أحمد دعدوش( الجزيرة )
تحل اليوم الذكرى السنوية لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية والتي توافق الخامس عشر من أغسطس/آب من كل عام، وهي ذكرى تستحضر الوطأة الثقيلة للقنبلتين النوويتين في هيروشيما وناغازاكي. أما هذه الذكرى، فتحل هذا العام مصحوبة بتحذيرات الكثير من السياسيين والمحللين في الآونة الأخيرة من ارتفاع خطر اندلاع حرب عالمية جديدة، في الوقت الذي يتسابق فيه زعماء الدول الكبرى إلى المزيد من التسليح؛ مما يعيد إلى الذاكرة مأساة الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة أكثر من سبعين مليون إنسان، وشهدت تحالفات مصلحيّة بين أيديولوجيات متضاربة، كتحالف الشيوعية السوفياتية مع الرأسمالية الغربية، في مقابل تحالف النازية الألمانية مع الفاشية الإيطالية والشنتوية اليابانية، إذ كان كل طرف من الحلف الثاني يرى أنه أرقى عرقيًّا من خصومه وحلفائه معًا.
وفي هذا المقال نستعيد قصة إمبراطور اليابان الفريدة من نوعها، فهي ليست مجرد قصة زعيم قاد بلاده نحو حرب طاحنة، بل قصة صراع الأسطورة مع الحداثة، وقصة الصدام بين عوالم متباينة في الزمان والمكان، حيث اجتمعت الأضداد في حياة هذا الرجل الذي بدأ حياته أميرًا حالمًا يستمتع بالهدوء ومراقبة الطبيعة وانتهى عجوزًا مكبلًا بذكريات مقتل وإعدام وانتحار حلفائه، تطارده كوابيس المجازر الجماعية والدمار الشامل.
نشأ الإمبراطور هيروهيتو في قصر الحُكم ببلد كان يتلمس طريقه إلى المنافسة على صدارة العالم بعدما ظل معزولًا عن الخارج عدة قرون، وبينما كان يحاول فهم ثقافة القوى الكبرى التي تحكم العالم، من شيوعية أممية ورأسمالية ليبرالية، كانت حاشية البلاط تركع بين يديه على أنه سليل “إلهة الشمس”، وأن قدَره هو قيادة شعبه المختار لاستعادة مجد بلاده التي خلقتها الآلهة قبل أن يتشكّل العالم. لذا لا بد لنا من وقفة مع عقيدة الشنتوية، كي نفهم خلفية القصة.
الشنتوية وتكريس العبودية
تقوم هذه الديانة على الاعتقاد بحلول الروح الكونية “كامي” في كل الموجودات، كما هو حال كل فلسفات الحُلولية ووحدة الوجود.
يتبع الشنتويون قواعد السلوك “بوشيدو” لضمان الانضباط، التي تنص على الولاء والشرف حتى الموت (رويترز)
لا يُعرف أصل الديانة الشنتوية ولا مؤسسها، والراجح أنها جُمعت من أساطير ما قبل التاريخ للسكان الأصليين، عندما كان الشامانات يتولون مهمة القيادة الروحية للقبائل، ويمارسون خليطًا من الطقوس السحرية لاستحضار الشياطين اعتقادًا بأنها أرواح الأسلاف. وتقوم هذه الديانة على الاعتقاد بحلول الروح الكونية “كامي” في كل الموجودات، كما هو حال كل فلسفات الحُلولية ووحدة الوجود.
تبدأ أسطورة الخلق اليابانية بمادة أولية تطفو في الفراغ، وهي ما يسميه الفلاسفة الهيولى، ثم بدأ الكون التشكل وظهر أول جيل من الآلهة، وبعد سبعة أجيال وُلد الإله “إيزاناغي” وزوجته “إيزانامي”، وأوكَلَت لهما الآلهة مهمة خلق العالم، فغرز إيزاناغي رمحه في البحر لتتجمد القطرات المتساقطة منه مشكّلة أرخبيل الجزر اليابانية، وعندما اغتسل إيزاناغي تساقطت منه آلهة متعددة لتشكل الأجرام وتضاريس الأرض، ومنها إله القمر “تسوكويومي” وإلهة الشمس “أماتيراسو”.
وفي وقت لاحق، أرسلت إلهة الشمس أحد أبنائها ليحكم الأرض، ومن سلالته خرج حفيد إلهة الشمس “جيمو” أول إمبراطور لليابان، الذي أمر أحفاده بجمع كل أركان الكون تحت سقف البلد المقدس الذي سُمي “نيبون”، وهو الاسم الذي أطلقه الصينيون على الأرخبيل ويعني “الأرض التي تطلع منها الشمس” لوقوعه في جهة المشرق، ليدعم بذلك ارتباط البلاد بالشمس.
وبهذه الأسطورة تم توثيق انتساب السلالة الإمبراطورية إلى الآلهة، وإن صعُبَ تأكيد اتصال نسبها بالأدلة التاريخية إلى “جيمو” المتوّج عام 660 قبل الميلاد، لكن الأدلة تدعم اتصال النسب إلى الإمبراطور كينمي قبل نحو 1500 عام؛ مما يجعلها أقدم السلالات الملكية في العالم.
“توري”، هو هيكل على شكل بوابة، يتم عبره تحديد المداخل إلى المزارات الشنتوية، وهو يفصل بين عالم الـ”كامي” المقدس والعالم الدنيوي المدنس. (الجزيرة)
شهدت اليابان طوال تاريخها صراعات كثيرة بين العشائر على السلطة، وفي أواخر القرن الثاني عشر الميلادي أسست عشيرة ميناموتو المتغلّبة نظامًا إقطاعيًّا استمر نحو 680 سنة يدعى “الشوغونية”، وهو نظام حكم سياسي واجتماعي طبقي صارم، يُبقي السلطة الرمزية الروحية للإمبراطور وينزع منه السلطة السياسية.
وقد وُضع الحُكم في يد القائد العسكري الملقّب “شوغون”، ثم أتت من بعده طبقة النبلاء الإقطاعيين “دايميو” الذين يقتسمون مناطق البلاد، ولكل واحد منهم جيشه وأراضيه، أما طبقة المحاربين الأشداء “ساموراي” فتتولى مهمة حماية هذا النظام، وكانوا يتبعون قواعد السلوك “بوشيدو” لضمان الانضباط، التي تنص على الولاء والشرف حتى الموت، وتأتي أخيرًا طبقة الشعب من العاملين في صيد الأسماك والزراعة والحرف اليدوية، وكان معظمهم أميًّا محرومًا من التعليم وملزمًا بدفع الضرائب للنبلاء، كما كان حمل السلاح حكرًا على الساموراي.
اعتمد نظام الشوغون البوذية بدلًا من الشنتوية لانتزاع فكرة قداسة الإمبراطور من المجتمع، ومع أن البوذية الوافدة من الهند والصين أعيد تشكيلها في اليابان لتظهر منها مذاهب جديدة -مثل مذهب زن البوذي- فإن فرض الشوغون هذه الديانة عزز التأثير الخارجي في الثقافة المحلية، وتسبب في بعض التفكك الاجتماعي، ولعل محاولات المغول -الذين سيطروا على وسط آسيا- غزو اليابان في القرن الثالث عشر كانت من أهم دوافع توحيد الإقطاعيين اليابانيين صفوفهم ونسيان خلافاتهم حتى نجحوا في صد الغزاة.
من العزلة إلى التوسع
في القرن الخامس عشر، بدأ تطلّع الأوروبيين لجوب البحار والمحيطات البعيدة واكتشاف قارات العالم الجديد، فضلًا عن احتلال العالم القديم ونهب ثروات الشعوب، فقرر نظام الشوغون عزل اليابان عن العالم ومنع السفن الأجنبية من الاقتراب، إلى درجة اعتقال أو إعدام أي وفود أجنبية وإحراق سفنها إذا تجرأت على الاقتراب من موانئ اليابان، ولم تنجح محاولات الروس والأوروبيين الضغط على الأرخبيل المعزول للانفتاح، إذ كانت الإمبراطوريات الصاعدة مهتمة بالثروات الطبيعية لليابان وبموقعها المهم على خطوط الملاحة البحرية.
وأخيرًا، أرسل رئيس الولايات المتحدة الأسبق ميلارد فيلمور أسطولًا عسكريًّا عام 1853 لإجبار اليابان على فتح موانئها ومنح امتيازات للتجار الأميركيين، فرضخ اليابانيون لهذا التهديد وبدؤوا الانفتاح على العالم الخارجي وتبادل البعثات الدبلوماسية والرحلات التجارية مع الدول الغربية، وسرعان ما اكتشفوا اتساع الهوّة الحضارية التي تفصلهم عن الغرب جرّاء العزلة الصارمة.
في عام 1868، كان النظام الإقطاعي قد بلغ نهايته مع تزايد السخط الشعبي والصراعات بين النبلاء، وبالتوازي مع ظهور طبقة تجارية (بورجوازية) مؤثرة، فضلًا عن الضغوط الخارجية والتهديدات بالاحتلال، فاندلعت ثورة شعبية ضد الشوغونية، وتولى الإمبراطور موتسوهيتو الحكم قبل أن يبلغ العشرين من عمره وسط احتفاء شعبي، ومع صغر سنه فقد كان بمثابة المنقذ لإنهاء نظام الشوغون واستعادة سلطة الأباطرة، ووجد في تراث الشنتوية أهم عنصر يستعيد به ولاء الشعب بعد نبذ الشوغونية البوذية، فالشنتوية هي الدين الوطني الذي يجعل الحرب تحت سلطة الإمبراطور الإله أعظم مجد للإنسان، ويزرع في عقول الرعيّة أن الطاعة المطلقة هي أهم أهداف حياتهم، وأن إنكار الفرد لذاته هو الذي يمنحه السلام الداخلي.
ومن المفارقات التاريخية العجيبة، أن الإمبراطور الذي نفض غبار التاريخ عن تلك المنظومة الأسطورية والشمولية هو نفسه الحاكم المستنير الذي أطلق المرحلة الإصلاحية “ميجي” بالانفتاح على الغرب للحاق بالثورة الصناعية، فسرعان ما استوردت اليابان من أوروبا الكثير من المبادئ الدستورية والأنظمة القانونية والتعليمية والعسكرية، بالتوازي مع إرسال البعثات للتعلم والتدرب في جامعات ومصانع أوروبا، لتتحول البلاد خلال سنوات قليلة من دولة زراعية معزولة إلى قوة صناعية تنافس الدول الكبرى في النفوذ، مع أن شعبها كان يؤمن بأن الأرواح تحلّ في الطبيعة، وأن الروح “كامي” التي تحل في الإمبراطور المنحدر من سلالة الشمس هي أرقى أرواح الوجود.
كانت الشنتوية هي التي ألهمت بعض مواد الدستور الإصلاحي لليابان، فالمادة الأولى منه تنص على أن “إمبراطورية اليابان ستظل تحكمها سلالة من الأباطرة إلى الأبد”، أما المادة الثالثة فتنص على أن “الإمبراطور مقدّس ولا يجوز المساس به”، كما كانت كليات القانون تعلّم الجيل الجديد من اليابانيين أن “الشعب لا يفكر إلا وفقًا لإرادة الإمبراطور”، بينما كان جنود الجيش الياباني يتعلّمون في الكليات العسكرية أن الذين يلقون حتفهم في المعركة وهم يرددون عبارة “تينو هيكا بانزاي” (يحيا الإمبراطور إلى الأبد) سيلحقون بالأرواح المقدسة.
