظام يهتز بالأساس، لدرجة إيمانه بأن رجلا واحدا أصبح اليوم قادرا على تدميره، دون أن يطلق رصاصة واحدة. بالنسبة لبوتين فإن كل ما يفعله هو إعادة الخطة المجربة سلفا، فعندما رأى بيسمارك في القرن التاسع عشر أن الاحتجاجات يمكن أن تمثّل تحديا لحكمه حوّل انتباه الجميع إلى المثليين والمثليات. ولم يكن بوتين يوما مهتما بالحياة الجنسية للروس، فضلا عن الأوربيين، ولكنه ربما يشعر اليوم بالكثير من المتعة مراقبا هذا التخبط الغربي في القيم قبل السياسات، أما عن رونالد ريغان فربما يكون من حسن طالعه أن الأقدار غيبته عن الدنيا، قبل أن يكون مضطرا لمتابعة التفاصيل الدرامية لعالمه الذي يدمر نفسه اليوم في أتون حرب افتراضية في أفضل الأحوال. بالتعاون مع مركز دراسات الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × أربعة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube