باتريك سيل * بعث مقتل أسامة بن لادن في الأوّل من شهر أيار (مايو) الجاري على يد فريق من قوات البحرية الأميركية «سيلز» رسالة قاسية إلى العالم مفادها أنّ تصفية أعداء أميركا تتقدّم على أيّ اعتبار أخلاقي أو قانون دولي. لقد تمّ تعقّب مؤسس تنظيم «القاعدة» وتصفيته مهما استغرق ذلك من الوقت ومهما كلّف الثمن لأنه تجرأ على شنّ اعتداء على الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتبرته عملاً إجرامياً بامتياز يمسّ بسلطة دولة ذات سيادة. فالقوة هي الحقّ. ستتنبه الحكومات الأخرى إلى المثال الذي أرسته أميركا وقد يحتذي به الفاعلون من غير الدول إلى جانب المواطنين الغاضبين. فلا يملك الأميركيون وحدهم مصالح وطنية وشكاوى شرعية وأعداء يرغبون في تصفيتهم. إذ إنّ الآخرين يطالبون أيضاً بحق الدفاع عن النفس وتجاوز القيود القانونية أو الأخلاقية. فإسرائيل تتصرّف على هذا النحو منذ عقود. إذ اعتمدت سياسة مدروسة تقوم على شنّ عمليات قتل متعددة خارج الشرعية القضائية ضد أعدائها السياسيين، ويبدو أنها لا تبالي بخرق سيادة الدول الأخرى. لقد نقل المحامي الأميركي جون ويتبك أخيراً في مدوّنة على شبكة الإنترنت عن الجنرال شاؤول موفاز الرئيس السابق لهيئة الأركان الإسرائيلية والمعروف باعتماده التكتيكات القاسية قوله إنّ الفضل في اعتماد أميركا استراتيجية الاغتيال يعود إليه. ويشغل موفاز حالياً منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي. إذا كان بوسع الدول اللجوء إلى الإرهاب والإفلات من العقاب من أجل قتل أعدائها، فيجب أن يستعدّ الزعماء السياسيون لمواجهة «العدالة» القاسية نفسها التي يطبقها بحقهم أتباع ضحاياهم أو أصدقاؤهم أو أقرباؤهم. ماذا لو قرّر مثلاً أعضاء من حزب «البعث» العراقي الذين يسعون إلى الانتقام من محاولات تدمير حزبهم وجيشهم وبلدهم تعقّب جورج بوش الابن وتوني بلير و «مهندس» حرب العراق المحافظ الجديد بول وولفوفيتز وقتلهم؟ هل يعدّ ذلك إرهاباً أم عدالة؟ ماذا لو قرّر زعيم في قبيلة «الباشتون» قتل مدير وكالة الاستخبارات الأميركية بسبب الاعتداءات التي تشنها الطائرات من دون طيار والتي تسببت بمقتل مئات بل آلاف المدنيين في المناطق القبلية في باكستان؟ هل يعدّ ذلك إرهاباً أم عدالة؟ ألم يكن سيتمّ احترام أميركا لو أنها اعتمدت سيادة القانون في مدينة آبوت آباد بدلاً من اللجوء إلى شريعة الغاب؟ على رغم مأسوية المصير الذي لقيه ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف شخص، إلا أن الحزن ليس واجباً عليهم وحدهم. ففي إطار السعي إلى معاقبة تنظيم «القاعدة» بقيادة بن لادن بسبب الاعتداء على أرض أميركا، شنّت الولايات المتحدة حروباً على أفغانستان والعراق وباكستان، متسببة بمقتل ملايين الأشخاص، ناهيك عن سقوط جرحى ومشردين وتحطيم حياة الكثيرين نتيجة الضرر الكبير والدمار المادي الناتجين عن هذه النزاعات. فالذين سقطوا ضحية هذه الحروب المضللة يدعون من قبورهم للثأر، سواء كانوا من العراقيين أو الباكستانيين أو الأفغان. وكما أعطى أسلوب التعذيب الذي اعتمدته أميركا ضد «المحاربين غير القانونيين» في العراق وفي أنحاء أخرى صكاً على بياض للطغاة العرب وللآخرين لتعذيب مواطنيهم، فسيشجع مقتل عدوّ أميركا الأول الآخرين على اللجوء إلى الوسائل غير القانونية نفسها. ويبدو أنه تمّ إطلاق النار على بن لادن وقتله أمام عائلته. فقد شاهدت ابنته البالغة اثنتي عشرة سنة عملية قتله. وأصيبت زوجته في ساقها فيما قُتلت امرأة أخرى. لم يختبئ بن لادن خلفهم ولم يستخدمهم كدروع بشرية. فهو لم يكن مسلحاً. تمّ الخوف من بن لادن وكرهه لأنه إرهابي، وسيعتبر عدد كبير من الأشخاص الطريقة التي قتل بها أنها مجرد عملية اغتيال بحتة. ماذا لو قامت القوات الخاصة الأميركية بمحاصرة منزل بن لادن حين اكتشفت المكان الذي كان يختبئ فيه وطلبت من السلطات الباكستانية إلقاء القبض عليه وتسليمه إلى المحكمة؟ لو تصرفت أميركا بهذه الطريقة لما كانت خرقت سيادة باكستان وأحرجت الجيش وأجهزة الاستخبارات الباكستانية والرأي العام في ذلك البلد. لقد وصف المسؤولون الباكستانيون المداهمة الأميركية على أنها «غير مقبولة وأحادية الجانب» فيما حذّر الجيش من أنّ تكرار أي عملية من هذا القبيل من شأنه أن يؤثر في العلاقات مع الولايات المتحدة. ومن المرجح أن تقلّص باكستان حالياً تعاونها مع الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، إلى جانب السعي إلى تعزيز روابطها بالصين. كما ستستمر في تأييد الجماعات الجهادية الأفغانية حتى يكون لها حلفاء هناك للدفاع عن قضيتها ضد الهند، بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. لقد صبّ الرئيس الأميركي باراك أوباما جهوده وخصّص وقتاً كبيراً لاغتيال بن لادن معتبراً أنه يستحق العناء. وادعى أنّ الفضل في إعطاء الأمر لوكالة الاستخبارات الأميركية للعثور على بن لادن يعود إليه شخصياً. وقيل لنا إن أوباما هو الذي اتخذ قرار مهاجمة المجمّع الذي كان بن لادن يقطن فيه. كما تابع عملية الاغتيال وقت تنفيذها وتمّ التصفيق له بشدّة بعد وصول خبر نجاحها. وزار أوباما منطقة «غراوند زيرو» حيث كان موقع برجي مركز التجارة العالمي، وهنّأ رجال الإطفائية ومنح قوات البحرية «سيلز» الأوسمة. وقد تعزّزت شعبيته وفرص إعادة انتخابه. يترتب على أوباما الآن أن يقايض مقتل بن لادن باستخدام نفوذه الجديد لتحقيق أغراض طيبة. يجب أن يعلن انسحاباً مبكراً للقوات الأميركية من أفغانستان وأن يدعو إلى وقف الهجمات التي تشنها الطائرات من دون طيار في اليمن وباكستان وأن يطلب من الصين وروسيا وباكستان وإيران تشكيل مجموعة اتصال أفغانية لرعاية المفاوضات الملحة بين حكومة حميد كرزاي وحركة «طالبان» لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وسيكون من مصلحة أميركا سياسياً ومالياً أن تقلّص وجودها العسكري في العالم العربي. فلا جدوى كبيرة من قواعدها الكثيرة المنتشرة في الخليج في شكل خاص، إذ إنها تساهم في مفاقمة التوترات المحلية لا سيما بين العرب وإيران. وفوق كل ذلك، إذا كانت الولايات المتحدة تريد استعادة مكانتها في العالم العربي والإسلامي، يجدر بأوباما أن يتحلى بالشجاعة للوقوف في وجه حكومة إسرائيل اليمينية وأصدقائها الأميركيين الكثر و «اللوبيات» المناصرة لها. وسيزور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو واشنطن في نهاية هذا الشهر. فقد تمت دعوته لإلقاء خطاب أمام جلسة مشتركة للكونغرس. وهذه فرصة لأوباما ليعلن أمامه بوضوح أنّ أميركا ستستخدم تأثيرها ونفوذها من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية، تعيش في سلام وأمن جنباً إلى جنب مع إسرائيل. يعلم الرئيس الأميركي جيّداً ما يجب عليه أن يفعله. وينبغي أن يكون مستعداً لاستخدام رأس ماله السياسي الجديد لسحب السمّ من النزاع الذي تسبب بوقوع الكثير من الضحايا وأضرّ بالعالم على مدى أكثر من ستة عقود. فقد أدى إخفاق أميركا في بلوغ هذا الهدف إلى ظهور بن لادن وأتباعه في هذا العالم. |