ومع ذلك، فقد تضمنت إصلاحات ميجي إجراءات ديمقراطية مهمة، فمع أن الدستور ينص على احتكار الإمبراطور حق الموافقة على القوانين وإصدارها، وأنه يهيمن على القيادة العليا للجيش، فقد منحت الإصلاحات للشعب حق انتخاب ممثليه في البرلمان، وأعطت رئيس الوزراء صلاحيات مهمة.
كان صعود اليابان صادمًا للصين التي ظلت القوة العظمى في شرق آسيا طوال قرون، فحاولت الأخيرة إجراء إصلاحات مماثلة لاستدراك ما فاتها ولكن بدون جدوى، وسرعان ما اصطدم جيشا البلدين في 1894 لتكتشف الصين تخلفها العسكري وتطالب بهدنة في مطلع العام التالي، وانتهت الحرب بسيطرة اليابان على تايوان وكوريا وظهور قوة استعمارية جديدة.
إمبراطور السلم والحرب
عاد ولي العهد لليابان محمّلًا ببعض الأفكار الليبرالية، ومقتنعًا بضرورة تقليص الحواجز التي تحجبه عن الشعب، لكن معارضة البلاط كانت كفيلة بالحدّ من طموحه
في ربيع العام الأول من القرن العشرين، وُلد الأمير هيروهيتو في قصر طوكيو، حيث كان جدّه موتسوهيتو -الذي مُنح بعد رحيله لقب الإمبراطور ميجي- يقطف ثمار إصلاحاته ويتطلع لتوسيع حدود إمبراطوريته، فلم يكمل الأمير عامه الخامس حتى هزَمت اليابان روسيا وطردت قواتها من كوريا، وأصبحت القوة العظمى في كل آسيا والمهيمنة على منطقة المحيط الهادئ.
نشأ هيروهيتو في عزلة إمبراطورية داخل أسوار القصر، وعندما بلغ العاشرة من عمره توفي جده الإمبراطور ميجي، فرأى الأمير الصغير طقوس انتحار الجنرال نوغي ماريسوكي الذي كان الحاكم الياباني على تايوان، إذ لم يتردد الجنرال الكبير وهو في سن الثانية والستين في الالتزام بالقواعد الشنتوية القديمة المتمثلة في لحاق الخدم بأسيادهم في الموت، فانتحر مع زوجته بطعن بطنيهما بسيوف الساموراي وفقًا لطقوس “الهاراكيري”، ولا سيما بعد إقرار الجنرال بفقدان الكثير من جنوده في المعارك. ولعل هذا الحدث قد أثار إعجاب الأمير الطفل، ورسّخ في نفسه الاعتزاز بالشنتوية.
جلس يوشيهيتو على العرش، وأصبح ابنه هيروهيتو وليًّا للعهد، وتربى على التقشف والانضباط واحترام قواعد الشنتو، كما تلقى تعليمًا حديثًا ضمن المنظومة التعليمية المتقدمة التي أنشأها الإمبراطور ميجي للحاق بالغرب. وكان ولي العهد مولعًا بعلم الأحياء (البيولوجيا)، ويُحسب له اكتشاف نوع جديد من الرُبيان على شاطئ مقاطعة سوروجا، فأُعطي هذا النوع اسمًا جديدًا يحمل معنًى إمبراطوريًّا هو “سيمباسيفيا إمبيرياليز”. كما أمر بإنشاء وتجهيز مختبر للدراسات البيولوجية البحرية داخل القصر، وواصل إجراء أبحاثه فيه حتى أواخر حياته.
وعندما بلغ سن العشرين، تمكّن فريق إصلاحي من رجال القصر من إقناع الإمبراطور والحاشية بالسماح لولي العهد هيروهيتو بالسفر إلى الخارج، لكن الفريق التقليدي أصيب بالذعر من خرق قوانين البلاط، إذ لم يسبق قط أن غادر ولي العهد الإمبراطوري “أرض الآلهة”، وهدد حرّاس القيم الشنتوية بالانتحار وإلقاء أنفسهم تحت عجلات القطار الذي يحمل ولي العهد إلى سفينته، لكن الأمير الصغير تمسك بموقفه ونجح في السفر بدون سفك للدماء، وانطلقت سفينته لتزور عدة محطات آسيوية مرورًا بالقاهرة وقناة السويس، ثم بدأ اكتشاف أوروبا التي كانت مشغولة برفع أنقاض الحرب العالمية الأولى، فزار المملكة المتحدة وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا والفاتيكان، وحظي خلال ستة أشهر باستقبالات رسمية ومآدب ملكية.
لم تخلُ جولته خارج “أرض الآلهة” من مواقف مربكة له ولمرافقيه، ففي باريس ذهب للتسوق واكتشف أنه بحاجة إلى التعامل بالمال، لكن النقود تُعدّ من المدنّسات التي لا يجوز لسليل الآلهة أن يلمسها. وفي لندن، تشابكت مخطوطة طويلة كان يقرأ خطابه منها فلم يستطع الجمهور الذي لم يكن متقيدًا بقواعد الشنتو أن يكتم ضحكه. وعندما أصر ولي العهد الشاب على تجربة ركوب قطار الأنفاق في لندن متخفيًا، أصيب مرافقوه بالذعر وهم يراقبون الموظف يوبخه لأنه لم يكن يحمل تذكرة.
عاد ولي العهد إلى اليابان محمّلًا ببعض الأفكار الليبرالية، ومقتنعًا بضرورة تقليص الحواجز التي تحجبه عن الشعب، لكن معارضة البلاط كانت كفيلة بالحدّ من طموحه. وفي العام التالي، أصبح هيروهيتو وصيًّا على عرش اليابان بدلًا من والده يوشيهيتو الذي كان يعاني من مرض عقلي. وفي أواخر 1926 توفي يوشيهيتو، وأقيمت احتفالات باذخة لتنصيب هيروهيتو إمبراطورًا وهو في سن الخامسة والعشرين، حيث ارتدى زي أسلافه البرتقالي الطقسي، وقدّم قربانًا من الأرز المقدس عند ضريح “جدّته” إلهة الشمس.
لم يكن هيروهيتو يتمتع بقوة الشخصية الكافية لاحتكار زمام السلطة، وكان بلاطه منقسمًا بحدة بين فريقي اللحاق بالغرب والحفاظ على التقاليد اللذين تشكّلا في عهد جدّه الإمبراطور ميجي، كما شهدت سنوات حكمه الأولى محاولات للتمرد في كوريا، مما منح الفرصة لقادة الجيش لاستعادة نفوذهم في البلاط بشكل يذكّر بما كما كان عليه الحال في النظام الشوغوني، فأطلقوا عام 1931 مرحلة جديدة من التوسع الاستعماري بالمزيد من التوغل في الأراضي الصينية واحتلال منشوريا، ثم غزو شمال الصين عام 1937 ودخول بكين وشانغهاي والعاصمة آنذاك نانجينغ، والتطلع لاحتلال الصين كلها وإجهاض محاولاتها لتطوير جيشها واقتصادها.
في صيف 1938، تمكنت المقاومة الصينية من صدّ الهجمات اليابانية وإيقاف تقدمها، وفي الوقت نفسه قرر قادة الجيش الياباني غزو الاتحاد السوفياتي، ومع أنهم أحرزوا بعض المكاسب فإن القوات المنغولية والسوفياتية حالت دون توغل اليابانيين في وسط آسيا، فقرروا توجيه أطماعهم نحو المستعمرات الأوروبية في المحيط الهادئ لانتزاعها.
لم يُبدِ هيروهيتو اعتراضًا على غزو الصين لكن بعض المصادر تذكر أنه كان مترددًا، كما أوهمه قادة الجيش بأن الحرب لا تستغرق سوى بضعة أشهر، ويحمّله مؤرخون غربيون مسؤولية المجازر الفظيعة التي ارتكبتها قواته في الصين، وأنه أعطى الإذن باستخدام الغاز السام في مئات الهجمات خلال عام 1938.
وبينما كان الجنرالات والأدميرالات اليابانيون يضعون الخطط للتوسع في أراض جديدة وقمع المتمردين في مستعمراتهم، كان هيروهيتو يعيش بهدوء داخل أسوار القصر الإمبراطوري في طوكيو، ويكتب أشعارًا تدعو إلى السلام والوئام بين الأمم، ويمارس أحيانًا هوايته المفضلة في دراسة علم الأحياء والتأمل في الكائنات البحرية الدقيقة تحت المجهر. كما كان يمر أحيانًا بموكبه الإمبراطوري في الشوارع القريبة من قصره، مما جرّأ ناشطًا كوريًّا في مطلع عام 1932 على محاولة اغتياله بقنبلة يدوية، لكنها لم تسفر عن أي أذى يذكر.
الحرب القاصمة
في أواخر عام 1936، اتفقت اليابان مع ألمانيا وإيطاليا على تشكيل “حلف مناهضة الكومنترن” لمنع تمدد الشيوعية الأممية، مما يعني بطبيعة الحال التصدي للاتحاد السوفياتي. وبعد ثلاث سنوات من التوترات والصراع على النفوذ بين القوى الكبرى، غزا الزعيم الألماني أدولف هتلر بولندا في سبتمبر/أيلول 1939، مطلقًا شرارة الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما انقسم الميدان إلى طرفين، أولهما “المحور” الذي ضم اليابان وألمانيا وإيطاليا، وهي دول تتطلع إلى أكبر قدر من التوسع لتعويض ما فاتها، والثاني يضم “الحلفاء” من الدول الاستعمارية -وعلى رأسها المملكة المتحدة وفرنسا- التي كانت قد بلغت ذروة توسعها، قبل أن تنضم إليها الولايات المتحدة لاحقًا.
نجحت اليابان خلال الحرب في احتلال ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وسنغافورة، كما وضعت يدها على حقول النفط الإندونيسية مما شكّل خسارة ثقيلة لبريطانيا وحلفائها، ثم جاءت الضربة القاصمة في أواخر 1941 بتجرّؤ اليابانيين على استهداف الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي، وهي الخطوة التي دفعت الولايات المتحدة إلى الخروج من عزلتها ودخول الحرب حتى رجحت الكفّة لصالح الحلفاء.
كانت الدعاية الإعلامية (البروباغندا) اليابانية تقدّم الإمبراطور للشعب في صورة الأب الحنون والمنتصر في كل المعارك برعاية الآلهة، وحتى انسحابات الجيش وخسائره المتتالية في عام 1944 كانت تُفسَّر على أنها نجاحات مرحلية على طريق “النصر المؤكد”، لكن الاستهداف الأميركي لسفن الشحن اليابانية واستمرار الغارات الجوية على المدن الرئيسية وتفاقم أزمة الغذاء والسكن كانت أمورًا كفيلة بإثارة غضب الشعب، فقرر الإمبراطور التضحية برئيس الوزراء هيديكي توجو وتعيين رئيسين آخرين للوزراء لمواصلة القتال، لكن الخسارة اليابانية في الحرب كانت تزداد وضوحًا مع مرور الوقت.
في منتصف 1944 بدأت القوات اليابانية تنفيذ أكثر مخططاتها مأساوية في الحرب، فبعدما أصبح حلم النصر أقرب إلى الاستحالة استعاد الضباط عقلية الساموراي وأعادوا بثها في عقول طياريهم من الشباب، لينطلقوا بطائراتهم الانتحارية تحت شعار “الموت بشرف” بهدف تدمير سفن الحلفاء. وهكذا بدأت ظاهرة “الكاميكازي” -أي الرياح الإلهية- التي استعادت أسطورة عاصفة أرسلتها أرواح الآلهة “كامي” على أساطيل المغول الغزاة في القرن الثالث عشر فدمّرتها، فأصبحت أرواح الشباب اليابانيين تُقدَّم فداءً لأرض الآلهة والإمبراطور الإله.
ضحّت اليابان بأكثر من 3900 طيّار من خيرة شبابها في هذه الظاهرة الانتحارية، وأن كل هجماتهم لم تسفر عن إغراق أي حاملة طائرات أو طرادات أو بوارج، إذ بلغت نسبة إغراق السفن التي تعرضت لهذه الهجمات حوالي 8%. مع أن القوات البحرية اليابانية نجحت في 1942 في إغراق أو تعطيل ثلاث حاملات طائرات أميركية من دون عمليات انتحارية.
في مطلع 1945 بدأ مستشارو الإمبراطور محاولة إقناعه بالتفاوض لإنهاء الحرب من دون جدوى، وفي شهر مايو/أيار استسلمت ألمانيا وانتحر هتلر، وكان الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني قد قُتل على يد الثوار قبله بأيام، فبقي هيروهيتو وحيدًا في الميدان، ومع ذلك أصر على القتال حتى آخر رجل، لكن استمرار الضغوط من داخل البلاط دفعته في شهر يونيو/حزيران إلى قبول التفاوض مع السوفيات على صيغة للسلام.
كان المجتمع الياباني في حالة تفكك غير مسبوقة، فثمة تهديدات بثورة شيوعية تطيح بالعرش الإمبراطوري، مقابل تهديدات أخرى من الشنتويين المتعصبين بالانتحار الجماعي وتفضيلهم للموت على عار الاستسلام، أما هيروهيتو فكان يشترط في كل مفاوضاته الحفاظ على نظام الحكم المسمى “كوكوتاي”، الذي يتضمن الحكم الإمبراطوري والدستور وهوية الدولة.
الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان ألقى خطابا بعد إسقاط القنبلة النووية الأولى على مدينة هيروشيما يهدد فيه اليابانيين بأن عدم استسلامهم سيعني دمارا لبلادهم لم يسبق له مثيل (الجزيرة)
في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة تخطط مع حلفائها لإطلاق “عملية أولمبيك” التي تتضمن عمليات إنزال ضخمة لغزو اليابان، مع توقعات بمقتل المزيد من ملايين البشر من كل الأطراف. وتمهيدًا للعملية، قُصفت العاصمة طوكيو بأطنان من القنابل الحارقة في شهر مارس/آذار، فقُتل خلال يومين نحو مئة ألف إنسان. وبحلول منتصف يونيو /حزيران كانت أكبر ست مدن في اليابان قد تحولت إلى ركام، ثم جاءت الضربة الموجعة في السادس من أغسطس/آب عندما ألقت الولايات المتحدة أول قنبلة نووية فوق مدينة هيروشيما.
مُحيت المدينة في غضون دقائق، وألقى الرئيس الأميركي هاري ترومان بيانًا تناقلته إذاعات العالم هدد فيه اليابانيين إذا لم يقبلوا شروط الحلفاء بسيل من الدمار لم يسبق له مثيل، ويليه غزو بحري وبري يجتاح البلاد. ومع ذلك، أصرت اليابان على مواصلة القتال، وحثت مواطنيها عبر الإذاعة على إخلاء المدن الكبرى مع إبلاغهم بأن هيروشيما قد دُمرت بالفعل بقنبلة واحدة. وفي منتصف ليلة التاسع من أغسطس/آب، شنت القوات السوفيتية عملية “الهجوم الإستراتيجي المنشوري” لانتزاع منشوريا، معلنة الحرب رسميًّا على اليابان، مع أن البلدين كانا ملتزمين باتفاقية للحياد طوال الحرب. وبعد بضع ساعات فقط، ألقت طائرة أميركية قنبلة نووية أخرى على مدينة ناغازاكي.
خلال الأيام الثلاثة التالية، كانت الولايات المتحدة تجهز قنبلة نووية أخرى للاستخدام، وكان من المقرر أن تُلقى فوق منطقة غير مأهولة بالمدنيين، كما كانت الخطة تقتضي تجهيز ثلاث قنابل أخرى في سبتمبر/أيلول وثلاثًا في أكتوبر/تشرين الأول، على أن تُطلق عملية أوليمبك لاجتياح اليابان في الشهر نفسه، لكن المسؤولين اليابانيين كانوا يواصلون اجتماعاتهم خلال هذه الأيام لتقرير صيغة الاستسلام. وفي الثاني عشر من أغسطس، أبلغ هيروهيتو العائلة الإمبراطورية بقراره بالاستسلام، وعندما سأله أحد الأمراء عما إذا كانت الحرب ستستمر إذا لم يقبل الأعداء الحفاظ على “الكوكوتاي” أجابه هيروهيتو: “بالطبع”، وكأنه كان مستعدًا للتضحية بمن تبقى من الشعب في سبيل الحفاظ على العرش ونظام الحكم.
وبعد يومين، ألقى هيروهيتو خطاب الاستسلام عبر الإذاعة، ولم يذكُر فيه كلمة “الاستسلام”، بل قال إنه قرر القبول بأحكام “الإعلان المشترك لدول التحالف”، موضحًا أن العدو بدأ استخدام قنبلة جديدة لا يمكن حساب قوتها، وأن الاستمرار في القتال لن يؤدي إلى انهيار الأمة اليابانية ومحوها فقط، بل أيضًا إلى الانقراض الكامل للحضارة الإنسانية. ونظرًا إلى رداءة البث واختيار الإمبراطور ألفاظه بلغة رسمية، التبس الأمر على الجماهير، فأعلنت الإذاعة بكل وضوح أن اليابان تقبل الاستسلام بلا قيد أو شرط.
وبعد خمسة أيام، ألقى هيروهيتو خطابًا للجنود، ولم يشر فيه إلى القنابل النووية، بل برّر الاستسلام بإعلان الحرب السوفياتي الذي وصفه بأنه “يعرّض وجود الإمبراطورية للخطر”.
تباينت ردود اليابانيين على قرار الاستسلام، فكانت هناك محاولة فاشلة للانقلاب، كما فضّل بعض ضباط الجيش والبحرية الانتحار على الطريقة الشنتوية لصعوبة قبولهم فكرة الاستسلام، وتجمّع حشد صغير من الناس أمام القصر الإمبراطوري للبكاء، بينما أخفى الكثير من الناس شعورهم بالفجيعة والغضب من ضياع كل التضحيات الهائلة التي قدموها سدى، إذ خرجت بلادهم من هذه الحرب في حالة دمار شامل، وخسرت كل مستعمراتها الخارجية، ولم تحقق أي مكاسب تُذكر. أما جماهير دول الحلفاء فاستقبلت نبأ استسلام اليابان باحتفالات ضخمة، ورُفعت صور ولافتات في شوارعها المدمّرة لتجسيد الانتصار، كما اعتُمد تاريخ 14 أغسطس/آب يومًا للاحتفال بذكرى الانتصار على اليابان في بعض الدول.
في 19 أغسطس/آب، توجه مسؤولون يابانيون إلى مانيلا للقاء القائد الأعلى لقوات التحالف الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر والاطلاع على خططه لاحتلال اليابان وفقًا لشروط الاستسلام. وفي 28 أغسطس/آب، بدأ الاحتلال الأميركي لليابان بالفعل، وبعد يومين وصل ماك آرثر إلى طوكيو وأصدر أوامره لأفراد قوات التحالف بعدم الاعتداء على الشعب الياباني، وأنه لا يُسمح لهم بالاقتراب من مصادر غذاء الشعب.
وفي صباح 2 سبتمبر/أيلول، شهد سطح السفينة الحربية الأميركية “يو إس إس ميسوري” (USS Missouri) الراسية في خليج طوكيو مراسم توقيع وزير الخارجية الياباني مامورو شيغميتسو وقائد الجيش الجنرال يوشيهيرو أوميزو على وثيقة الاستسلام، وذرف بعض الضباط اليابانيين الدموع وهم يراقبون المشهد بصمت.
مصير “الإمبراطور الإله”
أدار الجنرال الأميركي دفّة الحكم في اليابان طوال فترة الاحتلال نفّذ خلالها خطة تاريخية لإعادة تشكيل نظام الحكم وعقيدة الجيش وحتى عقلية الشعب نفسه
في 21 مايو/أيار 1945، أي قبل ثلاثة أشهر من استسلام اليابان، وحتى قبل الكشف عن اختراع القنبلة النووية، نشرت مجلة تايم الأميركية الشهيرة مقالًا عن “الإمبراطور الإله” وعرضت فيه النقاش الذي كان دائرًا آنذاك بين الحلفاء بشأن مصير هيروهيتو بعد “انتصارهم الحتمي على اليابان”. وجاء في المقال أن الحلفاء لم يصلوا إلى إجماع بعد في هذا الملف، فالصحافة الصينية تطالب بإعدامه وعرض جثته في العاصمة الصينية، بينما اقترح القائم بأعمال رئيس الوزراء الصيني تي في سونغ قتل الإمبراطور بقصف جوي للتهرب من مسؤولية محاكمته لاحقًا، لكن النقاش بين الحلفاء كان يدور بين رأيين: أولهما هو الذي كانت تميل إليه واشنطن وهو الحفاظ على مكانة “الإمبراطور الإله” كي لا يتفكك المجتمع الياباني الذي يراه إلهًا بالفعل، وأنه لابد من استخدام مؤسسة الإمبراطور نفسها لتحويل هذا البلد بهدوء إلى دولة مسالمة وغير شمولية. أما الرأي الثاني فكان يرى استحالة استخدام الإمبراطور لتعزيز الديمقراطية، فحتى لو أصدر “مرسومًا إلهيًّا” لإجبار شعبه على الديمقراطية فلن يستطيع سد الفجوة بين الليبرالية الغربية والشمولية الشنتوية، ولا بد من تدمير نظام “الكوكوتاي” كما دُمر الرايخ الذي كان يحكمه هتلر.
ويبدو أن ما حدث بعد بضعة أشهر من نشر المقال هو اعتماد الحلفاء بقيادة واشنطن خطة ذكية لترويض اليابان، وذلك بتبني الرأي الأول وعدم إهمال الثاني. إذ تضمنت خطة ماك آرثر -الذي أصبح الحاكم الفعلي لليابان- الإبقاء على الإمبراطور ولكن مع انتزاع ألوهيته.
في صباح 27 سبتمبر/أيلول 1945، وصل هيروهيتو بسيارة من طراز رولز رويس إلى مقر سفارة الولايات المتحدة في طوكيو، واستقبله ماك آرثر قائلًا: “أنت مرحب بك للغاية، للغاية، يا سيدي”، ثم أجريا محادثات سرية في غرفة خاصة لمدة أربعين دقيقة، وتسرّب لاحقًا أن الإمبراطور عرض استعداده التام لتحمّل المسؤولية الكاملة عن كل قرارات اليابان خلال الحرب، وهو الأمر الذي قال عنه ماك آرثر في مذكراته إنه أثار إعجابه الشديد، واصفًا شعوره بأنه يواجه رجلًا نبيلًا. وقد أكّد ماك آرثر للإمبراطور أنه أزال اسمه من قائمة مجرمي الحرب الذين سيتعرّضون للمحاكمة، بالرغم من اعتراضات الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين والبريطانيين على إعفاء هيروهيتو من المسؤولية. كما تبادل الرجلان خلال اللقاء عبارات الاحترام والتأكيد على التعاون لتجاوز الماضي، وتسهيل حياة الشعب الياباني.
وبعد اللقاء التُقطت صورة تاريخية للرجلين، وكان أثرها في الرأي العام الياباني هائلًا، إذ رأى الشعب لأول مرة الإمبراطور في هيئة رجل عادي حاسر الرأس وبملابس رسمية غربية، والجنرال الأميركي يقف بجانبه في وضعية غير رسمية واضعًا يديه على خاصرته ويطغى على “الإمبراطور الإله” بطوله الفارع. ومع أن الحكومة اليابانية حظرت على الفور نشر الصورة بحجة أنها تضر بالهيبة الإمبراطورية، فإن ماك آرثر -الذي كان الحاكم الفعلي لليابان- أمر جميع الصحف اليابانية بنشرها مع كل ما تحمله من رسائل واضحة إلى الشعب.
وقبل نشر تلك الصورة، كان من النادر ظهور الإمبراطور في الأماكن العامة، كما كان يلتزم الصمت دائمًا، وإذا التُقطت له صور نادرة فكان البلاط حريصًا على التقاطها من زوايا معينة ليبدو أطول مما هو عليه، إذ كان طوله الحقيقي 165 سنتيمترًا فقط، لكن الملابس الإمبراطورية كانت تُكسبه المزيد من الهيبة، وتمنحه القبّعات الطويلة طولًا إضافيًّا، وهي أمور لم تتوفر عندما التقط له الصورة مصوّر أميركي في حضرة ماك آرثر.
أدار الجنرال الأميركي دفّة الحكم في اليابان طوال فترة الاحتلال من عام 1945 إلى عام 1952، ونفّذ خلالها خطة تاريخية لإعادة تشكيل نظام الحكم وعقيدة الجيش وحتى عقلية الشعب نفسه، بما يضمن عدم تمرّد اليابان مجددًا وتهديد جيرانها، فضلًا عن تهديد الولايات المتحدة ومصالحها وحلفائها.
وكانت أول خطوة في “الإصلاحات” الأميركية إصدار ماك آرثر قرارًا في 15 ديسمبر/كانون الأول 1945 بإلغاء اعتماد الشنتوية دينًا رسميًّا لليابان، ثم الضغط على هيروهيتو ليقدّم بعد أسبوعين إلى شعبه اعترافًا تاريخيًّا ينقض فيه أسطورة الألوهية التي توارثها اليابانيون منذ 1500 سنة على الأقل. ففي اليوم الأول من عام 1946، أصدر الإمبراطور بيانًا بمناسبة العام الميلادي الجديد، وجاء فيه أنه من الخطأ اعتبار الإمبراطور سليل الآلهة وأن الشعب الياباني متفوق على الأجناس الأخرى ومقدّر له أن يحكم العالم. ونشرت جميع الصحف البيان من دون التوقف عند هذه الجملة، لكن المصادر الغربية أطلقت على البيان “إعلان الإنسانية”، كما أعلن ماك آرثر على الفور أنه مسرور للغاية بالبيان معتبرًا أنه يؤكد التزام الإمبراطور بقيادة شعبه في عملية التحول الديمقراطي، لكن القوميين الشنتويين في اليابان يصرّون حتى الآن أن هيروهيتو لم ينفِ عن نفسه الألوهية، ويعتبرون أن الغرب أساء ترجمة كلماته وفهمها.
وإلى جانب هذا الجدل، ثمة نقاش مستمر حتى اليوم بشأن مسؤولية هيروهيتو عن حروب بلاده، وتحديدًا عن المجازر التي ارتكبتها قواته في الصين وكوريا، إذ تقول بعض المصادر إنه كان مترددًا في الانضمام إلى الحرب العالمية الثانية عند اندلاعها، كما تردد في الموافقة على ضرب ميناء بيرل هاربر، ويذكر البعض أن تدفق المعلومات إلى القصر أخذ يتقلص تدريجيًّا مع تحوّل مجرى الحرب ضد اليابان والمحور في أواخر عام 1942.
وقد حرصت إدارة ماك آرثر على تقديم الإمبراطور بعد استسلامه في صورة رئيس صوري لتبرئته أمام الرأي العام، وتقديم قادته العسكريين للمحاكمة باعتبارهم المسؤولين المباشرين عن مجريات الحرب. لكن معظم المؤرخين يعتبرون أن هذه الخطوة كانت مجرد إجراء سياسي ضمن خطة الإصلاح الأميركية، وأن هيروهيتو كان مسؤولًا مباشرًا عن القرارات العسكرية، وأنه ظل يتابع مجريات الأحداث عن كثب مع كبار المسؤولين حتى يوم الاستسلام. وفي عام 2021، نُشرت مذكرات سابورو هياكوتاكي الحاجب الأكبر للإمبراطور هيروهيتو خلال الحرب، وجاء فيها أن هيروهيتو كان أكثر جموحًا من مستشاريه في القرارات العسكرية.
كان الدستور الجديد هو الخطوة الأهم في “إصلاحات” ماك آرثر، فبعد مداولات عدة، اعتمد البرلمان الياباني -تحت الاحتلال الأميركي- الدستور بمنتصف عام 1947، ومن أهم بنوده نزع سلطة الإمبراطور ليقتصر دوره على كونه “رمزًا للدولة ووحدة الشعب الياباني”، وذلك للحيلولة دون عودة النزعة العسكرية.
في سبتمبر/أيلول 1971، قام هيروهيتو بزيارة قصيرة للولايات المتحدة، والتقى الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون في قاعدة عسكرية بولاية ألاسكا، ثم أكمل الإمبراطور جولته في الدول الأوروبية التي كان يحاربها قبل ثلاثة عقود. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1975 قام الإمبراطور بجولة لمدة أسبوعين كاملين في أنحاء الولايات المتحدة، التقى خلالها الرئيس جيرالد فورد في البيت الأبيض، ثم زار عدة معالم تاريخية بأنحاء البلاد، وأبدى اهتمامًا خاصًّا بزيارة مؤسسات متخصصة في علوم البحار. وكانت إحدى المحطات البارزة في جولته تناول الشاي مع أرملة الجنرال ماك آرثر -الذي توفي عام 1964- في نيويورك.
عاش هيروهيتو طويلًا ليكون شاهدًا على عصر جديد، فبعدما كان من أهم اللاعبين في “لعبة” الحرب العالمية قُدّر له أن يتأخر خطوات إلى الوراء ويكتفي بمراقبة النتائج، إذ أقيمت سلسلة “محاكمات طوكيو” و”محاكمات خاباروفسك” ومحاكمات أخرى لمعاقبة مجرمي الحرب اليابانيين، ورأى الإمبراطور رؤساء حكوماته السابقة وقادة جيشه ومئات الضباط يُساقون منها إلى الإعدام، وعندما قضى مئات الضباط بقية حياتهم في السجون ظل الإمبراطور آمنًا في قصره. كما كان يراقب بصمت ما فعله الأميركيون من تغيير هائل في ثقافة شعبه، وكيف انتزعوا من عقول الشعب في غضون سنوات قليلة ما زرعه جدّه الإمبراطور ميجي من نزعة استعمارية، بل ما زرعه الأسلاف طوال قرون من عقيدة الاصطفاء والاستعلاء على بقية الأمم.
في مذكراته التي نشرت عام 2018، كتب شينوبو كوباياشي، الذي كان حاجب الإمبراطور في أيامه الأخيرة، أن هيروهيتو قال له وهو في سن الخامسة والثمانين إنه فقدَ الرغبة في الحياة كي لا يسمع المزيد من “الأمور المؤلمة”، وإنه سمع من أقاربه ومن أخيه الأمير تاكاماتسو الذي توفي للتو أنهم يحمّلونه مسؤولية الحرب. لكن الحاجب حاول إزاحة هذا العبء عن قلب الإمبراطور العجوز بلفت نظره إلى ما حققته اليابان من إنجازات كبيرة في إعادة البناء، وقد كان محقًّا بالنظر إلى المعجزة الاقتصادية التي شهدتها البلاد بدءًا من الستينيات، حتى كادت تسبق الولايات المتحدة ودول أوروبا -التي انتصرت على اليابان في الحرب- في مجالات التصنيع والتكنولوجيا.
استمر جلوس هيروهيتو على عرشه الرمزي حتى وفاته متأثرًا بالسرطان يوم 7 يناير/كانون الثاني 1989، عن عمر يناهز 87 عامًا، ليصبح الإمبراطور الأكبر سنًّا والأطول حكمًا في تاريخ بلاده، وأطول الملوك حكمًا في العالم في ذلك الوقت، وأقيمت له جنازة رسمية ولكن بدون المراسم الشنتوية التقليدية. وفي خطاب تأبينه، كرر رئيس الوزراء آنذاك نوبورو تاكيشيتا نظرية براءة الإمبراطور، وقال إن الحرب اندلعت ضد رغبته، وهو تصريح أثار غضبًا في عدة دول أوروبية وآسيوية وعلى رأسها الصين.
ولعل أصدق تحليل لشخصية هيروهيتو نجده في رسالة أرسلها السفير السابق للمملكة المتحدة في اليابان جون وايتهايد إلى وزارة خارجية بلاده عند تشييع جنازة الإمبراطور، ورُفعت السرية عنها عام 2017، وجاء فيها أن شخصية هيروهيتو لم تكن مناسبة للدور الذي كلّفه به القدر، وأن البلاط كان يتوق إلى ملك محارب يتمتع بالكاريزما لخلافة جده الإمبراطور ميجي، ولكن هيروهيتو كان أميرًا منعزلًا مهتمًّا بمختبر البيولوجيا أكثر من ساحة العرض العسكري، لذا بذل البلاط في سنوات حكمه الأولى كل الجهود لإعادة تشكيله في قالب مختلف، ولو كان يتمتع بشخصية أقوى من البداية لتمكن من كبح جماح النفوذ المتزايد للجيش، لكنه كان “عاجزًا”، ولو أنه أصرّ على سياسة سلمية غير توسعية لكان من الممكن استبداله بشخص آخر من العائلة المالكة ليحقق أطماع العسكر.
وفي هذا التحليل المقتضب ما يوجز الكثير من دروس التاريخ، فالزعيم الضعيف إذا كان محاطًا بأوليغارشية عسكرية مهووسة بالحرب قد يتحول إلى وحش لا يقل خطورة عن دكتاتور قوي يرمي بجيشه وشعبه في محرقة الحرب، وإذا كان النوع الثاني يتمثل في هتلر وموسوليني فقد كان حليفهما هيروهيتو خير مثال للنوع الأول، وربما كان هاجسه طوال سنوات الحرب هو إثبات جدارته لاستحقاق الألوهية نفسها، وهو ما لم يحلم حليفاه بالحصول عليه.